الشاهد .. رسالة من بريد الجمعة سنة 1998

 الشاهد .. رسالة من بريد الجمعة عام 1998

 الشاهد .. رسالة من بريد الجمعة عام 1998

إننا نحتاج في بعض الأوقات لكي نحافظ على سفينة الحياة طافية فوق سطح الماء إلى أن نستفيد من العلوم السياسية بعض قواعد فن إدارة الأزمات ونطبقها بحكمة علي حياتنا الخاصة، ومنها أن نعرف متى نتراجع عن إرادة أو رغبه لا يؤدي التمسك المتحجر بها للنهاية إلا إلى انفجار الموقف وتقطع الخيوط بيننا وبين الآخرين، وأن نكون مستعدين في بعض الأحيان للقبول بالحلول الوسط بديلاً عن الحلول المثلى الملبية لكل رغباتنا وشروطنا، وأن نتجنب في بعض الأحيان الاستجابة لاستفزازات الآخرين، ونفوت عليهم الفرصة لدفع الأمور بيننا وبينهم إلى الطريق المسدود. 

عبد الوهاب مطاوع


أنا شاب أبلغ من العمر 31 عامًا .. أعمل في وظيفة مناسبة بشركة محترمة وبمرتب معقول, وقد تزوجت منذ 5 سنوات من فتاة أحببتها .. وتمنيت أن أسعد بحياتي معها وأن أسعدها .. وفقني الله في إعداد مسكن مجهز بالتليفزيون والثلاجة والغسالة الأتوماتيك, وأصبح بيتًا جميلاً في عين كل من يدخله, ويلمس بساطته وتناسقه والذوق السائد فيه.

 

وحين انتهيت من إعداد هذا المسكن الصغير قلت لنفسي إننا قد جهزنا المكان ولم يبق إلا أن نبعث فيه دفء السعادة والود المتبادل والعشرة الحلوة, وأقبلت على حياتي الجديدة مفعمًا بالآمال والرغبة القوية في السعادة , لكنني لم أحظ بشيء من ذلك للأسف , لأن زوجتي غير راضية عما أتيح لنا من أسباب, وأعيش في نكد مستمر منها, ومن أهلها الذين يناصرونها علي طول الخط ظالمة أومظلومة, وكذلك بسبب نصائح أمها لها بأن كل ما عليها أن تفعله حين نتشاجر هو أن تضع ماكياجًا كاملاً على وجهها, وترتدي أحسن قميص لديها .. وتفتح جهاز التسجيل علي أعلى صوت له وكأنها تقول للجميع أنه لا يهمها زوجها في شيء!

 

أما في مناقشاتنا فهي لا تلتزم الأدب معي ويرتفع صوتها عليّ, وتنطق بألفاظ غير محترمة مما يجبرني وأنا الرجل الهاديء المصلي الذي يشهد له الآخرون بحسن خلقه على الرد على إهانتها.

وحتى بعد أن أنعم الله علينا بالولد استمرت والدتها تقلبها علّي وعلى إخوتي الذين يكنون لزوجتي الحب وذلك لكي تقطع علاقاتها بهم بالرغم من أنهم يقيمون في أطراف المدينة ولا يزورننا كثيرًا.

 

وحين بلغ ابني من العمر عامين ونصف العام أصبح للمشاكل بيننا شكل آخر وعند حدوث خلاف بيني وبينها خلال الليل فإنها بدلاً من أن تحتوي المشكلة لكيلا يصحو الطفل من نومه, فإنها توقظه لكي يشهد الخناقة بيني وبينها ويكون شاهدًا على ما يجري بيننا فلا يملك الطفل الصغير إلا أن يبكي ويرتجف من الخوف والفزع, وفي بعض الأحيان قد لا تكتفي بإيقاظه فقط, وإنما تضربه أيضًا لكي ينشأ معقدًا مثلها كما تقول لي.

ومنذ بضعة أسابيع طلبت مني أن تذهب إلى بيت أهلها لحضور حفل عيد ميلاد أحد إخوتها .. واعترضت على ذلك لمرضها بسبب الحمل, فذهبت إلى أهلها غاضبة .. واستبقاها الأهل لديهم بغير أن يرشدها أحد منهم إلى الصواب وأيدوها على طول الخط كعادتهم معها, وكان شرطهم لعودتها للبيت أن يتنازل أهلي عن دين لهم اقترضته منهم لعلاجها عقب الولادة من مرضها, وألا ألتزم بدفع أقساطه, لأن ذلك كما يقولون يؤثر على حياة ابنتهم.

 

إنني أكتب إليك الآن لكي أقول لك إنه لا أحد يطلب التعاسة لنفسه أو يتمنى الفشل في الزواج, لكن ظروف الحياة قد تضطرنا في بعض الأحيان إلى أن نفعل مالا نتمناه لأنفسنا .. فأنا مثلاً لم أكن أتصور أن يجيء اليوم الذي أفكر فيه جديًا في الطلاق, وهدم بيتي وتمزيق طفلي الصغير بيني وبين أمه .. ويكدر عليّ حياتي الآن التفكير الدائم في مصير هذا الطفل البريء .. ومصير الجنين الذي لم يأت إلى الحياة بعد .. فماذا أفعل يا سيدي .. وماذا تقول لهذه الزوجة ولأهلها الذين يناصرونها دائما ضدي.

