الهروب إلى الماضي .. رسالة من بريد الجمعة عام 1999

الهروب إلى الماضي .. رسالة من بريد الجمعة عام 1999 

الهروب إلى الماضي .. رسالة من بريد الجمعة عام 1999


إن استرواح نسائم الماضي السعيد بهدف استرجاع بعض لحظاته الجميلة من حين لآخر شئ .. والاستغراق الكامل فيه معظم الوقت وبشكل يعوق تواصل الإنسان مع حاضره وتقبله له شئ آخر ينبغي التوقف أمامه, والاحتراس من آثاره النفسية السلبية.

عبد الوهاب مطاوع



أنا شاب في الخامسة والعشرين من عمري نشأت في أسرة متدينة.. وكنت الابن الوحيد لأبوين من رجال التعليم .. الأب يعمل مدرسا للغة العربية ووكيلا لمدرسة إعدادية, والأم مدرسة لمادة التاريخ بنفس المدرسة .. فنهلت منذ صغري من نبع الحب والحنان المتدفق في قلب أمي وصدر أبي.. ونشأت منذ طفولتي على الالتزام والطاعة.. بالرغم من أنني ابن وحيد وشعرت دائما باعتزاز أبي وأمي بي.

 ومضت بنا سنوات العمر وتقدمت في الدراسة من مرحلة إلى مرحلة حتى حصلت على الثانوية العامة, والتحقت بالجامعة وبدأت أتطلع للحياة والمستقبل, وأحلم بالغد الذي أتخرج فيه من كليتي وأعمل.. وتضع الحياة في طريقي الفتاة التي سأرتبط بها وتشاركني رحلة العمر.. إلى أن قطع علي هذه الأحلام السعيدة يوم الاثنين الأسود اللعين الذي وقع فيه الزلزال الكبير, في 12 أكتوبر1992 ورجعت إلى البيت عقب وقوعه بساعة فإذا بي أجد بيتنا ركاما وحطاما وأكواما من التراب, وأبي وأمي تحت أنقاضه, فأقف وسط رجال الإنقاذ منهارا ومذهولا وضائعا أشهد مشهد الختام المؤلم في حياة أبي وأمي, اللذين كانا كل ما لدي في هذه الدنيا الغادرة.. وأراهما بأم عيني محمولين على محفات رجال الإنقاذ إلى المصير المحتوم.

 

وكنت حين وقعت هذه المأساة التي غيرت كل شيء في حياتي في التاسعة عشرة من عمري فانتقلت للعيش مع جدتي لأمي وحاولت جدتي أن تعوضني بعض ما فقدت من حب وحنان ولكن هيهات أن تستطيع ذلك وحزنها هي نفسها كان أضعاف حزني.. وحاولت أنا أن أتحصن بالقرآن والصلاة لكني كنت قد فقدت شيئا من روحي السابقة لا أستطيع استرداده.. ووسط هذه الظروف القاسية واصلت دراستي حتى انتهيت منها وهزم الحزن والقهر جدتي الطيبة فرحلت هي الأخرى عن الحياة رحمها الله ووجدت نفسي وحيدا تماما في الدنيا ونظرات الإشفاق تحيط بي من كل جانب.


