الصمت الرهيب .. رسالة من بريد الجمعة عام 1994
نحن نجيد تحكيم العقل
والحديث بمنطق عقلاني بارد وقاس أحياناً لا يأبه بالمشاعر الإنسانية كثيراً حين
يكون تطبيقه في صالحناً، وتختلف المفاهيم علي الفور، فنتحدث بمنطق الرحمة والعطف
والإنسانية إذا كان ذلك في صالحنا.
عبد الوهاب مطاوع
أنا سيدة في السابعة
والعشرين من عمري, والدي رجل جامعي مثقف, يمارس عملاً تجارياً ناجحاً, ووالدتي
سيدة مثقفة وطيبة , فنشأت في بيت يسوده الحب والتفاهم بين الأبوين من ناحية, وبين
أبنائهما الأربعة من ناحية أخرى, وتقدمنا جميعاً في دراستنا حتى حصلت على الثانوية
العامة بمجموع كبير, والتحقت بإحدى كليات القمة بالقاهرة وغادرت مدينتي
الساحلية لأقيم في العاصمة بالقرب من كليتي, وواصلت حياتي الجادة حريصة على ألا
أدخل في أي علاقات أو مهاترات إلى أن وصلت إلى السنة النهائية بكليتي, فدعتني ذات
يوم طالبة صديقة إلى حفل عيد ميلادها, ولبيتُ الدعوة, ووجدت في بيتها عدداً من
الزميلات والزملاء وقدمتني خلال الحفل إلى مهندس شاب, عرفت منها أنه ابن عمها
وتحدثت معه من باب المجاملة لحظات, ثم انصرف كل منا إلى حال سبيله, وبعد أيام نسيت
هذا الحفل, ومن التقيت به ففوجئت بهذه الصديقة التي لا تدرس في كليتي نفسها, تأتي
إليّ في الكلية ومعها ابن عمها, فتحدثت إليها وإلى قريبها دقائق, وعرض هو أن
يوصلني إلى البيت بسيارته فاعتذرت له, وانصرف وبعد أيام رجع مرة أخرى, وطلب منّي
أن يلتقي بي خارج أسوار الجامعة لأنه يريد أن يتحدث معي في أمر مهم, فطلبت منه أن
يحدثني فيما يريد ونحن واقفان في الكلية, وإلاّ فلينصرف مصحوباً بالسلامة, فاعتذر
وانصرف.
وفي نهاية الأسبوع سافرت
إلى أهلي في المدينة الساحلية كعادتي الأسبوعية, وقررت البقاء بينهم فترة لمراجعة
دروسي استعداداً لامتحان السنة النهائية, فأبلغني أبي أنه جاء مهندس شاب يعمل مع
أبيه, وطلب يدي منه فعرفت على الفور أنه الشاب الذي رفضت الخروج معه من الكلية,
واعتقدت أنني لن أراه مرة أخرى, فإذا به قد غادرني ليخطبني من أبي, وأسعدني ذلك
كثيراً ورأيت في تصرفه نبلاً وأمانة, ووجدت فيه كل المميزات التي أتمناها لنفسي في
شريك حياتي, فهو شاب وسيم وطيب ومتدين وعلى خلق.
وبدأت حياتي الزوجية معه,
ووطنت نفسي منذ البداية على أن أتقبل بعض التغيرات المتوقعة في شخصية زوجي بعد
الزواج, إذ ليس معقولاَ أن تستمر الحياة بيننا كما كانت بنفس لمساتها الرومانسية
في شهر العسل, ولابد أن تحدث بعض الخلافات العادية بيننا من حين لآخر, ففوجئت بأن
زوجي لم يتغير فيه شئ عن الشاب الذي عرفته في مرحلة الخطبة وشهر العسل, فقد ظل
الزوج الطيب الشهم الحنون العطوف, الذي يعرف ربه ويخشاه ويفهم الرجولة بمعناها
الصحيح, ولا يدّخر جهداً لإسعادي ولا يستريح إلاّ حين يراني سعيدة ومبتهجة, فكانت
النتيجة الضرورية هي أنني قد أحببته بكل ذرة في كياني, ومضى من عمر زواجنا ثلاث
سنوات, لم نتخاصم أو نتشاجر خلالها مرة واحدة اللهم سوى مرة عابرة عاتبته فيها على
شيء لا أذكره الآن, فلم تمض ساعة حتى كنا قد تصالحنا ونسيناه.
