الإصبع الدامية .. رسالة من بريد الجمعة عام 2000

الإصبع الدامية .. رسالة من بريد الجمعة عام 2000 

الإصبع الدامية .. رسالة من بريد الجمعة عام 2000


أنا سيدة تزوجت قبل أن أنتهي من دراستي الجامعية‏,‏ وأنجبت ابني الأكبر قبل التخرج‏,‏ وتفرغت لأسرتي ولم أعمل‏..‏ وعلاقاتي الاجتماعية محدودة‏,‏ حيث يرفض زوجي أن تكون لنا أية علاقات خارج نطاق الأهل‏.‏
ومشكلتي تبدو غريبة‏,‏ لكني وجدت لها مثيلات لدى بعض الأسر ووجدت الجميع يتجاهلونها لأنها تبدو بسيطة ولا تضر أحدا‏,‏ والمشكلة هي أن ابني الذي يبلغ من العمر‏19‏ عاما وطالب في بداية مرحلته الجامعية مازال حتى الآن يضع إصبعه في فمه ويقرض أظافره بأسنانه‏..‏ وحيث أنه ليست له أظافر ظاهرة من كثرة قرضها فإنه يضع إصبعه في فمه ويقرضها فلا يدعها حتى تنزف دما‏.‏

 

وهو شاب مهذب على خلق ومستقيم ويؤدي كل الفرائض الدينية في أوقاتها ومحبوب من كل الأهل‏,‏ وإن لم يكن له سوى صديق واحد‏,‏ لكنه مازال يضع أصبعه في فمه ويدميها في هذه السن‏,‏ وأبوه لا يكف عن نهره عن فعل ذلك‏..‏ فلا يستطيع أن يكف عن ذلك وغاية ما نجح فيه هو أن يعض إصبعا واحدة لبعض الوقت ويفرح بذلك ثم لا يلبث أن يرجع إلى سابق عهده‏.‏

لقد قرأت في هذه المشكلة أنها تعكس بعض مظاهر الشعور بعدم الأمان‏.‏ وتعجبت لذلك إذ كيف يشعر بعدم الأمان وأنا لم أدعه يوما يبتعد عني وأهتم بكل شئونه ودروسه‏.‏
لقد كان وهو صغير يتمسك بأن يرتدي بنطلونا بعينه لعدة أسابيع ويفضل نوعا محددا من القماش‏,‏ وسمعت أيضا أن ذلك يعكس شعورا بعدم الأمان‏..‏ فمن أين يجيئه هذا الشعور‏.‏
إنني أشعر بأنني أم فاشلة كلما رأيت ابني يضع إصبعه في فمه ويتكرر هذا المشهد أمامي مرات في اليوم الواحد وأخاف أن يسألني الله سبحانه وتعالى عن أي تقصير أكون قد ارتكبته في حقه خاصة أنه ليس من المتفوقين في دراسته‏..‏ وأنا أجد في رسائلك دائما إشادة بالأمهات اللاتي يتفوق أبناؤهن‏..‏ فهل للأم دور كبير في تفوق الأبناء أم أنه استعداد من الأهل لدى الطفل‏..‏ وكيف أساعد ابني على التخلص من هذه العادة السيئة والكف عن وضع إصبعه في فمه؟‏!.‏

ولكاتبة هذه الرسالة أقول‏:‏

هناك فارق بين وضع الأصبع في الفم بهدف امتصاصها والاستنامة لذلك بعض الوقت‏,‏ وبين وضعها في الفم بهدف قرض الأظافر‏..‏ فهي في الحالة الأولى تعكس نوعا من الرغبة في استعادة إحساس الأمان الذي كان يستشعره المرء وهو طفل صغير يرضع ثدي أمه‏,‏ والرغبة في الالتصاق بالأم واستمداد الحنان منها‏,‏ أما في الحالة الثانية فإنها قد تعكس نوعا من الإحساس بالقلق النفسي المزمن‏.‏
واستمرار هذه العادة مع ابنك حتى سن الشباب قد نجد لها تفسيرا مكملا فيما يسميه العلماء بنزعه جبر التكرار‏,‏ وهي نزعة في العقل البشري تدفع الإنسان أحيانا إلى تكرار فعل معين بالرغم من إدراكه الكامل لما فيه من إضرار بنفسه‏,‏ وبهذه النزعة يفسرون الإدمان وبعض أنواع السلوك المتكرر الذي يرغب صاحبه بصدق في الكف عنه لكنه يجد نفسه يكرره رغما عنه‏.‏

والرعاية الزائدة على الحدود المعتدلة من الأم لابنها‏..‏ قد تؤدي إلى تعويده على الاعتماد المرضي عليها والتماس الحماية منها‏.‏ والحماية الزائدة للأبناء لا تعينهم على الاعتماد على أنفسهم ولا على أن يتدربوا على مواجهة الحياة‏..‏ والتعامل المستقل مع تحدياتها واختباراتها‏.‏


وفي تقديري أن ابنك الشاب يحتاج إلى أن تكون له مساحة أوسع من حرية الحركة خارج نطاق الأسرة‏..‏ وإلى اكتساب صداقات جديدة مأمونة وعلاقات اجتماعية أكثر اتساعا لكي تزداد قدرته على الاعتماد علي النفس والتخلص من القلق‏.‏
أما التفوق الدراسي فإنه ليس مسئولية الأمهات وحدهن يا سيدتي فهناك عوامل عديدة تصنعه أولها الاستعداد الدراسي لدى الطفل ومعدل ذكائه ومدى قدرته على الاستيعاب والدرس إلى جانب توافر الظروف الملائمة للتعليم‏..‏ ثم الظروف الأسرية التي تقوم فيها الأم بدورها المعروف‏,‏ ولكل إنسان في النهاية قدراته التي لا يستطيع تجاوزها‏,‏ وليس من العدل أن نطالب كل الأبناء بما لم تؤهل بعضهم له قدراتهم‏..‏ ولا يستطيعون بلوغه حتى لو وفرنا لهم كل عوامل التفوق والنبوغ‏.‏


وعلى أية حال فإن نسيان مشكلة إصبع ابنك الدامية قد يسهل عليه التخلص منها تدريجيا مع الوقت‏..‏ لأن الاستنكار الدائم لهذه العادة القهرية لديه ونهيه عنها يزيد من إحساسه بالمشكلة نفسها ومن تنبيه وعيه بها‏..‏ وينشط نزعة جبر التكرار لا إراديا لديه فضلا عما يثيره نهره عنها لديه من تنبيه إحساسه بالقلق لشعوره انه يغضب أبويه بهذه العادة التي لا يستطيع لها الآن على الأقل دفعا‏.‏
لهذا كله فإن تجاهل هذه المشكلة من جانبك ومن جانب أبيه لبعض الوقت مع استشارة الطبيب النفسي قد يساعدان كثيرا ابنك الشاب على التغلب عليها‏.

 ·       نشرت في جريدة الأهرام "باب بريد الجمعة" عام 2000

راجعها وأعدها للنشر / نيفين علي


Neveen Ali
Neveen Ali
كل ما تقدمه يعود إليك فاملأ كأسك اليوم بما تريد أن تشربه غداً
تعليقات