شجرة الصبار .. رسالة من بريد الجمعة سنة 2003
إن ابتسار الحزن
على ما يستحق الحزن عليه، ليس من الصحة النفسية في شيء, وإنما على المحزون أن
يعترف بحزنه ويسلم به ويصبر عليه حتى يستوفي عمره المقدور، ويتحول إلى حزن
هاديء لا يفسد على المرء حياته، ولا يعرقل تواصله مع الحياة ولا يخصم من
قدرته على العمل والعطاء وأداء الواجبات الإنسانية والعائلية، ولا يصبغ رؤيته
للحياة بالمرارة والسواد.
وفترة الحزن
الطبيعية على الأعزاء الراحلين يقدرها علماء النفس بستة أشهر، فإن زادت على ذلك
تحولت إلى اكتئاب مرضي يستدعي العلاج لدى الأطباء المتخصصين.
عبد الوهاب مطاوع
أكتب إليك بعد طول
تواصل بيننا على البعد, ومن خلال رسائل بريد الجمعة .. وأشعر الآن أنني في
حاجة لأن أروي لك قصتي .. وأستعين برأيك على ما يشغل فكري .. فأنا شاب ابلغ من
العمر 35 عاما .. تنبهت للحياة فوجدتني طفلا يعيش بين أم ترتدي السواد دائما
وشقيق يكبره بثماني سنوات.. ويبدو دائما مهموما وحزينا, ونقيم معا في شقة
متوسطة بإحدى مدن الوجه البحري .. وأدركت منذ البداية أني أعيش في بيت حزين يخيم
عليه الصمت معظم الأوقات, ولا يعرف مرح الطفولة أو عبثها.. فأمي صامتة على
الدوام وكثيرا ما أراها تبكي لفترات طويلة, وأخي الأكبر هاديء دائما ورزين كأنما
قد أضاف إلى عمره عشر سنوات أخرى .. ونحن نعيش على معاش أبي الضئيل .. وليس لنا
أقارب في هذه المدينة التي نقيم بها, فلقد انتقلت إليها الأسرة مع أبي حين نقل
للعمل بإحدى المصالح الحكومية بها, ثم لقي وجه ربه وابنه الأكبر في السنة الأولى
الثانوية وابنه الأصغر في السنة الأولى الابتدائية, وبرحيله عن الحياة عاشت
الأسرة حياة جافة متقشفة, فلا ملابس جديدة ولا مصروف لي أو لأخي .. وأنا أذهب
إلى المدرسة مرتدا ملابس أخي القديمة بعد تقصيرها.. وهو يقضي العام والعامين
بقميص واحد لا يتغير وبنطلون يضاف إليهما في الشتاء القارص بلوفر مستهلك قديم,
ولا يشكو من شيء .. ولا يشعر بأي نقص, في حين كنت أنا أتذمر كثيرا من سوء
الأحوال وقلة الشيء والحرمان من كل ما يتمتع به الأطفال الآخرون, فإذا عبرت عن
كل ذلك أمامه.. تحدث معي برفق كأنه أبي .. وطالبني بالصبر إلى أن يحصل على
الثانوية العامة ويعمل ويعوضني عن كل ما حرمت منه.. ويهون علي أحوالنا بأننا
أفضل من غيرنا, فنحن في النهاية لنا بيت ننام تحت سقفه ولا ننام في العراء وأم
ترعانا وتطهو لنا طعامنا, ولنا أصدقاء نحبهم ويحبوننا من رفاق المدرسة
والشارع, نلعب معهم ونسري عن أنفسنا, فيلقي على سخطي وتذمري ماء باردا..
وأنظر إليه متعجبا لصبره ورزانته وقدرته الفائقة على غرس الطمأنينة في نفسي.
