الاتهام الصامت .. رسالة من بريد الجمعة عام 1990
أسوأ ما يفعله المرء بنفسه...هو أن يضيف إلى خسائره القدرية التى لا
حيلة له فيها...خسائر إضافية من صنع يده هو.
عبد الوهاب مطاوع
أنا سيدة فى
الثلاثين من عمري .. تزوجت منذ سبعة أعوام .. وأنجبت بعد عام من زواجي طفلة جميلة
كالملائكة .. وكنت أعمل في مصنع
للغزل والنسيج .. فعشنا
أنا وزوجي وطفلتي حياة سعيدة يرفرف علينا الحب والوئام والتفاهم, ونجتمع كل ليلة في
جلسة عائلية سعيدة فلا يكون بيني وبين زوجي حديث إلا عن طفلتنا الجميلة .. ماذا
فعلت وماذا قالت وماذا أضحكها .. وماذا أبكاها .. ونروي عنها كلماتها كأنها من
جوامع الكلم .. ونستعيد طرائفها ونضحك لها ومعها كثيراً, وبعد أربعة أعوام من زواجي
بدأت أشكو أعراض برد سخيف وأسعل بشدة .. وتناولت أدوية البرد والكحة المعروفة فخفت
الأعراض قليلا, لكن السعال استمر ولازمني بعد ذلك بصفه شبه دائمة .. ولم ألتفت
إليه طويلا وواصلت حياتي بين عملي وبيتي وزوجي وطفلتي.
ثم جاء عيد ميلاد ابنتي .. فرتبت لها حفلا
صغيراً لا يضم أحدا سواي وزوجي .. وصنعت لها تورتة صغيرة واشتريت لها هدية بسيطة واجتمعنا
في المساء حول التورتة .. وأطفأنا مع ابنتي شموع عمرها القليلة, وقدمت لها هديتها
وقبلتها تهنئة بعيد ميلادها ومتمنية لها حياة سعيدة طويلة .. وبعد يومين من عيد
ميلادها, بدأت ابنتي تسعل مثلي فأعطيتها دواء الكحة .. أما أنا فقد اشتدت وطأة
السعال على فتراته وأرهقت صدري .. وذات يوم انتابتني نوبة سعال عنيفة .. وفزعت حين
رأيت خيطا من الدم يخرج من فمي بعدها, ففزع زوجي معي وذهبنا إلى الطبيب ففحصني ثم
صارحني بأن سعالي ليس مجرد عرض من أعراض البرد, لكنه درن أصاب رئتي فتجلدت .. والتزمت
بتعليماته وتناولت العلاج والحقن التي وصفها لي بانتظام .. وبعد شهر بدأت أتماثل
للشفاء, وبعد ثلاثة شهور من شفائي كنت مع زوجي وابنتي جالسين أمام التليفزيون
فانتابت طفلتي نوبة حادة من السعال .. راحت تكتمها بيدها .. فجذبت يديها لأرى ما
بها فإذا بخيط من الدم اللعين يسيل على كفها الصغيرة .. فأسرعنا نحملها إلى الطبيب
الذي صدمنا بأنها مريضة أيضا بالدرن .. وأنه قد بلغ منها درجة متأخرة جدا .. وأنها
تحتاج إلى دخول المستشفى فأدخلناها المستشفى على الفور .. ورافقتها فيه ليل نهار
لا يكاد يغمض لي جفن .. وأنا أتعجب كيف ومتى انتقل إليها المرض .. وكيف أخفت عنا
أن سعالها به دم .
وفى حيرتي وعذابي أسأل نفسي هل كانت قبلتي لها
يوم عيد ميلادها هي قبلة العدوى التي نقلت إليها هذا الوحش .. ومضت الأيام في
المستشفى وهى بلا تحسن كبير .. وكنت أرقبها طوال الليل والنهار ولا أغفو إلا قبيل
الفجر حين يغلبني النوم على أمري .. وبعد أسبوع صحوت من إغفاءة الفجر هذه فوجدتها
ساكنه في فراشها .. بلا سعال ولا أنين .. فاطمأننت عليها وفكرت في العودة للنوم
قبل أن تعاودها نوبة السعال التالية .. لكن هاجسا هجس في صدري أن أضع يدي على
جبينها .. فإذا بها باردة كالثلج .. فهززتها لم تصح .. فصرخت من أعماقي .. صرخة
جمعت حولي في الغرفة كل من كان قريبا منا .. وجاء الطبيب وفحصها .. ثم طلب خروجي
من الغرفة .. لقد رحلت ابنتي في هدوء خلال إغفاءتي القصيرة .