 

 
ولكاتب هذه الرسالة أقول :

نعم يا صديقي لا أحد يطلب التعاسة لنفسه أو يرغب بصدق في حرمان أطفاله من سعادتهم, وأمانهم بين أيديهم, لكن السعادة لا تتحقق بالتمني وحده ولا بالرغبة السلبية فيها, وإنما تتحقق كذلك بالعناء.. وبالصبر على بعض المكاره .. والتعالي على الصغائر, والتحلي بالمرونة الضرورية في بعض الأوقات, وإلا تحولت العلاقة بين كل زوجين إلى علاقة صراع لا علاقة تفاعل وتحاور وتنازلات متبادلة وحرص مشترك على حماية الحياة الزوجية من الانهيار.

 

بل إننا نحتاج في بعض الأوقات لكي نحافظ على سفينة الحياة طافية فوق سطح الماء إلى أن نستفيد من العلوم السياسية بعض قواعد فن إدارة الأزمات ونطبقها بحكمة علي حياتنا الخاصة, ومنها أن نعرف متى نتراجع عن إرادة أو رغبه لا يؤدي التمسك المتحجر بها للنهاية إلا إلى انفجار الموقف وتقطع الخيوط بيننا وبين الآخرين, وأن نكون مستعدين في بعض الأحيان للقبول بالحلول الوسط بديلاً عن الحلول المثلى الملبية لكل رغباتنا وشروطنا, وأن نتجنب في بعض الأحيان الاستجابة لاستفزازات الآخرين, ونفوت عليهم الفرصة لدفع الأمور بيننا وبينهم إلى الطريق المسدود.

 

وما تشكو منه من مشاحنات بينك وبين زوجتك ومناصرة أهلها لها ضدك .. وما تتصوره من تحريض أمها لها عليك, ونصائحها غير الحكيمة لها بشأن التعامل معك في وقت الخلاف, كل ذلك مما يمكن احتواؤه وإصلاحه وتخفيف آثاره السلبية .. والصبر على مكارهه .. إذا انعقدت إرادتك وإرادة زوجتك على إنقاذ سفينتكما من الغرق, وإنقاذ طفلكما الصغير من الشقاء وطفلكما المقبل من المصير المجهول .. وتحديد الهدف الذي يستحق أن يسعى إليه الإنسان بكل ما يملك من جهد وطاقه يؤدي به بالضرورة إلى استبعاد الوسائل التي لا تعينه على بلوغ الهدف .. وإنما في كل الوسائل التي تقربه منه .. فإذا اتفقنا على أن الهدف الأساسي لك ولزوجتك ينبغي أن يكون هو إنقاذ حياتكما الزوجية من الانهيار وطفلكما والجنين القادم من عالم الغيب مما يتهددهما من تمزق وحيرة وضياع إذا حدث الانفصال بينكما, فإن ذلك يفرض على كل منكما أن يتنازل عن كل الأهداف الصغيرة الأخرى له كهدف الانتصار الرخيص في معركة قهر إرادة الطرف الآخر وإملاء الرغبات وفرض الشروط وأن يركز جهده على كل ما يقرب وليس ما يفرق بينكما.

 

وقديمًا قال الأديب الانجليزي لورد جون أوبك أفبي, أن الفشل الشريف خير من الفوز الرخيص

وتطلع كل منكما الآن في هذا الموقف المتأزم لفرض إرادته على الآخر دون أي تنازل من جانبه وإلا وقع الانفصال ولن يكون إذا تحقق على حساب مصير طفلكما وجنينكما سوي فوز رخيص, الفشل في تحقيقه أشرف كثيرًا من النجاح فيه.

وفشل كل منكما الآن في إملاء رغباته على الآخر إذا كانت نتيجته الحتمية هي توصلكما معًا لحل وسط واستعادة الوفاق بينكما وعودة طفلكما للحياة بينكما بلا قلاقل ولا اضطرابات هو عين الفشل الشريف الذي يحق لكل ذي قلب حكيم منكما أن يفتخر به ويحتسبه من فضائله وليس من مواقف ضعفه أو هزائمه.

ولهذا كله فإني أدعوك أنت وزوجتك وأهلها إلى كلمة سواء تتوصلون معها بإذن الله إلى تبديد غيوم الخلاف والشقاق بينك وبين زوجتك وإعادة الأمان والاطمئنان لحياتكما وطفلكما وجنينكما المقبل مع رجائي الحار لزوجتك إذا ما نشب بينكما في المستقبل أي خلاف ــ أن تعفي طفلكما البريء من الشهادة عليه .. وأن تؤمن مع العقلاء والرحماء من الآباء والأمهات بأن أثمن ما يقدمه أب وأم لأطفالهما ومهما يكن نوع العلاقة بينهما, هو طفولة سعيدة خالية من الآلام .. والأحزان .. والمؤثرات السلبية الكريهة, وليست طفولة معذبة شقية حافلة بمثل هذه الشهادات اللا إنسانية!

 ·       نشرت في جريدة الأهرام "باب بريد الجمعة" عام 1998

راجعها وأعدها للنشر / نيفين علي


Neveen Ali
Neveen Ali
كل ما تقدمه يعود إليك فاملأ كأسك اليوم بما تريد أن تشربه غداً
تعليقات