الشجرة الجدباء .. رسالة من بريد الجمعة عام 1999
يجب أن يسلم العقلاء والرحماء فى كل
مكان وزمان، من أنه لا تناقض هناك بين وفاء الأبناء لأبويهم وبين إستقلالهم
بحياتهم وسعادتهم مع شركاء الحياة.
عبد الوهاب مطاوع
أنا سيدة على
وشك أن أبلغ الثلاثين من عمري .. لي أخ واحد، وقد نشأنا يتيمين فلم نر أبانا الذي
توفي في طفولتنا المبكرة ، ولم نعرف سوى أمنا التي سرعان ما تزوجت ونحن طفلان
صغيران زواجا عرفيا ، وكادت تنجب من زوجها لولا أنها أجهضت نفسها في اللحظة
الأخيرة .. وطلقت منه ، وعاشت بلا زواج . وعلى الرغم مما قد يوحي به ذلك من أمومة
وعطاء ، فلقد كان واقع الحال مختلفا كثيرا عن هذا الإيحاء ، فلم نشعر ذات يوم بدفء
حضنها ، ولا أتذكر أنها أخذتنا ذات مرة في نزهة أو إلى المصيف ، وإنما كان كل همها
هو العمل وكسب النقود .. ولا اعتراض لنا على ذلك، لولا أنها في سبيل ذلك قد قطعت
كل علاقاتها بأقاربنا ومعارفنا ، فنشأنا كأننا ورقتان في شجرة جدباء لا أوراق لها
، وكان عذرها الوحيد في ذلك هو أنه لا وقت لديها لمثل هذه العلاقات .. وأيضا لأنها
كانت تستأثر لنفسها بما تكسبه وترى ذلك حقا مطلقا لها دوننا ، وكان قولها الدائم
لنا : إنها قد أدخلتنا المدارس لكي
يقول
عنها الناس إنها - وهي الأرملة الوحيدة - قد عرفت كيف تربي أبناءها بأفضل مما يفعل
بعض الرجال .
ومضت الحياة
بنا بخيرها وشرها، وخلت دائما من حنان الأم ودفء المحبة .. وحفلت بالمشاكل التي
تفتعلها معنا لأتفه الأسباب ، وبالقسوة الشديدة علينا ، إلى أن أنهينا دراستنا
وعملنا .. وبدأ كل منا يتطلع لأن تكون له حياته الخاصة .. وارتبط أخي بفتاة رغب في
الزواج منها ، فكان يوم خطبته مناحة عند أمي لأنه ليس من العدل - کما قالت - أن
تنفق على ابنها طوال العمر وتربیه ، ثم تجيء فتاة غريبة لكي تأخذه على الجاهز !..
وكانت فترة خطبة أخي فترة معاناة شديدة وجهاد رهيب لاستكمال مشوار الزواج ، أكثرت
خلالها من افتعال المشاكل مع خطيبته وأهلها إلى أن نجح بمعجزة في إتمام الزواج
والاستقلال بحياته .
أما أنا فلقد أذاقتني الأمرين خلال فترة خطبتي
مع أنها هي التي أحضرت إلي العريس ووافقت عليه قبل أن ألتقي به ، ثم رأيته فوجدته
إنسانا ممتازا، وكان دافعي الأول للارتباط به هو رغبتي في الخروج من الجحيم الذي
أعيش فيه معها .. وكالعادة ، افتعلت أمي المشاكل الكثيرة مع خطيبي وأهله خلال فترة
الخطبة ، وحين اقترب موعد زواجي منه أصرت على فسخ الارتباط من أساسه ، وكان منطقها
العجيب في ذلك هو كيف تربي وتشقى في تربية ابنتها ثم يجيء رجل غريب ويستمتع بثمرة
شقاء السنين بعيدا عنها ؟! وحين فشلت كل محاولاتها لإفشال هذا الزواج ولمست إصراري
على إتمامه ، جمعت كل ملابسي - التي اشتريتها أنا من مرتبی - وكل أشيائي الخاصة
حتى الهدايا التي تلقيتها من صديقاتي في الجامعة وكل جهازی والأشياء التي اشتراها
لى أقاربي الذين كانوا يعطفون علي وعلى أخي لعلمهم بقسوة أمي علينا، ثم وضع كل ذلك
في غرفة وأغلقت عليه الباب بالمفتاح ، وخيرتنی بين فسخ هذا الارتباط أو الخروج إلى
زوجی بلا شيء من حاجياتی ، إذ يكفيه ما سوف يستمتع به دونها من مرتبی!
