الانتقام من الماضي .. رسالة من بريد الجمعة عام 2000
خير
انتقام ممن أساءوا إلينا هو ألا نصبح مثلهم قادرين على الإساءة للغير.. وأن
نسقطهم من تفكيرنا نهائيا فلا نسمح لهم بأن يشغلوا من فكرنا ما لا يستحقونه من
مساحة حتى ولو كانت مساحة الرغبة في الانتقام منهم أو التشفي فيهم .. فالتشفي في الآخرين
(طرف من العجز) كما قال أحد الأعراب ذات يوم ناصحا الخليفة العباسي المنصور.
عبد الوهاب مطاوع
أنا شاب في الثلاثين من
عمري شاء لي القدر أن أفقد أبي وأنا طفل صغير, وأن أفقد أمي وأنا في سن المراهقة
.. فنشأت بين أخوتي وتدرجت في التعليم حتى بلغت عامي الثاني بإحدى جامعات
الأقاليم .. وفي الإجازة توجهت إلي القاهرة للعمل في الصيف, وتعرفت في دائرة
السكن بفتاة تبادلت معها الإعجاب والحب وارتبطت بها وصارحت أخوتي بنيتي الارتباط
بها, وبعد فترة أخرى خطبتها .. وأنهيت خلال عامين من الخطبة كل التزاماتي من
حيث توفير المسكن والأثاث إلخ.
وذات يوم خرجت من عملي
بالقاهرة إلي بيت خطيبتي فلم أجدها فيه وانتظرتها حتى التاسعة مساء فإذا بها تعود
وهي تضع الماكياج الثقيل الذي لم أرها به من قبل.. وسألتها عما أخرها, ففوجئت
بها تصيح في وجهي بأنها قد أنهت كل ما بيني وبينها .. وتطلب مني أن أدعها وشأنها..
وصعقت حين سمعت ذلك, وحاولت معاتبتها فلم أجد لديها أي استعداد لتقبل عتابي ..
وانصرفت حزينا .. ووسطت بعض أهلها لديها في أن تعدل عن موقفها المفاجئ ففشلت كل
المساعي .. وتم فسخ الخطبة بالفعل .. وساءت حالتي المعنوية والصحية .. وعشت
ستة أشهر كاملة وأنا شبه مريض, وانتهى الأمر بدخولي المستشفي بالفعل وإجراء
جراحة لي .. وغادرت المستشفي وقد فقدت الثقة في نفسي وفي الحب وفي كل الفتيات,
وبعد عامين آخرين تزوجت من فتاة طيبة من مدينتي الصغيرة وأنجبت منها طفلا وعشت
معها حياة هادئة وبلا مشاكل, ونظمت حياتي بحيث أقضي أيام الأسبوع بالقاهرة,
حيث أعمل وأرجع إلى مدينتي القريبة لأمضي يومين مع زوجتي وطفلي .
وبعد ثماني سنوات من فسخ
خطبتي لفتاتي القديمة التقيت بها بالمصادفة قبل أسابيع وعرفت منها أنها قد تزوجت
وأنجبت طفلا ثم طلقت ورجعت للإقامة مع أسرتها.. وبدأ مسلسل إحياء الحب القديم
وغير ذلك من سيناريو هذا الفيلم الهندي المألوف.
وقد وجدت
نفسي بعد قليل أسعى إلى خطيئتي .. أو خطيبتي الأولى وأتحدث معها عن الزواج ليس لأنني
مازلت أحبها.. وإنما لكي أنتقم منها بسبب ما فعلته بي في الماضي .. وبسبب
جحودها وتحطيمها لقلبي بلا رحمة من قبل.
وكلما استمعت إلى صوت العقل..
وصرفت النظر عن التفكير فيها وجدتني في شوق لأن أشفي غليلي منها وأن أحطم قلبها
كما حطمت قلبي, وأذاقتني مرارة الحرمان من الحب .. ومرارة جحودها وتنكرها لي ..
إنني حائر ولم أستقر بعد على رأي.. وزوجتي الطيبة تلوح لي أحيانا في مخيلتي
فيخيل إلي أنها تعاتبني وتلومني على ما أفكر فيه فماذا أفعل؟
ولكاتب هذه الرسالة أقول:
الانتقام الحقيقي من الفتاة التي حطمت قلبك وتنكرت لك من قبل ــ إن كان ثمة ضرورة للانتقام من الأصل ــ هو أن تسعد بحياتك مع زوجتك الطيبة وطفلك الصغير.. وتشعر تلك الفتاة بأنها قد خرجت من حياتك إلى الأبد .. فتعرف أنها قد خسرت السعادة والأمان معك حين ضحت بك على مذبح تقلب أهوائها وتطلعها للارتباط بغيرك, ولا عجب في ذلك فخير انتقام ممن أساءوا إلينا هو ألا نصبح مثلهم قادرين على الإساءة للغير.. وأن نسقطهم من تفكيرنا نهائيا فلا نسمح لهم بأن يشغلوا من فكرنا ما لا يستحقونه من مساحة حتى ولو كانت مساحة الرغبة في الانتقام منهم أو التشفي فيهم .. فالتشفي في الآخرين طرف من العجز كما قال أحد الأعراب ذات يوم ناصحا الخليفة العباس المنصور, وزعمك لنفسك أنك ترغب في الزواج من فتاتك القديمة لا لشئ إلا لكي تنتقم من إساءتها السابقة لك وتحطيمها لقلبك نوع من خداع النفس لا يقبل به الفضلاء لأنفسهم, إذ كيف يكون الانتقام منها بإيلام زوجتك الطيبة التي لم تسئ إليك من قبل وأعادت إليك ثقتك المفقودة في النفس وفي الجنس الآخر؟
وكيف يكون الانتقام ممن
تنكرت لك قبل سنوات, بتعريض طفلك الصغير للتمزق بين أبويه إذا ساءت الأحوال بينك
وبين زوجتك بعد ارتباطك بالأخرى وانتهى الأمر بالانفصال بينكما؟
بل كيف يكون هذا الانتقام
بأن تكسب فتاتك الغادرة زوجا يحدب عليها مهما زعم لنفسه التشفي فيها وتخسر زوجتك
المخلصة التي ضمدت جراح قلبك زوجا كانت سعيدة به وراضية عن حياتها معه؟ وأية حياة
هذه ستقوم بينك وبين هذه السيدة لو تزوجتها بنية الانتقام والإساءة فتمضي أيامك معها متوترا متحفزا بالرغبة
في الإيذاء, أو تزوجتها بنية استعادة الحب القديم فتمضي حياتك معها.. ممرورا
بذكريات الخيانة القديمة والشك في إخلاصها لك؟ يا صديقي اصرف النظر نهائيا عن
الارتباط بهذه السيدة ودعها لحياتها وأقدارها كما طلبت منك ذات يوم قبل ثماني
سنوات, ولا تفتعل الأسباب والمبررات للاقتراب منها, فلقد لفظتك وهي في عنفوان
قوتها.. وليس مما يشرفك أن تقبل الآن بك وهي في ضعفها. وشكرا.
· نشرت في جريدة الأهرام "باب بريد الجمعة" عام 2000
راجعها وأعدها للنشر / نيفين علي
برجاء عدم النسخ احتراما لمجهود فريق العمل في المدونة وكل من ينسخ يعرض صفحته للحذف بموجب حقوق النشر