العيب الخطير .. رسالة من بريد الجمعة عام 1999
أنا
صديق لهذا الباب منذ أكثر من خمسة عشر عاما, ولقد كتبت إليك ثلاث أو أربع مرات
من قبل دون أن أتلقى منك ردا, مع إن مشكلتي هذه تكاد تهدد بيتي الصغير .
فانا
مهندس شاب تزوجت منذ عشر سنوات من فتاة رأيتها في حفل زفاف أحد الأقارب وأعجبني وجهها
الهادئ ورزانتها, فتقدمت لطلب يدها, وبدأنا حياتنا معا من تحت الصفر, وتحملت
معي زوجتي صعوبات البداية راضية, ولم تشعرني يوما بأي تقصير تجاهها وتجاه بيتي
وراحت تدخر كل مليم من دخلنا لكي نحقق لأنفسنا ما نتمناه من حياة أفضل, وبفضل
تدبيرها انتقلنا من أول مسكن للزوجية في إحدى الضواحي إلى مسكن أوسع قريبا من وسط
المدينة وتحسنت أحوالي المادية كثيرا, ووجدت زوجتي دائما غاية في الرقة معي
وغاية في التفاني في رعايتي, فهي لا تصبر علي خصامي لها ولو لساعة واحدة, ولا
تطيق أن تراني حزينا أو عابس الوجه, لأني أول وآخر إنسان في حياتها وقد ملأ حبي
قلبها وسكن في جوانحها .. وإذا غضبت راحت تحوم حولي كالفراشة تسألني ماذا بك. هل
أغضبتك هل فعلت شيئا ضايقك؟ هل أغضبك أحد في العمل الخ, ولا تدعني حتى تسري عني
وتعيدني إلى طبيعتي, ولا ترى أي مانع إذا ما أدركت أنها سبب غضبي في أن تسترضيني
بكل وسيلة وتقبل رأسي لكي اصفح عنها بل لقد غضبت منها ذات مرة فقبلت يدي وحاولت
تقبيل قدمي أيضا لولا أنني منعتها من ذلك رفقا بها.
أما
بيتي فنظيف دائما بشهادة الجميع وتفوح منه رائحة الحب التي تنبع من قلب زوجتي, وأما
أهلي فهي تحبهم أكبر الحب ويبادلونها نفس الشعور, وهي تستحوذ على قلوبهم جميعا,
وتستقبلهم في بيتي أحسن استقبال في وجودي وفي غيابي على السواء, وأسرتي تضرب بها
المثل في جميع المناسبات, وأما أولادي فهم دائما وبفضلها في أجمل صورة.
إذن ما
هي المشكلة؟ المشكلة هي إنني منذ حوالي عامين وجدت نفسي تعزف لا إراديا عن زوجتي
ويقوم سد منيع بيني وبينها, وبدأت أراها نحيفة الجسم بعض الشيء وقصيرة القامة
كما وجدتني أفكر في الزواج من أخرى ذات قوام فارع وجسم قوي فاره! اعرف أنك لن
تترفق بي لكن هذه هي المشكلة التي أعانيها ولم أكن أشعر بها قبل الزواج ولا في
سنواته الأولى, ولقد أصبحت الآن تلح علي وزوجتي تحس بذلك وتتألم له وتمزق واراها
تبكي من حين لآخر في صمت ولاتنام كثيرا.
إنني لا
ادري ماذا حدث لي ولا ما هو سبب تحطيمي لقلب زوجتي المحبة ولو فكرت جديا في الزواج
من غيرها فماذا عساي أن أقول لأهلي وكيف ابرر لهم وهم لا يلمسون أية مشكلة في
علاقتي بها ويشيدون بها دائما.
إنني
أرجوك ألا تهمل رسالتي واعدك بأن أنفذ ما تنصحني به وأن أتحمل كل ما تنتقدني فيه
بنفس راضية.
ولكاتب هذه الرسالة أقول:
يا سيدي هل كتبت رسالتك هذه ورغبت في نشرها لكي تستثير عليك حنق المبتلين بهموم الحياة الحقيقية؟لقد عزفت عن نشرها لكي أجنبك ما سوف ينهال عليك من سخط من جانب من يحترمون آلام الآخرين الجادة لكنهم ليسوا على استعداد لأن يتعاطفوا مع من لم يجد ما يشكو منه في حياته فشكا من اكتشافه بعد ثماني سنوات من الزواج مثل هذا العيب الخطير في زوجته وهو قصر قامتها ونحافتها بعض الشيء, وكأنما قد خدعته طوال هذه السنين وتخفت عنه بعيبها الرهيب, ثم سقط الستار عنه فجأة, فبدا جليا واضحا للزوج المخدوع!
