موظفة قطاع خاص .. رسالة من بريد الجمعة عام 1984
أنا يا سيدي فتاة
عمري 25 سنة, وأنا أكبر إخوتي إذ إننا ثماني بنات وأبناء, أمي سيدة طيبة فيها
ملامح الأمهات الطيبات المغلوبات على أمرهن غالبا .. وأبي رجل ميسور الحال لكنه
كبعض الرجال مشغول بذاته عنا, وقد تزوج أمي منذ 28 عاماّ, ومضت رحلة حياتهما
بأيامها السعيدة وأيامها التعيسة .. لكن الخطر البارز في هذه الحياة كما وعيت
واستطعت أن أدرك وأفهم هو أنانية الأب الذي لا يريد أن يضحي بشئ من راحته أو
رفاهيته لأبنائه وأعذرني في هذا القول فما أقاسيه يجبرني على ذلك, فككل الأزواج
كانت هناك خلافات عادية بين أمي وأبي وكانت تهدأ أحيانا .. وتنفجر في أحيان أخرى
لكن منذ 3 سنوات تصاعدت حدة هذه الخلافات, فماذا تظن أن أبي قد صنع إزاء هذا
الموقف؟
لقد هجرنا ببساطة تاركا وراءه هذه الأسرة كبيرة
العدد بلا مال وبلا نفقة أو مبلغ شهري نتعيش منه, وكلنا طلبة وطالبات في مراحل
التعليم ثم ذهب ليبحث عن زوجة جديدة لكي تعيد إليه شبابه الذي أضاعه بيننا, قد
تقول أنها كارثة, لكنها تحدث أحيانا وهي كذلك فعلا, لكنها كانت أكثر من كارثة لأن
أبي سامحه الله تركنا دون أن يفكر لحظة واحدة كيف سنكمل تعليمنا؟ ومن أين سنأكل
وكيف سندفع إيجار الشقة؟ إلخ
ولن أروي لك تفاصيل حياتنا في الشهور الأولى
لهجرته لنا وسأقفز فوق هذا الفصل الحزين لكي أقول لك إنني حصلت على شهادتي
الجامعية بعد هجره لنا بشهور, وكان عبثا بالطبع أن أنتظر تعيين القوي العاملة لأن
أفواه إخوتي لن تنتظر خطاب التعيين, فخرجت للعمل في القطاع الخاص ووفقني الله في
العمل في إحدى الشركات براتب مجز .. وأنا منذ 3 سنوات أعمل لمدة 14 ساعة كل يوم
لكي أستطيع أن أفي بنفقات هذه الأسرة الكبيرة بعد أن عاهدت نفسي أن أعول أسرتي
جميعا, إلى أن ينهوا دراستهم والحياة تمضي صعبة أحيانا وهينة أحيانا لكن تزداد
قسوتها حين أتذكر أبي المنصرف عنا مع زوجته الجديدة دون أن يفكر لحظة في 8 أبناء, وهو
القادر الميسور أو حين أتعرض لمضايقات أخي الأصغر الذي أتم تعليمه منذ عامين ومع
ذلك مازال عاله عليّ ولا يريد أن يعمل, وقد أنفقت عليه في العامين الأخيرين له في
الدراسة وفي فترة الجيش وانتهى التجنيد, لكنه لا يريد أن يعمل, إلا عملا لائقا به.
ويفضل أن يبتزني فإذا رفضت أن أعطيه النقود لأن البيت في أشد الحاجة إليه سبني
وأهانني وهو لا يعنيه أن يجوع أخوته لكي يذهب هو إلى النادي ويسهر مع أصدقائه فيه.
ورغم كل ذلك فأنا
لا أشكو لأحد من حياتي بل لعلي أشعر في أعماقي بالفخر, لأني دفعت عن أسرتي الجوع
والعوز والبهدلة والاحتياج للاقتراض والحمد لله فإننا منذ هجرنا أبي لم نحتج لأحد
بفضل عملي وستسألني ماذا أريد إذا؟
وسأقول لك أولا .. إنني لا أريد شيئا ولا أطلب
مساعدة ولا عونا من أحد, ولن أقبل ذلك أبداّ لكني أريد شيئا آخر سأؤجله إلى حين
بعد أن أصل بك إلى المشكلة.