لكن دوام الحال من المحل
فيما يبدو يا سيدي, فلقد تأخرنا في الإنجاب, وسألني زوجي إذا ما كنت أعارض في عرض
نفسي معه على الطبيب, فلم أجد سبباً للاعتراض وذهبنا معاَ وأجرينا التحاليل
المطلوبة لكل منا, وذهب زوجي لتسلم نتائج التحاليل فلم يعد في موعده الطبيعي,
وتأخر أربع ساعات كاملة, ثم رجع إلى البيت في منتصف الليل واجماً وشارداً, وأسرعت
أسأله عن سبب تأخره فأشار إليّ بيده بما معناه أنه لا شيء, وتركني واتجه إلى
الصالون رافضاً تناول العشاء, ووقفت أنتظر أن يدعوني للحديث معه أو يصارحني بما
يشغل خاطره, وتركزت شكوكي كلها في نتيجة التحاليل, وعرفت أنها لابد قد كشفت عن عدم
قدرتي على الإنجاب, وأنه يشفق عليّ من إبلاغي بذلك, وبعد وقت طال عليّ برغم قصره
دعاني وطلب مني الجلوس ليحدثني في أمر مهم, فرأيت عينيه لأول مرة منذ عرفته
مغرورقتين بدمع يكافح لكي يكبحه, وقال لي إنه تسلم نتائج التحاليل وعلم من الطبيب
أنه غير قادر على الإنجاب, وأن العلاج في مثل حالته ليس مضموناً, في حين أنني
قادرة على الإنجاب بلا أي عوائق, ولهذا فهو لا يستطيع أن يظلمني ويحكم عليّ
بالحياة معه دون إنجاب, ولابد لنا من الانفصال حتى أجد فرصتي مع غيره وأتزوج وأنجب
أطفالاً, وسوف يعوضني مادياً ويؤمن مستقبلي ويقدم إليّ ...إلخ.
فلم أسمع بقية كلامه
وانهرت باكية وقبلت يديه ورجوته وتوسلت إليه ألاّ يتركني, لأنني لا أحتمل الحياة
بدونه أو مع أي إنسان آخر سواه, فإذا كان يريد أن يطلقني لأنه قد كرهني أو لا
يريدني فليصارحني بذلك, وسوف أتقبل أقداري صابرة, أما إذا كان يريد طلاقي لأنني لن
أنجب منه أطفالاً لا يعلم إلاَ الله ما إذا كنت سأرزق بهم أم لا؟ حتى لو كان
قادراً على الإنجاب, وهل سيكونون صالحين أم طالحين, فإني أرفض الطلاق بكل إصرار,
ولا أريد إلاّ أن تستمر حياتي مع الرجل الأول والوحيد الذي أحببته.