ولكاتبـة هذه
الرسالة أقول:
أسوء ما يفعله المرء
بنفسه .. هو أن يضيف إلى خسائره القدرية التي لا حيلة له فيها .. خسائر إضافية من
صنع يده .. ولقد فعلتما ذلك بكل أسف أو فعل زوجك على الأصح بعد محنتكما .. إذ بدلا
من أن يحاول أن يخفف عن نفسه ما يعتصره من آلام .. أضاف إلى معاناته معاناة جديدة
بمعايشة هذا الإحساس المؤلم .. وبمكابدة جفاف الحياة في عش تحول فيه طائراه
الأليفان إلى غريبين لا يعرف كل منهما الآخر.
إننا لسنا في
محاكمة جنائية يا سيدتي لكي نسأل وندقق ونحدد من المسئول عما جرى .. وهل أنت
المسئولة عنه وحدك أم أنتما معاً لأنكما لم تكتشفا حقيقة مرض الملاك الراحل في
الوقت المناسب .. إذا ماذا يفيد تحديد المسئوليات وأنتما الخاسران معا .. وكلاهما
مفجوع في فقد وحيدته أياً كان المسئول وأياً كانت المسئولية .. لقد قدر الله وكما
شاء فعل يا سيدتي .. وإذا كان زوجك في غمرة آلامه قد نسي بعض حقائق الحياة, فليذكره
مُذكر بأن عمر الإنسان مسجل عليه وهو جنين في بطن أمه كما جاء في الأحاديث القدسية
.. تعددت الأسباب .. والموعد المقدور واحد .. وليس هناك وقت يحتاج فيه
الزوجان إلى عطف كل منهما على رفيق دربه ومساندته له كهذا الوقت العصيب الذي تمران
به الآن .. فلتنسيا معا حديث المسئولية .. فلا ذنب لأحدكما فيما جرى .. ولو اكتشفتما
معا المرض في بدايته لما تغير القدر المقدور شيئا .. ولما تأخر طرفة عين عن موعده ..
فليضمد كل منكما جراح الآخر .. وليزيد اقترابا منه .. وتفتحا للحياة من جديد .. واستشيروا
الطبيب في كل خطوات حياتكما المقبلة .. فكم من أزواج وزوجات روعوا في بداية حياتهم
بفقد الأعزاء .. فتصبروا وتجلدوا .. ولم يتبادلوا الاتهامات .. فأنبت الله في
خمائلهم زهوراً جديدة مسحت على أحزانهم .. وعوضتهم عمن فقدوا خيراً كثيراً, فليفعل
كل منكما إذا ما يفعله المتصبرون أمام اختبارات الحياة القاسية ليكون له أجرهم .. ولتقرآ
معي هذا الحديث القدسي عسى أن يخفف عنكما بعض أحزانكما .. وعسى أن يلهمكما الصواب
والرشاد في محنتكما.
قال الرسول الكريم
صلى الله عليه وسلم: " إذا مات ولد العبد قال الله لملائكته :قبضتم ولد عبدي؟
فيقولون:نعم فيقول: قبضتم ثمرة فؤاده؟ فيقولون : نعم فيقول: ماذا قال عبدي؟
فيقولون: حمدك وأسترجعك_أي حمد الله على ما كان رغم شقائه به وقال إنا لله وإنا
إليه راجعون_ فيقول: ابنوا لعبدي بيتا في الجنة .. وسموه بيت الحمد ".
أجزل الله لكما أجر المتصبرين .. وأعاد السعادة والوئام إلى عشكما.. والسلام.
شارك في
إعداد النص / بسنت محمود
راجعها وأعدها للنشر / نيفين علي
برجاء عدم النسخ احتراما لمجهود فريق العمل في المدونة وكل من ينسخ يعرض صفحته للحذف بموجب حقوق النشر