المشكلة أن صاحب
الشركة الخاصة التي أعمل بها وأتقاضى منها الراتب المجزي الذي يعول هذه الأسرة
الكبيرة كان يعاملني في البداية برفق وبطيبة زائدة, وكنت شديدة الامتنان له لذلك
وأعتبره تقديرا إنسانيا منه لظروفي الخاصة ومسئوليتي, ولكن بعد مرور الأيام وخصوصا
في الأيام الأخيرة ظهرت النوايا واضحة فهو بصراحة تامة يريدني رغم أنه زوج وأب
لبنت وثلاثة أولاد هل تعرف معنى هذه الكلمة؟ إني واثقة من خبرتك بالحياة لكني
سأسألك سؤالا أكثر صراحة هل تعرف ماذا يعني رفضي رغبته رفضا نهائيا ؟
إنني أيضا واثقة من خبرتك بالحياة وبالعمل في بعض مواقع العمل الخاص التي يكون مصير إنسانه فيها مثلي وأسرة من ورائها معلقة بكلمة من فم صاحب العمل, لكني سأزيدك أيضا خبرة بهذه المشكلة.
ولكاتبة هذه الرسالة أقول:
إنك يا صديقتي
فعلا في محنة أعرف جيدا حجم أبعادها وأعرف جيدا مدى جدية التهديد الذي يهددك بفقد
هذا العمل, لكني غير قلق عليك لأني واثق من أنك لن تسلمي نفسك أبدا للضياع.
فمن تنهض لتحمل
مسئولية أسرة كبيرة العدد مثلك بلا ضجر ولا سخط على الحياة وعلى الأسرة نفسها ومن
تعمل 14 ساعة يوميا لتعولها وتعاهد نفسها بأن تعول إخوتها جميعا حتى يتخرجوا في
المدارس والجامعات وتفخر بذلك وتنكر ذاتها في سبيل أسرتها, مثل هذه الشخصية لا
يخشى عليها الإنسان من الضعف أمام العبث أو من الاستجابة لنزوة صاحب عمل, أو بيع
نفسها بثمن بخس فأنت فتاة جادة شريفة يا صديقتي والفتاة الجادة لا تسلك هذا السبيل
السهل مهما كانت المغريات, لذلك فإني شديد الثقة بك على غير معرفة وستثبت الأيام
صدق ظني فيك إذن فهذه ليست القضية, وإنما القضية هي كيف تحافظين على عملك دون أن
تخسري نفسك وفي هذا المجال فإني أتوقع شيئين إما أن ييأس منك صاحب العمل مع تأكده
من جدية أخلاقك وجدية عملك وإحساسه بظروفك وحجم مسئولياتك فيعفيك من مطالبه, ويبقي
عليك وهو احتمال ليس ببعيدا خاصة إذا شرحت له بأدب ودون إيلامه ظروفك العائلية
وتمسكك بألا تخسري نفسك مهما حدث, ورغبتك مع هذا في الاستمرار في العمل فقد يستيقظ
ضميره ويدعك لشأنك ولا يخلو إنسان مهما بدا من تصرفاته من جانب إنساني خير في
أعماقه ينتصر أحيانا.
أما الشئ الثاني
فهو أن يستمر في غيه وأن ينتصر جانب الشر فيه فلا يترك لك مجالا للاختيار وسيكون
اختيارك بالتأكيد لدينك ولكرامتك وشرفك ومستقبلك وفي هذه الحالة سوف أسألك من أين
جئت باليقين أنك لن تجدي عملا مجزيا مثله إذا تركت هذا العمل ؟ كيف تأكدت من ذلك
قبل وقوعه ؟ إننا لا نعرف من أمرنا الكثير فكيف عرفت أنت ذلك ؟ لقد وفقك الله إلى
هذا العمل الذي أنقذت به أسرتك فإذا شاءت الأقدار أن تفقديه فسوف يختار الله لك
عملا آخر في مكان آخر وستجدين عملا آخر ولو براتب أقل ولا بأس في ذلك فدفاعك عن
حياتك يستحق بعض التضحيات.
وإذا كانت التضحية
ضرورية ببضعة جنيهات أقل في الدخل فإن ما تدافعين عنه يستحق ذلك وأكثر منه, وربما
لا تحتاجين إلى كل ذلك إذ قد يزيد دخلك بدلا من أن ينقص, وأبلغيني بتطورات قصتك
فلربما استطعت معاونتك في هذا المجال.
أما عن رغبتك في نشر هذه الرسالة ليقرأها أبوك ومن على شاكلته من الآباء ليعرفوا لأي مصير يعرضون أبناءهم فهذا حقك وهي رغبة نبيلة في إيقاظ بعض الآباء من غيهم, لكن لا تشغلي نفسك كثيرا بهذا الأب المارق العابث اللاهي, وواصلي حياتك الكريمة الشريفة المعطاءة بدون الأسى عليه, فمثله لا يستحق أحزانك ويكفيك أنك أكثر أبوة لأبنائه منه هو الذي أنجبهم من صلبه, ولن أقول إنك أكثر رجولة منه خوفا من أن يسئ إليك بغير قصد هذا التعبير.
راجعها وأعدها للنشر / نيفين علي
برجاء عدم النسخ احتراما لمجهود فريق العمل في المدونة وكل من ينسخ يعرض صفحته للحذف بموجب حقوق النشر