نار الكراهية .. رسالة من بريد الجمعة عام 2000
أنا أب لمهندس شاب
تزوج من زميلة له, وعاش معها في سلام وأنجب منها طفلا وطفلة, ثم تعرض ابني
خلال عمله لإصابة في شبكية العين وأجريت له عملية جراحية وأمره الطبيب بأن يستسلم
للرقاد على ظهره في الظلام لفترة طويلة.. واختار ابني أن يقضي هذه الفترة في بيت
والديه ليضمن الهدوء والالتزام التام بتعليمات الطبيب, فما أن علمت زوجته بذلك
حتى امتنعت عن زيارته في بيتنا مع قرب المسافة بين مسكن الزوجية وبيننا, وتمادت
الزوجة لأسباب غريبة بعد ذلك في موقفها وطلبت الطلاق, وحصلت عليه وتنازلت عن
الطفلين, وكان عمر الأكبر حين وقع الانفصال ثلاث سنوات والطفلة عامين, واستردت
أمها منقولاتها وتنازلت عن الشقة, وبعد محاولات فاشلة للصلح بين الطرفين تزوج
ابني من أخرى وتزوجت هي كذلك من آخر, وبعد زواجها بفترة اتجهت إلى القضاء لطلب
إلغاء تنازلها عن الطفلين, وقضت لها المحكمة بما أرادت, ولا بأس بذلك مع أننا
لم نتأخر أبدا عن تلبية طلبها لرؤية الطفلين أو استضافتهما عندها في المناسبات
والأعياد كلما رغبت في ذلك, وتوقعنا أن تعاملنا مطلقة ابني بالمثل بعد أن أصبح
الطفلان في حوزتها فإذا بها تمنعهما من رؤية أهل أبيهما وتتشفى فينا بهذا المنع
ويساندها والدها في ذلك ويطلب من الوسيط إبلاغنا بأن علينا أن نقيم دعوى قضائية
لرؤية الطفلين, ولم نقم هذه الدعوة بالطبع, ومازلنا محرومين من رؤية الحفيدين,
ومازال الطفلان محرومين من أهل أبيهما.
والأكثر من ذلك أن
والدتهما تبث فيهما روح الكراهية والعداء تجاهنا. فلقد ذهبت إلى مدرسة الطفلة
لأراها فما أن رأتني حتى اكفهرت وانزعجت وأشاحت بوجهها عني..
وهي الطفلة التي كانت تغمرني بقبلاتها من قبل ولا يحلو لها النوم إلا على صدري.
فهل هذا هو ما
تريده هذه الأم الشابة لابنيها وهو أن يتشربا الكراهية لأهل أبيهما في هذه السن
الصغيرة ؟. وهل تضمن ألا تمتد إليها هي نفسها نار الكراهية من جانب هذين
الصغيرين حين يكبران وبعد أن يكونا قد تعلما على يديها كيف يكرهان أقرب الناس
إليهما؟.
وأين هي من كلمات
ربها التي تتوعد قاطع الرحم فتشجع صغيريها علي قطع رحمهما من الآن!
أنني أرجوك أن
تنصحها وتحذرها من غضب ربها وحسبنا الله ونعم الوكيل.
ولكاتب هذه
الرسالة أقول:
بغض النظر عن
الأسباب التي أدت إلى انهيار العلاقة الزوجية بين ابنك وزوجته السابقة.. وأيا
كانت هذه الأسباب فإنه ليس من إحسان الأم إلى ابنيها أن تغرس فيهما روح الكراهية
لذوي رحمهما ولا أن تباعد بينهما وبينهم, فالإنسان يحتاج إلى أهل أبيه كما يحتاج
إلى أهل أمه وكلما كثر ذووه وتعمقت علاقته بهم وعلاقتهم به أمن أشواك الطريق ووجد
إلى جواره من يهتمون بأمره ويقيلونه من عثرات الحياة عند الضرورة, بل ازداد
إحساسه الشخصي بعزته وجدارته وخلت نفسه من مرارة الإحساس بانعدام النصير. وتشجيع
الصغير وفي مثل هذه السن المبكرة التي يستقبل فيها مؤثرات القائم على تربيته دون
قدرة على الفرز والتمحيص واستبعاد الفاسد منها والتي يتحدد فيها أيضا الكثير من
سمات تكوينه النفسي الذي سيصاحبه بقية العمر, تشجيعه على تعلم الكراهية بدلا من
الحب والشك في أقرب الناس إليه بدلا من الاطمئنان إليهم, والنفور من ذوي رحمه
بدلا من اقترابه منهم وتمتعه بحنانهم وحمايتهم النفسية, كل ذلك لن يقدم إلى الحياة في
النهاية إلا إنسانا مضطرب المشاعر ممرور النفس أقرب للاستعداد لكراهية الآخرين من
الاستعداد لقبولهم نفسيا والاستجابة الإيجابية لمشاعرهم فكأنما قد حكم عليه من غرس
في روحه هذا البغض للأهل في الصغر, بأن يحيا حياته بإحساس العاجز عن حب الآخرين
واكتساب مودتهم.. والتواصل الطبيعي معهم.
ولا عجب في ذلك لأن
النار حين يشتعل ضرامها فإنها لا تنتشر بطريقة انتقائية فتتفادى هذه البقعة وتحرق
تلك, وإنما تتجه ألسنتها
بقوة الدفع الذاتية في كل الاتجاهات وليس بمستبعد على من رضع الكراهية من ثدي أمه لأبيه
وجده وجدته, أن تمتد كراهيته عند أول مفترق للطرق إلى من أرضعته لبن البغض وكره
الآخرين من قبل, ولهذا فإنه بالمنطق النفعي وحده ليس من صالح أي أم أو أب أن
يغرس في نفوس صغاره كراهية أحد الطرفين أو ذويه.
أما بالمنطق الديني
والأخلاقي فيكفي قاطع الرحم ما جاء في الأثر عن عائشة رضي الله عنها عن النبي صلى
الله عليه وسلم من قوله: الرحم معلقة بالعرش تقول: من وصلني وصله الله ومن
قطعني قطعه الله صدق رسول الله عليه وسلم.
فإذا شاءت هذه الأم
الشابة لنفسها وصغارها أن يقطعها ويقطعهم ربهم جل شأنه فهي وما اختارت لنفسها,
وإن شاءت غيره فالطريق واضح وقصير ولا يحتاج إلى دليل!
· نشرت في جريدة الأهرام "باب بريد الجمعة" عام 2000
راجعها وأعدها للنشر / نيفين علي
برجاء عدم النسخ احتراما لمجهود فريق العمل في المدونة وكل من ينسخ يعرض صفحته للحذف بموجب حقوق النشر