وحدثني طويلاً عن أنه لا
يريد أن يظلمني ويحرمني من الأطفال, فطلبت إليه بإصرار ألاّ يشير إلي هذا الموضوع
مرة ثانية, واستجاب لرجائي بعد جهد جهيد, وعدنا إلى حياتنا السعيدة, وبذلت كل ما
أملك من جهد لإشعاره بأنه لا يظلمني بحياتي معه, بل إنه يظلمني إذا حرمني منه,
وشيئاً فشيئاً عاد الأمان والسلام إلى حياتنا من جديد, وسافرنا معاً في إجازة
وعدنا منها وكل منا أكثر حباً للآخر عن ذي قبل, ومضت أربعة شهور, ثم زارتنا أمه في
بيتنا ودخلت إليها في الصالون لأرحب بها, ففوجئت بها تقابلني بسيل من الاهانات
وعبارات الاستهجان لأنها اكتشفت أخيراً أننا قد عرضنا أنفسنا منذ شهور على الطبيب,
وأجرينا تحاليل الإنجاب وأخفينا الأمر كله عنها طوال هذه الفترة, مما يؤكد بوضوح
أن النتائج قد كشفت عن عجزي عن الإنجاب, فتكتمت الأمر وواصلت حياتي مع زوجي, ولا
يعني ذلك في رأيها سوى شيء واحد هو أنني إنسانة أنانية لا أحب ابنها حباً حقيقياً,
إذ لو كنت أحبه حقاً لما رضيت له بأن يعيش كل حياته محروماً من طفل يتمناه, وهو
الشاب القادر على الإنجاب ولم يبلغ الثلاثين بعد من عمره, ولو كنت أحبه حقاً
لأجبرني هذا الحب نفسه علي أن أتركه لكي ينال حظه من الدنيا مع غيري من الفتيات
القادرات على الإنجاب, فينجب طفلاً واثنين ويستمتع بالأبوة والبنوة كغيره من
الرجال.
وعقد الذهول لساني ولسان
زوجي فلم ينبس أحدنا بكلمة واحدة.
ووسط ذهولي رأيت وجه زوجي
يمتقع ويكتسي بألم شديد, بسبب الصراع الذي يدور داخله, فبكيت ورجوت أم زوجي باكية
أن تصمت وتكف عن الحديث في هذا الموضوع, فلم تكف ولم يلن قلبها لدموعي الغزيرة,
ولم تعطني أية فرصة للكلام, وواصلت الحديث في الموضوع نفسه بالكلمات نفسها تقريبا,
أو أشد منها حتى لم أعد أشعر بما حولي, وأغمي عليّ وهي لا تزال تتكلم وأسمع بعض
عباراتها المؤلمة وأنا بين اليقظة والإغماء, وانزعج زوجي بشدة وراح يحاول إفاقتي
برش الكولونيا على وجهي, فأفقت من إغماءتي على صوت زوجي وهو يقول لأمه في ألم
شديد, إنه المسئول عن عدم الإنجاب وليست زوجته, وإن تحاليله موجودة ويستطيع
إطلاعها عليها إذا أرادت, ويستطيع أيضاً اصطحابها إلى الطبيب الذي أجراها له لتتأكد
مما يقول, فلم تنطق أمه بحرف واحد وصمتت عاجزة عن الكلام, وساد الجلسة صمت رهيب,
قطعته بعد دقائق بنهوضها لمغادرة البيت دون كلام مخلّفة وراءها_سامحها الله_
بركاناً هائجاً لم يخمد بعد ذلك أبداً في بيتنا الذي كان سعيداً, فلقد صمم زوجي في
الليلة نفسها على طلاقي دون تردد, لأنه اعتبر ما قالته لي أمه_متصورة أنني السبب
في عدم الإنجاب_ عن الأنانية وحب الذات والحب الحقيقي وظلم الطرف الآخر وحرمانه
إلخ موجهاً إليه هو, وبالتالي فإن كرامته وشرفه يأبيان عليه أن يكون هو هذا
"الطرف الأناني", الذي تحدثت عنه أمه طويلاً وهي تتصور أنه أنا وليس
ابنها.
وقد حاولت معه المستحيل
لإثنائه عن نيته وفكرته, وقلت له إنني أعذر أمه فيما قالت لأنها أم في النهاية,
ولكن بلا جدوى ولا أمل فلقد أصر على أنها _برغم إساءتها لي_ قد نطقت بالحق ومن
الأمانة ألاّ يتنكر هو لهذا الحق , لأنه ينطبق عليه وليس عليّ كما كانت تتصور أمه.