ولم يكن شقيقي يقوم بهذه المهمة معي وحدي بل كان
يكررها مع أمنا حين تضعف وتنهار وتبدأ نوبة طويلة من نوبات البكاء.. فيحتضنها
أخي ويهدهدها.. ويقرأ في أذنها آيات الذكر الحكيم, ويحدثها عن المستقبل المشرق
الذي سنصل إليه حين يعمل.. وأواصل أنا تعليمي حتى أتخرج وأعمل.. وننتقل إلى
مستوى آخر من الحياة وهكذا حدد أخي مصيره ومصيري, وهو لم يكد يبلغ الخامسة عشرة
من عمره, فلقد قرر أن أواصل أنا تعليمي.. وأن يتوقف هو عن التعليم بعد
الثانوية العامة.. ولا أدري حتى الآن كيف توصل إلى هذه الصيغة وهل جاءت منه أم
من أمي, مع إدراكي أن أمي كانت دائما تشفق عليه مما يحمل نفسه من مسئوليات,
وتقول إنه قد خلف أباه في الهم والمسئولية دون أن يطلب منه أحد ذلك.
وبالفعل فلقد حصل
أخي على الثانوية العامة وعمره 19 عاما, وبمجموع لا بأس به.. وحاول أصدقاؤه
أن يحثوه على الالتحاق بالجامعة لكيلا يضيع على نفسه فرصة متاحة له.. بل أمي
نفسها أرادت أن تبريء ذمتها من شبه ظلمه أو إجباره على التضحية من أجل الأسرة..
فتركت له حرية القرار وقالت إنها مستعدة للصبر على سوء الأحوال سنوات أخرى لكي
يحقق هو أحلامه.. لكن هيهات أن يغيب عنه, واقع الحال وتكاليف الدراسة بالجامعة
التي لا يتوافر منها قرش واحد, وهكذا اتخذ قراره بملء إرادته وإحساسه بالمسئولية
عنا, وتقدم إلى المصلحة التي عمل بها أبي طالبا وظيفة, وساعده زملاء أبينا في
الالتحاق كظهورات أي باليومية في البداية ثم تم تثبيته بعد عام.
وعرفت حياتنا بعض
اليسر, وأصبح مطبخ بيتنا يعرف اللحم مرة كل أسبوع, وأصبح أخي يعطيني مصروفا
صغيرا أذهب به إلى المدرسة, ويشتري لي الكتب والكراسات وحذاء كلما بلي حذائي,
ولأمي فستانا غير الفستان الأزلي الذي رأيته عليها أكثر من سبع سنوات, واستقرت
حياته على نظام واحد لا يتغير يذهب إلى العمل صباحا.. ويرجع في الظهر حاملا كيسا
من الخضر وأحيانا من الفاكهة.. فيقبل يد أمي .. ويسألني عن أحوالي ويتسامر معي
ومع أمي على مائدة الطعام ثم ينام ساعة..
ويخرج في المساء ليلتقي بأصحابه في المقهى ويعود للبيت في العاشرة, فيطمئن علي
وعلى أمي وينام.
ومضت بنا الأيام
وحصلت على الثانوية العامة.. وفرح أخي بنجاحي فرحة طاغية وترك لي اختيار الكلية
التي أدرس بها, لكني إشفاقا عليه من نفقات الدراسة بالجامعة بالإسكندرية أو
القاهرة, اخترت معهدا عاليا كان قد افتتح قبل عامين في عاصمة الإقليم الذي نقيم
به وراجعني هو في هذا الاختيار مرارا فوجدني مصرا عليه.. وهكذا التحقت بالمعهد
وأصبحت أسافر إلى عاصمة الإقليم بسيارات الأجرة في الصباح وأرجع في الأصيل,
وتحمل أخي كل النفقات وهو سعيد وبغير أن يشعرني مرة واحدة بعبئي الكبير على مرتبه
الصغير..
