المرايا .. رسالة من بريد الجمعة عام 1989

 المرايا .. رسالة من بريد الجمعة عام 1989

المرايا .. رسالة من بريد الجمعة عام 1989

لقد علمتني الأيام وما أقرؤه في رسائل بريد الجمعة أن الأبناء لا يفهمون أبدا لغة السعادة الخاصة التي يبحث عنها الزوج مهما كانت زوجته لا تحتمل .. لأنها في النهاية أمهم .. ولأنهم يريدون لأنفسهم دائما الأفضل والأحسن .. والأفضل بالنسبة لهم دائما هو الحفاظ على كيان الأسرة مهما كانت التضحيات التي يتحملها الأب والأم.

عبد الوهاب مطاوع

 

لن أبدأ رسالتي بالمقدمة التقليدية عن إعجابي ببريد الجمعة .. ولا عن تأثري ببعض ما أقرؤه فيه إلى حد أن تدمع العين لبعض المشاكل وينفطر القلب لبعضها الآخر .. فقد كنت أعتزم أن اكتب إليك مشكلتي فإذا بي أقرؤها على لسان قارئ آخر في رسالة الجائزة الثانية التي يشكو فيها كاتبها من زوجته .. وهكذا الحياة تتشابه مشاكل الناس فيها ، وتتكرر كأنها تنعكس في مرايا الآخرين ، وكأني بکاتب هذه الرسالة قد أعفاني من أن أعيد سرد قصتي عليك .. أما أكثر ما لفت نظري بوجه خاص فهو أنني كنت مثله في السادسة والأربعين من عمري حين واجهت هذا الاختيار الذي أسميته في ردك بين أن يفوز الإنسان بالجائزة الأولى للزواج وهي السعادة الزوجية .. أو يرضى بالجائزة الثانية وهي جائزة الحكمة ويصبر على ما يلاقيه من عناء وتعاسة مع زوجته .

 

ففي هذه السن نفسها واجهت مثله هذا الاختيار .. بعد أن وصلت إلى المرحلة التي نصحت فيها الزوج أن يستثير خوف الزوجة على استمرار حياتها الزوجية لكي تبذل بعض الحرص على إرضاء زوجها ونجاح الزواج ولكن التخويف والتهديد لم يجديا في ظروفي مع زوجتي لأنها مقتنعة تماما بأنها أحسن الناس وأفضلهم .. بل بأنها أفضل من الملائكة في تصرفاتها لكن عيني المريضة هي التي تعمى عن محاسنها .. فإذا ما سقت إليها حديث الرسول صلى الله عليه وسلم في وجوب طاعة الزوجة لزوجها .. كان ردها أن الرجال ، الذين قصدهم الرسول بحديثه لم يعد لهم وجود الآن !! ومع ما في ذلك من إهانة لي فقد كنت أتحملها من أجل أولادي حتى تمكن منها تماما هذا الإحساس بتفضيل ذاتها وأهلها على كافة البشر .. ولم تعد تجدي معها أية محاولات .

 

فماذا كان علي أن أفعل .. هل اكتفي بالمعاناة والصبر واجترار الآلام إلى مالا نهاية قانعا بالجائزة الثانية ؟..

لقد قررت أن اختار الجائزة الأولى وتجاوزت مرحلة التهديد إلى الزواج وتزوجت فعلا غيرها وأما كيف .. فلست أدري .. وممن تزوجت ؟.. فأي إنسانة .. فلقد كنت مشتت الفكر كصدیقی کاتب الرسالة الأولى حتى وصلت إلى مرحلة الشك في أني إنسان سيئ فعلا إلى هذا الحد .. فكيف ترضى بي إنسانة أخرى .. فإذا برحمة ربك تنتشلني من حيرتي وعذابي وإذا بابنة العشرين ترضى بي زوجا وهي سعيدة وإذا بي وقد تزوجتها منذ ست سنوات فعرفت للزواج شکلا ومعنی ومذاقا مختلفا تماما عن محنتي الأولى .. فلقد رباها أهلها على أن الزوج هو رب الأسرة المطاع وان المرأة هي السكن والمودة والرحمة .. ولا أريد الاسترسال في ذكر محاسنها حتى لا يتصور أحد أني قد فتنت بها لفارق السن بيني وبينها وهو ما لم يحدث واقسم لك على ذلك .. فماذا  حدث على الجانب الآخر ؟.

 

لقد ازداد عناد زوجتي الأولى وازداد ضجيجها الذي كان يتم داخل جدران بيتنا فامتد إلى بيوت الآخرين من الأقارب وغير الأقارب .. ووجدت في إقدامي على الزواج بعد أن أعياني أمر إصلاحها والتفاهم معها مبررا لكل تصرفاتها السابقة واللاحقة .. وازداد الهجوم علي بأني خائن للعشرة وغير معترف بأفضالها .. وغير شاكر لنعمة الله التي أنعمها علي بزواجي منها .. ثم امتد الأمر بعد ذلك إلى الاتهامات المألوفة في الظروف المماثلة من نوع أني قصرت دائما في حقوقها فلم تر معي يوما واحدا سعيدا .. ولم اشتر لها ما تحتاجه من ملابس .. بل ومن قوت ضروري أيضا سامحها الله وسامح كل من يفتری ظلما على غيره .. مع أنها لا تعمل وليس لها مصدر دخل سواي وأننا والحمد لله نعيش في مستوى معقول بين متوسطى الدخل .. ولم يقف الأمر عند ذلك .. بل بدأت في إقناع أولادي بأنني ما كنت لها يوما وأنها قد تحملت آلاما لا طاقة لبشر بها من أجلهم ومن أجل تربيتهم .. فإذا بأبنائي الذين كانوا يوبخونها بسبب تصرفاتها معي ينحازون إليها وإذا بي قد أصبحت الأناني الذي سيقتل أمهم بعد أن تصنعت المرض أمامهم وادعت أنها تأتيها الكوابيس فتنهض مذعورة .. أولادي .. البحر .. الحريقة .. قلبي .. الضغط .. منه لله !!!