وبعد رجاء وتوسلات طويلة
لم تثمر محاولاتي معه سوى عن تأجيل اتخاذ أية خطوة مصيرية في حياتنا لمدة شهر
واحد, يراجع خلاله كل منا نفسه وموقفه, ويعمل بما يهديه إليه عقله وقلبه وضميره,
ووافق على ذلك لكنه أصرّ على أن أقضي هذا الشهر إما وحيدة في شقتنا على أن يغادرها
هو إلى بيت أهله, أو أتوجه إلى مدينتي للإقامة بين أهلي, حتى لا يشكل وجوده أمامي
ضغطاً نفسياً عليّ يؤثر على قراري , وحتى لا يضعف هو من ناحية أخرى أمامي, وفضلت
العودة إلى أهلي وعلمت أمي بالأمر الذي تكتمته طويلاً عنها فاتهمتني بالجنون, إنني
سأصيبها بالحسرة حين أحرمها من أول أحفادها وأحرم نفسي من الأطفال.
وأنا الآن أقيم في بيت
أسرتي, وقد مضت من مهلة الشهر عشرة أيام لم تكف خلالها أمي عن البكاء حزناً على
شبابي الذي سيضيع هدراً من دون ولد يرعاني في شيخوختي, كما تقول لي, وزوجي يتصل بى
كل يوم للاطمئنان عليّ, لكنه لا يزال عند رأيه.
ولست أقول لك إنني في
حيرة من أمري , وأريدك أن تساعدني على الاختيار الذي لا أندم عليه فيما بعد بين
زوجي, وحياة أخرى تقدم لي الولد والإنجاب, لا يا سيدي لن أقول لك ذلك لأنني لم
أتردد أمام الاختيار لحظة واحدة, ولأنني أعرف ما أريد جيداً وهو زوجي الذي لم ولن
أحب سواه , فلست في الحقيقة أرى الظلم في أن تستمر حياتنا معاً كما يرى زوجي,
وإنما أراه في أن يحرمني منه ومن حياتي معه لهذا السبب وحده.
ولكـاتبة هـذه الـرسـالة أقـول:
حاشاي أن أفعل يا سيدتي,
حتى ولو كنت أرى أنك قد عبرت عن نفسك وعن تمسكك بزوجك بأفضل مما تستطيع كلماتي أن
تؤثر عليه, وما لا ينبغي له إلاّ أن يقابله بعدم التفريط فيك مهما كانت أسبابه
للتضحية بسعادته معك,طلباً لما يتصوره مصلحتك الشخصية على المدى البعيد.
إن الحب الحقيقي في أنبل
وجوهه, هو إيثار وترجيح سعادته ومصلحته على سعادة الطرف المحب, وزوجك يا سيدتي
يحمل لك هذا النوع النبيل من الحب, وأنت أيضاً بغير شك.
لكنكما تعرضتما لموقف
شديد الإيلام لكما معاً ولزوجك على وجه الخصوص, وبسبب تدخل أمه في حياتكما على هذا
النحو المحرج, فلم يجد أمامه استشعاراً لمسئوليته عنك وترفعاً عن أن يكون الطرف
الأناني في العلاقة, إلاَ أن يقدم لك هذا "التضحية" التي طالبتك بها
أمه, وهي تتصور أنك أنت المسئولة عن حرمانه من الإنجاب وليس هو.
لقد استشعر زوجك حرجاً
إنسانياً مؤلماً من حديث أمه عن الحب الحقيقي والتضحية, التي يفرضها هذا الحب, إذا
كانت فيها سعادة الطرف الآخر , فأراد أن يبرّي نفسه وذمته من هذا الأنانية الذميم,
التي اتهمتك بها ظلماً أمه, ورأي هو أنه الأجدر هذا الاتهام الجارح عن نفسه.
لكن ما معني أن يفرض عليك
زوجك النبيل هذه التضحية من أجلك, إذا كنت أنت نفسك ترفضينها ولا ترين فيها سعادتك
ولا مصلحتك في المدى القريب أو البعيد؟
إن التضحية إذا كانت لا
تطلب ممن ينبغي أن يقدمها, وإنما تجيء طواعية منه , فإنها أيضاً وبهذا المنطق نفسه
لا تفرض على من تقدم إليهم إذا كرهوها, أو رأوا فيها تعاستهم وشقاءهم.