وفي هذه الأثناء
كان أخي في السابعة والعشرين من عمره.. وكنت أعرف أن قصة حب عفيفة تجمع بينه
وبين فتاة من جيراننا تربي أخوتها الأيتام بمعاش ضئيل وبعائد عملها في تطريز
الثياب, فسألته لماذا لا يخطبها ويسعد قلبه كما يسعدنا ؟, فأجابني بأن أمي لن
تسعد بذلك لأنها تعتمد عليه اعتمادا كليا وتعتبره رجلها ورجل البيت, وستخشى أن
تشغله الفتاة عن واجباته.. لهذا فهو يؤجل كل شيء إلى أن أتخرج خاصة أن فتاته على
الناحية الأخرى لا تتعجل الزواج, وتريد أن تطمئن أولا على انتهاء أخوتها من
تعليمهم.. فازددت حبا له وإكبارا.. وحاولت إثناءه عن هذا الموقف لأن لنفسه
عليه حقا.. فلم يتزحزح عن موقفه.
وتخرجت في المعهد
العالي وأصبحت مهندسا زراعيا, ولا أستطيع أن أصف مدى الزهو والافتخار اللذين أحس
بهما أخي الحبيب عند تخرجي.. وكأنما قد حصل على الشهادة لنفسه, وعملت بمديرية
الزراعة في نفس المدينة.. وقبضت أول مرتب لي فهرولت به إلى أخي ليتصرف فيه كيفما
يشاء, فأبى أن يأخذه مني وطلب مني أن أعطي لأمي مبلغا صغيرا منه وأحتفظ لنفسي
بالباقي, لأنني سأحتاج إلى ملابس جديدة تليق بالباشمهندس الزراعي, وظل أخي
يتحمل الجزء الأكبر من المسئولية المادية عن حياة أسرتنا ولا يسمح لي بالمساهمة إلا
بالقليل.. ويطلب مني ادخار جزء من مرتبي لأنني سأتزوج ذات يوم وسأحتاج إلى
النقود.. ولا أدري حتى الآن كيف كان يدبر أمور حياته وحياتنا بمرتبه البسيط..
ولا كيف كنا نجد لديه دائما النقود حين ينفد مرتبي ونحتاج إلى نجدة؟! ولا تفسير
لدي سوى أن البركة كانت تحل على مرتبه الصغير.. فيصنع به المعجزات.
وعدت إلى الحديث مع
أخي عن زواجه وقد تجاوز الثلاثين فاعترف لي بأنه قد تحدث مع أمنا عن ذلك.. فلاحظ
اكتئابها بالرغم من ترحيبها الظاهري بزواجه.. كما أنه تألم كثيرا لاعتراضها على
الفتاة التي تنتظره منذ 7 سنوات بحجة أنها فقيرة معدمة وحملها ثقيل, وأنه سيغرق
في حمل مسئوليات أخوتها الصغار, بعد أن تحمل مسئوليتنا بعد أبينا.. وقال لي
إنه لم يجادل أمنا.. وفضل تأجيل الموضوع إلى وقت آخر وعجبت لأخي.. لماذا
يتنازل دائما عن حقه مراعاة لغيره.. وهو الذي يحق له بحكم أفضاله علينا أن يفرض
ما يشاء؟ وعاتبت أمي طويلا في هذا الأمر.. وحدثتها عن تضحيات أخي الصبور المضحي
الذي لا يمن علينا بما قدم لنا.. فلم تزد عن أن تقول لي إنها تشفق عليه من أن
يتحمل المزيد من المسئوليات, وتتمنى له عروسا خالية من المشاكل.