وعقب وفاة جدتي كرهت الحياة في بلدتي التي نشأت فيها.. فتركتها هربا من نظرات الشفقة التي تقتلني وانتقلت إلى مدينة ساحلية كبيرة عسى أن أنسى فيها حزني وهمي ووحدتي, وعملت في مكان لا يعرفني فيه أحد على الإطلاق, وتضرعت إلى الله أن يمدني بالقدرة على تحمل حياتي, لكني تحولت إلى إنسان نصف غائب عن الوعي وفقدت توازني النفسي وعجزت عن تحمل الواقع.. فرحت أهرب منه إلى الماضي وأعيش فيه وأستعيد مشاهد حياتي السابقة قبل 6 سنوات حين كنت أعيش في بيت دافيء بالحب والحنان.. وأرى نظرة الحب والاهتمام في عيني أبي.. ونظرة الحب والفخر والاعتزاز في عيني أمي, وأراني محور حياتهما واهتمامهما في كل شيء فإذا كنت خارج البيت لا يهدأ لهما بال إلا حين يسمعان صرير مفتاح الشقة وأنا أفتح به الباب وأدخل عليهما قائلا: مساء الخير يا بابا.. مساء الخير يا ماما.. فيردان علي التحية بأحسن منها, ويطمئن قلباهما.. وتنهض أمي لإعداد العشاء لي.. ويدعوني أبي للجلوس بجانبه بعض الوقت قبل أن ينام ويسألني عما فعلت خارج البيت.. ومن من الأصدقاء قابلته وماذا قلنا في سمرنا معا.. وينصت باهتمام شديد لما أحكيه له من ذلك كأنما ألقي على أسماعه الدرر الغالية.. ويضحك من قلبه على أية نادرة أرويها له وترجع أمي بصينية العشاء وتشاركنا الضحك وتحدوني بعطفها كأني طفل صغير.

 




ولكاتب هذه الرسالة أقول:

حين يشتد ضيقنا بتعاستنا قد نتلمس السلوى في استرجاع ذكريات الأيام السعيدة في حياتنا ومعايشة رموزها وشخوصها في مخيلتنا ووجداننا لبعض الوقت .. ولقد عبر عن هذا المعني الأديب الفرنسي الكبير جوستاف فلوبير حين فرقت الأيام بينه وبين أسرته واشتد إحساسه بمعاناته في وحدته فكتب في رسالة إلى أمه يقول: بينما يواصل جسدي خطواته إلى الأمام فإن أفكاري لا تفتأ ترجع إلى الوراء وتعود إلى الأيام السعيدة التي عشتها في كنفك..
غير أن استرواح نسائم الماضي السعيد بهدف استرجاع بعض لحظاته الجميلة من حين لآخر شيء.. والاستغراق الكامل فيه معظم الوقت وبشكل يعوق تواصل الإنسان مع حاضره وتقبله له شيء آخر ينبغي التوقف أمامه.. والاحتراس من آثاره النفسية السلبية.. فحياة كل إنسان في الحياة تتمحور دائما حول ثلاث دوائر هي ماض بعيد يحن إليه من حين لآخر.. وحاضر يحياه ويتواصل معه ويوجه إليه كل همته واهتمامه.. وغد يتطلع إليه ويأمل فيه دائما. واستغراق الإنسان في ماضيه على حساب حاضره والتطلع لمستقبله يعني الهروب النفسي من الواقع والعجز عن تقبله والتواصل معه.. واستغراق الإنسان في التطلع إلى الغد على الناحية الأخرى يعني إهدار الحاضر لحساب مستقبل في علم الغيب, والاستغراق في الأحلام على حساب الواقع, والتوازن النفسي يطالبنا دائما بتقبل الحاضر والتواصل معه ومعايشته بصفة أساسية فلا يمنعنا ذلك من التماس العزاء من حين لآخر في ذكريات الماضي السعيد, ولا من التمسك دائما بالأمل في المستقبل.

 

 وأنت شاب في مقتبل العمر.. ولم تكد جولتك في الحياة تبدأ أول فصولها, ومهما كانت قسوة المأساة التي فرضتها عليك أقدارك الحزينة, فلابد لك أن تقبل بصبر وإيمان وشجاعة بواقعك الأليم.. وتكف عن الهروب النفسي منه, لأنه لا جدوى للأسف من الاستغراق في الحزن والصمت والعزلة ورفض الواقع والهروب منه إلى الماضي, وأنت يا صديقي في أشد الحاجة إلى التفاعل مع الحياة والاندماج مع البشر من حولك, واكتساب الصداقات الجديدة وشغل أوقاتك بالنشاطات الاجتماعية المختلفة, لأن الوحدة بلاء لا يحتمله الإنسان السعيد الذي تخلو حياته من الأحزان والمآسي.. فكيف بمن كان في مثل ظروفك الحزينة هذه التي تصبح فيها الوحدة بلاء لا يحتمله أولو العزم من الرجال؟