 



 

ولكاتب هذه الرسالة أقول :

يفعل الزوج ما أشرت إليه من قبل وهو أن يختار بين الجائزتين إما أن يبحث عن سعادته الخاصة مهما كانت التبعات والمشاكل التي تترتب على ذلك .. وإما أن يضع مسئولياته الأسرية دائما أمام ناظريه ويضحي بسعادته الخاصة لحساب أبنائه ويرضى بجائزة الحكمة .. وأنت قد اخترت .. لكن ما اخترته قد يصلح لك ولا يصلح لغيرك . لأن لكل إنسان ظروفه الخاصة التي لا يستطيع أحد تقديرها سواه .. لهذا فأني لا أنصح حائرا بأحد هذين الاختيارين واترك دائما لضميره وقلبه ومدى قدرته على التضحية والاحتمال أن ترجح كفة أحدهما .. وان كنت أفضل شخصيا ألا ينفد صبر الزوج وألا ييأس أبدأ من المحاولة حماية للأبناء من التمزق بين الأبوين .

 

فقد علمتني الأيام وما أقرؤه في رسائل بريد الجمعة أن الأبناء لا يفهمون أبدا لغة السعادة الخاصة التي يبحث عنها الزوج مهما كانت زوجته لا تحتمل .. لأنها في النهاية أمهم .. ولأنهم يريدون لأنفسهم دائما الأفضل والأحسن .. والأفضل بالنسبة لهم دائما هو الحافظ على كيان الأسرة مهما كانت التضحيات التي يتحملها الأب أو الأم .. وقصتك خير تصوير لموقف الأبناء من هذه القضية .. فأبناؤك الذين كانوا يلومون أمهم على سوء تصرفها معك .. قد انحازوا إليها بعد إقدامك على الزواج ورأوا في ذلك أنانية سوف تقتل أمهم ، وتغلبت عاطفتهم تجاه أمهم على مشاعرهم لأنهم أحسوا أيضا انهم قد أضيروا نفسيا بزواجك من أخرى .. والأم عموما أكثر تأثيرا من الأب .. والجانب العاطفي أكثر تأثيرا عليهم في هذه الظروف من الجانب العقلاني والمنطقي .. وهو على أية حال موقف شائك وشديد التعقيد دائما .. ورسالتك على أية حال فرصة طيبة لكي نقترب من أفكار "الرجل" ، ومشاعره حين يواجه هذا الموقف العصيب وفي ذلك بالتأكيد ما يفيد بعض الزوجات .. وما يحقق بعض العدالة في طرح وجهتى النظر في المسألة ، وهي أيضا رد مناسب على بعض من يرون أني أفسح المجال في بريد الجمعة لوجهة نظر المرأة ومشاعرها في هذا الموقف .. وهو اتهام لا سند له لأني أعرض ما أتلقاه من رسائل تصور مواقف الحياة المختلفة وحيرة الإنسان الأزلية إزاءها .. فإذا كانت رسائل المرأة أكثر.. فأنها الأكثر شكوى .. والأقل حيلة في بعض الأحيان .. وان كانت رسائل الرجال أقل فلأنهم أقدر على التصرف في حياتهم حين يواجهون هذه العقبات .. لهذا فنحن نسمع فقط للمعذبين بحيرتهم .. وبعدم قدرتهم على اتخاذ القرار تقديرا للاعتبارات العديدة أما ذوو الحسم والجرأة على الاختيار مثلك .. فقليلا ما نقرأ لهم إلا بعد أن يكون السيف قد نفذ ليحدثونا عما فعلوا .. وليشرحوا دوافعهم والقادرون على الحسم قليلون دائما في كل مكان وزمان .

 

أما كاتب الرسالة الأولى .. فلا تقلق عليه .. ولعلك قد قرأت رسالة زوجته التي تشرح فيها وجهة نظرها فيما يشكو منه زوجها .. مما يفيد أنها تستشعر ضرورة التفاهم والتقارب والالتقاء معه حول نقطة وسط وهي علامة مبشرة .. تؤكد أنه لن يحتاج إلى مواجهة الاختيار وان جائزته الأولى مع زوجته وأبنائه قد أصبحت قريبة المنال بالنسبة له .. ومبارك عليه ما استحق .. وعقبى لكل المعذبين والمعذبات في كل مكان إن شاء الله .

رابط رسالة الجائزة الثانية

·       نشرت في جريدة الأهرام "باب بريد الجمعة" عام 1989

راجعها وأعدها للنشر / نيفين علي 

 


Neveen Ali
Neveen Ali
كل ما تقدمه يعود إليك فاملأ كأسك اليوم بما تريد أن تشربه غداً
تعليقات