وكنت خلال هذه
الفترة قد تعرفت بزميلة لي وتبادلنا الإعجاب ثم المشاعر العاطفية, وصارحتها بكل
ظروفي فقبلت بها وتعاهدنا علي الزواج حين تسمح الأحوال.. وقلت لها صراحة إنني
أنتظر أن يتزوج أخي ويسعد بحياته قبل أن أقدم أنا على الزواج, وأيدتني في ذلك
ورويت لأخي ما حدث ففوجئت به يحثني على خطبة هذه الفتاة على الفور وعلى المضي في
مشروع الزواج دون انتظار, لأنها لن تنتظرني إلى أجل غير مسمي, وليس من العدل
مطالبتها بذلك, كما أن زواجي لن يلقي اعتراضا من أمي لأنني طفلها المدلل كما قال
وتخشى غضبي منها, ولأن البيت لن يخلو عليها بعد زواجي مادام لم يتزوج هو بعد,
وجادلته في ذلك طويلا فلم يغير رأيه.. وحدد موعدا لاصطحابي لمقابلة والد الفتاة
وطلب يدها منه, وتمت الخطبة وبدأت أستعد للزواج وأخي معي في كل خطوة يشير علي
بالرأي السديد ويحل لي المشكلات المادية التي تواجهني.. ويقرضني ما أحتاج
إليه.. ويقترض من جهة عمله ليعطيني.. ويؤجر لي شقة قريبة مناسبة, ثم يحتفل
بزواجي مع أصدقائه العديدين ـ وهو المحبوب تماما منهم لدماثة أخلاقه ـ احتفالا
صاخبا.
وهكذا تزوجت وانتقلت إلى عش الزوجية وأنجبت طفلا
سميته بلا تردد باسم أخي الذي
مازال عزبا.. ومازال يحاول إقناع أمي بالموافقة على زواجه من فتاته وقبول
إقامتها معه في مسكنه لأنه لا يستطيع ترك أمه واستئجار شقة أخرى .. وأمنا توافق
بلسانها وتكتئب وتحزن, فيؤجل هو الموضوع إلى وقت آخر, وأنصحه أنا بألا يتردد
أكثر من ذلك وألا يخشى غضب أمنا مادامت توافق بلسانها على ما يريد.. فلا يستجيب
لي.
وظل الحال على ما
هو عليه إلى أن انتقلت أمي إلى رحمة الله .. وواريناها الثرى وبكيناها طويلا,
فوجد أخي في نفسه الشجاعة على الإقدام على الزواج بعد طول الصبر والحرمان.. وهو
يقترب من الأربعين وأراد أخي أن يتزوج في صمت وبلا احتفال مراعاة لرحيل أمي,
لكني وجدت أن مرور عام على وفاتها يعفينا من أي حرج, وأصررت على أن نحتفل بزواجه
احتفالا يليق بصبره وحرمانه وتضحياته وشاركني أصدقاؤه العديدون هذا الإصرار,
وأقمنا له فرحا جميلا كانت فرحتنا به فيه صادقة ومن القلب.. ورقصت أمامه بالعصا
طويلا حتى نهض من الكوشة واحتضنني وقبلني والدموع تسح من عينيه.. ورقص كل
أصدقائه المخلصين بين يديه وغمروه بالأحضان والقبلات, وكانت ليلة من أسعد ليالي
العمر, وبدأ أخي حياته الزوجية مع فتاته التي انتظرته سنوات طوالا, وأصبح هو
ولي أمر أخوتها الصغار وراعيهم كما كان ولي أمري والراعي الأمين لي.. وأنجبت
زوجته طفلا سماه أخي على اسمي, وبعد عامين حملت زوجته من جديد وسعد بحملها كثيرا
ورجا ربه أن تنجب زوجته طفلة لتكتمل بها سعادته.. فلقد كان يحب البنات وكثيرا ما
تمني لو كانت لنا أخت تغمرنا بحنانها.. ونرعاها بحبنا وعطفنا عليها.. وبلغت
زوجته الشهر التاسع من الحمل, وترقب أخي في قلق ولادتها.. إلى أن حل الموعد
فأسرع بها إلى عيادة الطبيب المولد, وسهر إلى جوارها حتى الصباح ولم تلد بعد,
ثم نصحه الطبيب بأن يستريح في بيته بعض الوقت ويرجع مرة أخرى لأن الطلق لن يعاود
زوجته قبل 6 أو7 ساعات, واستجاب للنصيحة وعاد إلى بيته, وبقيت أنا إلى
جوار زوجته ونمت على المقعد حتى تنبهت على صراخ الأم والوليدة, فأدرت رقم تليفون
أخي لأزف إليه البشري وأدعوه للحضور فرن الجرس طويلا دون استجابة.. وقدرت أن
التعب قد غلبه فراح في سبات عميق, وتوجهت إلى البيت ودققت الجرس طويلا دون
جدوى, فأخرجت مفتاح الشقة, وقد كان كل منا يحمل مفتاح شقة الآخر, وفتحت
الباب ودخلت فإذا بي أرى أخي الحبيب راقدا على أرض الصالة منكبا على وجهه وثمة جرح
صغير في رأسه من أثر السقوط.. وبقعة من الدم على الأرض وهو غائب عن الحياة!