 

 إن المحزون تشتد حاجته إلى المشاركة الوجدانية في أحزانه وليس إلى الانفراد بها دون الغير وليس هناك ما يدعوك إلى العزلة ورفض الآخرين والهروب بمأساتك من مكان إلى مكان.. ومن زمان إلى زمان, كأنما تتوارى بسوأة ارتكبتها عن العالمين لأنك ضحية لأقدار مؤلمة ولست جانيا على أحد, ولأنه لا معنى لانفرادك بأحزانك نفورا من نظرات الإشفاق في عيون الآخرين إذا علموا بها أو شاركوك فيها.. والحق أني على كثرة ما حاولت قدر جهدي فهم بعض أسرار النفس البشرية, فإني لم أستطع أن أفهم حتى الآن منطق نفور بعض المبتلين من نظرة الإشفاق عليهم في عيون الآخرين, ذلك أنه ليس في إشفاق الآخرين علينا ما يدعونا للنفور منه بدلا من الامتنان له والتخفف به عن بعض أحزاننا, بل أن في حرماننا من العطف الإنساني ما يضاعف من معاناتنا, ويشعرنا بوحدتنا الكاملة في مواجهتها, وبهوان أمرنا على الآخرين وافتقادنا لمن يهمه أمرنا.

 

وكل إنسان في الوجود مهما علا قدره واشتد بأسه يحتاج إلى شيء من العطف الإنساني من جانب المقربين إليه.. فهذا العطف ليس سوى إعلام له بأن هناك من يهتمون بأمره ويشفقون عليه من مكابدة همومه وحيدا.. فإذا كنا نرفض من يغالون في التطفل على الآخرين بأحزانهم وهمومهم بلا مبرر لذلك سوى الاعتمادية النفسية على الغير وإدمان الشكوى واستجداء العطف, فإنه ينبغي لنا أيضا أن ندين من يغالون في الانطواء على أحزانهم واعتبار إشفاق الآخرين سلوكا يربأون بأنفسهم عن التعرض له.. والهم من أشد الأسلحة فتكا بالإنسان إذا انفرد به وحده وافتقد المشاركة والعزاء.. ففيم انفرادك به دون غيرك من البشر.. وفيم نفورك من الآخرين وأنت في أشد الحاجة إلى الصحبة والإيناس؟!


إنني أدعوك إلى أن تعتبر جماعة أصدقاء بريد الأهرام التي ستعقد اجتماعا قريبا لها بإذن الله في مدينتك الساحلية هي أسرتك الكبيرة التي يسعدها انتماؤك لها ومشاركتك في أنشطتها.. ولسوف أدعوك بإذن الله إلى الاجتماع المقبل بمدينتك وأقدمك لأعضائها ومن بينهم عدد كبير من أبناء مدينتك سوف يتواصل اللقاء بينك وبينهم بإذن الله بعد انفضاض الاجتماع.. وليكن ذلك هو الخطوة الأولى في خروجك من قوقعة الأحزان.. ومحاولة التواصل مع الحاضر والقبول به.. أما الخطوة الكبرى فلسوف تتحقق إن شاء الله حين تضع أسرتك الصغيرة.. وتجمع الأقدار بينك وبين من تشاركك رحلة الحياة وتتقاسمان فيها أحزانها وأفراحها.. فاتصل بي مساء الغد لإبلاغي بعنوانك ولنأمل معا في بداية جديدة وسعيدة لك بإذن الله.

 ·       نشرت في جريدة الأهرام "باب بريد الجمعة" عام 1999

شارك في إعداد النص / علا عثمان

راجعها وأعدها للنشر / نيفين علي

 


Neveen Ali
Neveen Ali
كل ما تقدمه يعود إليك فاملأ كأسك اليوم بما تريد أن تشربه غداً
تعليقات