وسؤالي
البديهي لك هو: كيف خدعتك زوجتك وتخفت بعيوبها عنك حين رأيتها لأول مرة في زفاف
احد الأقارب قبل عشر سنوات؟ وكيف نجحت في كتمان هذا السر الرهيب عنك طوال ثماني
سنوات من الزواج السعيد كانت خلالها ومازالت حتى الآن نعم الزوجة المحبة والمخلصة
لك ونعم الأم الرءوم لأطفالها.. والشريكة العطوف مع أهلك حتى ليشيدوا بها في
جميع المناسبات؟
وكيف انقشعت
فجأة هذه الغشاوة عن عينيك.. فرأتا ما لم تكن ترياه قبل العامين الأخيرين؟
الحق إن
زوجتك لم تتغير منذ رأيتها لأول مرة في حفل الزفاف, لكن عينيك هما اللتان تغيرت
زوايا الرؤيا بالنسبة لهما.. فرأتا في زوجتك فجأة.. ما لم تكن ترياه فيها من
قبل ولا عجب في ذلك لأن عين الرضا عن كل عيب كليلة وعين
السخط تبدي المساويا .. كما يقول الشاعر العربي,
والعين التي ترى بها زوجتك التي تفوح منها رائحة الحب تجاهك, ليست عين السخط علي
وجه التحديد وإنما هي عين البطر.. والبطر لغويا هو الاستخفاف بالنعمة والكفران
بها.
والإنسان
حين يكون مشغولا بهموم الحياة الجادة كبناء حياته ومستقبله والسعي لتوفير الحياة
الكريمة لنفسه وأسرته, يركز انتباهه على ما يستحق الاهتمام به والسعي إليه,
وحين يصل إلى غايته ويلتقط أنفاسه.. ويتسع الوقت أمامه للتفكير في حياته وتتوافر
له القدرة على اختيار الأفضل لها, فان الفضلاء منا يرضون بما حققوه لأنفسهم ويشكرون
ربهم علي ما أنعم به عليهم, ويعتزمون صادقين أن يعوضوا شركاء حياتهم وأبناءهم
عما حرمتهم الظروف من تقديمه إليهم خلال سنوات الكفاح والصعود, أما الجاحدون
منا, فإنهم بدلا من أن يشكروا ربهم على ما سخت به السماء عليهم, فإنهم يتفننون
في اختلاق الأسباب للسخط على حياتهم, وادعاء الأسباب التي يبررون بها لأنفسهم
شكواهم منها وعدم رضائهم عليها, وهؤلاء هم غالبا يجحدون ما بين أيديهم ويطلبون
ما يتوهمون فيه سعادتهم الموعودة فتلقنهم الحياة غالبا دروسها القاسية, ولا
غرابة في ذلك لأن الهادي البشير صلوات الله وسلامه عليه يقول لنا ما معناه: إن
التحدث بالنعمة شكر, وتركها كفر ومن لا يشكر القليل لا يشكر الكثير ومن لا يشكر
الناس لا يشكر الله.
ويقول
لنا الحسن البصري: إن الله ليمتع بالنعمة ما شاء, فإذا لم يشكر عليها قلبها
عذابا.
والبطر
بالنعمة أهم أسباب زوالها وفي التنزيل الحكيم "وكم أهلكنا من قرية بطرت
معيشتها".
وأنت
أيها الشاب تتبطر الآن وبعد أن تجاوزت صعوبات البداية على معيشتك وعلى الزوجة
المحبة التي تحوم حولك كالفراشة إذا تكدرت, وتقبل رأسك ويدك إذا غضبت منها وتحسن
عشرتك وترعى أبناءك وبيتك وأهلك وتسخط بذلك على الكثير الموجود طلبا للمجهول
المفقود.
وما هو
هذا المفقود الذي تتطلع إليه وتتشكي من أجله أهو بضعة كيلو جرامات زائدة في وزن
زوجتك وبضع بوصات أكثر في طول قامة زوجتك؟ ومتى كانت السعادة الزوجية بالوزن أو
بطول القامة أيها الشاب؟ لو كان الأمر كذلك لكان ذكر الخرتيت أو ذكر الفيل أسعد
المخلوقات ولكان ذكر الزرافة أحظى الكائنات بها إذن.
وماذا
عن النفس الرضية والقلب المحب والعشرة الطيبة والإخلاص للشريك والاعتزاز به وحسن
معاملة الأهل وحفظ الزوج في عرضه وبيته وماله وأولاده؟
لقد
حققت بعض النجاح المادي في حياتك لكنك قد تراجعت كثيرا وكثيرا في فهمك الصحيح
للحياة والسعادة والأشياء الأولى باهتمام الإنسان ورعايته, فكأنما قد نجحت عمليا
وتخلفت إنسانيا ونصيحتي الوحيدة لك هو أن تراجع مرة أخرى ما نشر وينشر في هذا
الباب من هموم البشر وعذاباتهم الحقيقية وتتخذ في حياتك ما تشاء بعد ذلك من قرارات
على ضوء فهم أعمق وأرقي للحياة الزوجية.
· نشرت في جريدة الأهرام "باب بريد الجمعة" عام 1999
راجعها وأعدها للنشر / نيفين علي
برجاء عدم النسخ احتراما لمجهود فريق العمل في المدونة وكل من ينسخ يعرض صفحته للحذف بموجب حقوق النشر