وصرخت من أعماق
قلبي.. ولطمت كالثكالى .. وأصابتني هيستريا لم أعد أعرف معها ماذا أفعل..
ولا ماذا أقول.. ولا من هم هؤلاء الأشخاص الذين ملأوا الشقة.. وسحبوني خارجها
بالقوة, ولم أفق لنفسي إلا في اليوم التالي وأنا أسير وراء أخي وأبي وتوءم روحي
وعزوتي في الحياة لأواريه الثرى, وفي سرادق العزاء في المساء جلست غارقا في
أفكاري ذاهلا عن كل شيء, أهكذا تمضي أمور الحياة.. أيموت أخي المضحي الخدوم
العطوف قبل أن يرى الطفلة التي تمناها من ربه.. أتنتهي صفحة حياته في الثالثة
والأربعين من العمر بغير مرض أو إنذار, وبعد ثلاث أو أربع سنوات فقط من السعادة
مع زوجته, وقد كابد قسوة الحياة والحرمان والصبر معظم سنوات العمر القصير..
ألم يكن يستحق أخي الصبور فسحة أخرى من الحياة السعيدة التي انتظرها بصبر طويل.
لقد فقدت الحياة كل
معني لها عندي منذ رحيل أخي.. ولقد انقطعت عن العمل نحو الشهر بعد رحيله وزارني
طبيب المديرية واحتسبها إجازة مرضية ووصف لي علاجا للاكتئاب والانهيار النفسي وأنا
الآن لا أنام إلا بالمنومات, وأشعر بأن الدنيا قد خلت من حولي.. وأصبحت مقطوعا
من شجرة بلا أهل ولا عزوة.. وكلما تذكرت صبر أخي على جفاف الحياة وتضحياته لي
وعطاءه الكريم وعطفه على أمه.. وحرصه على إرضائها على حساب سعادته الشخصية,
انفجرت ينابيع الدموع من عيني.. واسودت الحياة في وجهي.
ولقد أردت أن أكتب
لك قصة أخي هذا تكريما له واعترافا بفضله علي ولكي أستشيرك كيف أخرج من الظلام
الذي أعيشه الآن وكيف أعود إلى الحياة من جديد.
إنني لا أغادر
مسكني بعد عودتي من العمل, وأقضي معظم أوقاتي في البيت صامتا مكتئبا.. وزوجتي
تحاول التسرية عني ولكن دون جدوى, كما أنني أزور أرملة أخي من حين لآخر وأطمئن
على أحوالها وأحوال الطفلين.. وأرجع أكثر حزنا واكتئابا.. فبماذا تنصحني أن
أفعل؟
ولكاتب هذه الرسالة أقول:
يحق لك أن تحزن أعمق الحزن على فقد مثل هذا الأخ الصدوق البار بأمه وأخيه, والمضحي لإسعاد الغير بما تملك يداه ولو كان قليلا, فعلى مثله تبكي البواكي بالفعل وتنتحب.. وبغياب أمثاله تفقد الحياة الكثير من خيريتها ومثالياتها وقيمها العليا, فلقد كان واحدا من الأبرار والصالحين الذين وصفهم الرسول الكريم صلوات الله وسلامه عليه بقوله "هم قوم لا يشقى بهم جليسهم"وقال عنهم في موضع آخر أنهم يستحيون من الله استحياءهم من ذوي الهيبة من قومهم.