والعدل الذي يدفع زوجك إلى
تقديم تضحيته هذه لك, هو نفسه الذي يفرض عليه أن يتنازل عن تضحيته مشكوراً إذا
رفضها الطرف الآخر بإصرار, ولم ير فيها إلاّ شقاءه.
ذلك أن غاية الحياة هي
السعادة المشروعة, التي لا تتعدى على سعادة الآخرين ولا تجترئ على حدود الله, وكل
ما يحقق سعادة الإنسان في هذا الإطار مطلوب ومرغوب, ولهذا فلا مبرر أن يحرم زوجك
نفسه منك ويحرمك منه, لأنه يتحرى ألاّ يظلمك بعدم الإنجاب وترين أنت أن الظلم
الحقيقي هو أن يهدم أسرتك السعيدة لمثل هذا السبب وحده.
إنه اختيارك الشخصي يا
سيدتي , ولقد كان زوجك عادلاً وأميناً حين أصرّ على أن تراجعي نفسك في قرار
استمرار زواجكما بعيداً عن كل المؤثرات العاطفية, التي يمثلها قربه منك, حتى
تتوصلي إلي اختيارك النهائي لحياتك, بعد تفكير منطقي هادئ لا يتأثر بالحرج
الإنساني المألوف في مثل هذه الظروف.
ولقد أدى بذلك واجبه
تجاهك بأمانة وأرضى ضميره, لكن هذه الأمانة تفرض عليه أيضاً أن يلتزم بالقرار الذي
تتوصلين إليه بعد مراجعة النفس والتفكير الهادئ, وهو معروف مسبقاً إذ "لا يأبى
الكرامة إلا لئيم" كما يقول الشاعر, و"الكرامة" هنا بمعنى التكريم
وزوجك إنسان رشيد سوف يفهم معنى تمسكك به, ورغبتك في مواصلة رحلة الحياة معه, لكنه
أراد في تقديري أن يتأكّد فقط من أنه قرار العقل والقلب معاً, الذي لا تندمين عليه
بعد ذلك أبدا.
ولا لوم عليه فيما يفعل
بهذا الشأن, فمن حقه أن يطمئن ضميره إلى أنه اختيارك النهائي بلا أي ضغوط نفسية أو
عاطفية, ولا لوم عليك في اختيارك له بعد هذا الاختبار الذي تعرضتما له معاً, فالسعادة
_كما يصفها لنا المفكر الفرنسي مونتسكيو_ استعداد شخصي لدى الإنسان للإحساس
بالحياة الملائمة, أيّا كان نوع هذه الحياة, فإذا توافر لديه هذا الاستعداد , فإن
عوارض الحياة المختلفة كالثروة والصحة والمرض, ومراتب النجاح إنما تزيد أو تقلل من
سعادته, وإذا لم يتوافر لديه هذا الاستعداد, فإن عوارض هذه الحياة إنما تزيد أو
تقلل من شقائه وتعاسته فقط.
وأنت تشعرين بأن حياتك مع
زوجك هي الحياة الملائمة لك, حتى ولو خلت من الأبناء,ومؤكّد أيضاً أنه في أعماقه
يشعر بذلك, فلماذا إذن يحرم أحدكما الآخر من هذه الحياة الملائمة؟
والحرمان من الإنجاب في
النهاية ليس نهاية الدنيا, وما أكثر سبل التعويض النفسي عنه وفي حياتك, كما تلمسين
الكثير من أسباب السعادة الأخرى التي تعوضك عن المفقود أو تقلل من إحساسك به؟ إن
الله سبحانه وتعالى يعطي ويأخذ كما تقولين في رسالتك, ومن عطائه لمن حرموا الإنجاب
أن يعوضهم دائماً بالحب الزوجي الصادق, والاختيار الإرادي الحر لاستمرار الحياة
الزوجية بينهم, بلا أية ضغوط اضطرارية كمصلحة الأبناء الذين لولاهم لما استمرت
زيجات أخرى, خلت من الحب والتفاهم والعشرة الطيبة.