ولاشك أيضا في أنه كان ممن قال فيهم الشاعر الأديب جبران خليل جبران من الناس من يعطون بفرح ويكون فرحهم هو مكافأتهم على هذا العطاء
غير أن مكافأة أخيك لن تقتصر على الفرح بالعطاء في حينه فقط, وإنما سيضاعف له الله سبحانه وتعالى الجزاء في العالم الأفضل الذي انتقل إليه, فإن كان الحزن على رحيله يملأ قلبك الآن, فلسوف تتخفف من بعضه حين تتذكر ما يلقاه شقيقك وأمثاله عند ربهم من نعيم.
ولست أطالبك بأن
تنفض الحزن عنك على الفور وتعود إلى سابق حياتك قبل هذه المحنة, فالحق أن ابتسار
الحزن على ما يستحق الحزن عليه, ليس من الصحة النفسية في شيء, وإنما على
المحزون أن يعترف بحزنه ويسلم به ويصبر عليه حتى يستوفي عمره المقدور, ويتحول
إلى حزن هاديء, لا يفسد على المرء حياته, ولا يعرقل تواصله مع الحياة ولا يخصم
من قدرته على العمل والعطاء وأداء الواجبات الإنسانية والعائلية, ولا يصبغ رؤيته
للحياة بالمرارة والسواد.
وفترة الحزن
الطبيعية على الأعزاء الراحلين يقدرها علماء النفس بستة أشهر, فإن زادت على ذلك
تحولت إلى اكتئاب مرضي يستدعي العلاج لدى الأطباء المتخصصين, وهو ما لا أرجوه لك
بإذن الله.. خاصة أن مهام إنسانية جليلة تنتظرك وتنتظر خروجك من بئر الأحزان لكي
تؤديها.. فلقد جاء دورك لكي ترد الجميل لشقيقك الراحل وترعى طفليه وأرملته,
كما رعاك صغيرا وكبيرا, ولكي تتحمل المسئولية الإنسانية عنهم, كما تحمل هو
مسئوليتكم الإنسانية منذ كان فتي في الخامسة عشرة من عمره, فخطط لحياته أن يضحي
بفرصته في التعليم الجامعي, لكي تتعلم أنت وتحصل على شهادتك العالية.. وتتفتح
أمامك مجالات التقدم في العمل والحياة.
لقد كان مثالا طيبا
للإيثار والعطاء والنهوض بالمسئولية الإنسانية بغير انتظار لأن يدعوه أحد إلى
ذلك, وبغير أن يشعر بأنه يقدم ما يستحق أن يقدره له الآخرون ويعترفوا بفضله,
وهذا هو قمة العطاء الذي لا يفسده من ولا أذى والذي يمارسه الإنسان وكأنه سلوك
طبيعي لا يستحق التوقف أمامه.
ولسوف تكرر أنت هذا
المثال بإذن الله مع ابني شقيقك وأرملته.. ولسوف تكون رعايتك وعطاؤك لهم سلوكا
طبيعيا لا يشعر صاحبه بأنه يفعل شيئا ينتظر أن يحمده له الآخرون, ولا عجب في ذلك
فأنت فرع من شجرة أخيك الطيبة.. ولقد قال أحد الحكماء إن الأشجار تعطي لكي تحيا
فإن لم تعط عرضت حياتها للخطر.
فتشاغل يا صديقي عن
أحزانك بتوجيه قدر أكبر من الوقت والاهتمام لأسرة أخيك, وعملك, وأسرتك,
وعلاقاتك الاجتماعية, ولا تحبس نفسك بين جدران بيتك فتحاصرك الأحزان والهموم من
كل جانب وتغلبك علي أمرك, وأكثر من قراءة القرآن علي روح أخيك الطيب والدعاء له,
وأحفظ مودة أصحابه إكراما له.. ولسوف تهدأ الأحزان بعد قليل وتعود إلى حياتك
الطبيعية تدريجيا خلال وقت قصير بإذن الله.
راجعها وأعدها للنشر / نيفين علي
برجاء عدم النسخ احتراما لمجهود فريق العمل في المدونة وكل من ينسخ يعرض صفحته للحذف بموجب حقوق النشر