فلماذا يحكم زوجك الشهم
على نفسه بالشقاء, وفي مقدوره أن ينال السعادة وألا يحرمك منها, ومن أدراه حتى في
أبعد الاحتمالات أن ما يظنه مستحيلاً الآن لن يكون ميسوراً بأمر ربه بعد حين؟
يا صديقي زوج هذه السيدة
المحبة المخلصة: إن لأحد كرادلة روما في القرن الثامن عشر تعبيراً جميلاً كثيراً
ما أتأمله, يقول فيه: ليس هناك شخص لا يزوره الحظ السعيد ولو لمرة واحدة على الأقل
في حياته, لكنه إذا لم يجده مستعداً لاستقباله فإنه يدخل من الباب ويخرج من
النافذة !
وحظك السعيد هو هذه
الزوجة المحبة, التي لم تترد لحظة أمام اختيارك حين خيّرتها, فلماذا تدعه يفلت من
يديك ثم تندم عليه حين لا ينفع الندم بعد ذلك؟ شيء أخير أختم به تعليقي على هذه
الرسالة, هو أنني كنت شغوفاً للغاية بأن أعرف رأي أم زوجك في مفهوم الحب الحقيقي ,
الذي يفرض على الإنسان أن يضحي بسعادته من أجل من يحب وإلاّ كان أنانياً, بعد أن
عرفت أن من كان ينبغي أن تتوجه إليه بهذه المحاضرة القاسية هو ابنها وليس زوجته.
لقد كنت أتلهف حقاً لأن
أعرف, بعد أن تغيرت الأدوار وأصبحت التضحية مطلوبة من ابنها لا من زوجته, لكنها لم
ترو ظمئ للأسف لذلك, واكتفت بالصمت العاجز وقد كنت أود أن أسألها بشغف شديد عن
رأيها في زوجة ابنها لو كانت هي التي طلبت الانفصال بسبب عدم الإنجاب فآذت مشاعر
ابنها, وحكمت عليه بالتعاسة؟ إنني أفهم بغير شك أسبابها فيما فعلت ورغبتها كأم في
أن يتحقق لأبنائها الحد الأقصى من أسباب السعادة, حتى لو تعارض ذلك مع سعادة
غيرهم, إلاّ أنني لا أستطيع _برغم ذلك_ أن أمنع نفسي من تأمل هذه المفارقة
الغريبة, التي تكشف لنا عن أحد أسباب الشقاء الإنساني الشائع, فالكارثة هي أننا
جميعاً نحسن الحديث عن التضحية حين تكون مطلوبة من غيرنا, أو من غير أعزائنا
,وتعجزنا الكلمات إذا كان هؤلاء الأعزاء هم المطالبين بهذه التضحية العادلة,التي
طالبنا بها غيرهم, وأفضنا في الحديث عن عدالتها.
كما نجيد أيضاً تحكيم العقل والحديث بمنطق عقلاني بارد بل وقاس أحياناً, لا يأبه بالمشاعر الإنسانية كثيراً حين يكون تطبيقه في صالحنا وصالح أعزائنا, وتختلف المفاهيم على الفور فنتحدث بمنطق الرحمة والعطف والإنسانية التي تطالب الجميع بألا يحاسبوا أحداً علي أقداره, التي لم يردها لنفسه, إذا كان ذلك مع الأسف في صالحنا وصالح أعزائنا, وبين تعارض هذين المنطقين وتنقلنا بينهما حسب الحاجة, ومع تجاهلنا في أحيان كثيرة للمبدأ الإنساني العادل الذي طالبنا به الأنبياء جميعا, ويقضي بأن نكره لغيرنا ما نكرهه لأنفسنا,إذا وضعتنا الظروف في موقفهم نفسه,تتولد أسباب عديدة للشقاء الإنساني وتتضاعف آلام الحياة بكل أسف.
شارك في
إعداد النص / بسنت محمود
راجعها وأعدها للنشر / نيفين علي
برجاء عدم النسخ احتراما لمجهود فريق العمل في المدونة وكل من ينسخ يعرض صفحته للحذف بموجب حقوق النشر