وتزوجت على
الرغم من ذلك .. وبدا بیتي خاليا من جهاز العروس وأشيائها الخاصة أمام أهل زوجي ،
ولم تدعني - على الرغم من ذلك - لشأني وإنما راحت الغيرة الجنونية تنهشها كلما
لمست أنني وزوجي على وفاق ، بل وحاولت التفريق بيننا أكثر من مرة ، وهي تريدني
الآن أن أرجع للحياة معها في مسكنها دون زوجي على أن ينفق هو علي وعلى أولادي ونحن
مقيمون معها ، وقد فعلت مثل ذلك وأكثر مع أخي وزوجته ، حتى إنها تضرب زوجته أحيانا
وتسبها بأفظع السباب ، ونحن نتحمل أمنا في صبر ونعجز عن فعل شيء معها .
ولقد أعدت بعد
زواجي علاقتي بالأهل والأقارب التي قطعتها هي ، وأصبح أستقبلهم في بيتي وأزورهم في
بيوتهم ، كما أزور حماتي وأهل زوجي ، وكل ذلك يقتلها لأنها لا تحب أحدا على وجه
الأرض ، وقد خيرتني في النهاية بين أن أعرفها وحدها وأقطع علاقاتی بالآخرين جميعا
أو العكس .. فاخترت العكس ، لأنني لا أستطيع أن أحيا في الدنيا وحيدة تماما كالفرع
المقطوع من الشجرة ، ولا أريد لأبنائی أن ينشأوا منعزلين عن الناس ومحرومين من
العلاقات الأسرية والاجتماعية كما نشأنا نحن .
• ولكاتبة هذه الرسالة أقول :
لابد أن نعترف
بما يقوله بعض علماء النفس المحدثين - خاصة البروفيسور الأمریكي «کولز» - من أن
هناك قلة من الأمهات معظمهن ممن تفرغن لتربية أبنائهن عقب ترملهن أو طلاقهن ،
ينطبق عليها وصف العالم الأمریكي لهن بأنهن «أمهات متوحشات» .. يتسمن بالأنانية
المفرطة في علاقتهن بأبنائهن الذين عكفن على تربيتهم وحيدات ، وتتملكهن رغبة لا
عقلانية في امتلاكهم للأبد والاستئثار بهم دون الآخرين ، خاصة لو كان هؤلاء
«الآخرون» هم شركاء الحياة .. لابد أن نسلم بهذه الحقيقة المفزعة لكي نستطيع
التعامل معها وتفادي الأشواك المحيطة بها بقدر الإمكان ، ولو راجعت یا سیدتي
تصرفات والدتك معك ومع شقيقك قبل زواجكما وبعده لأدركت أن كثيرا من السمات المميزة
لهذه النوعية من الأمهات تنطبق إلى حد كبير على والدتك ، وهي:
* قوة الشخصية
ونزوعها للهيمنة الكلية على الأبناء ، والاعتماد الكلي على النفس في مواجهة الحياة
دون إعطاء قدر كبير من الاهتمام للعلاقات الإنسانية بصفة عامة.
* الأنانية ،
كنتيجة جانبية للإفراط في الاعتماد الكلي على النفس في مواجهة الحياة ، حيث يقوى
الإحساس بالذات لدى هذه النوعية من البشر وبكل ما يرتبط بها ، فتميل للأخذ دون
العطاء، وتغالي في تقدير الأشياء والماديات أكثر من غيرها .
* الاعتقاد
الراسخ الخاطىء بأن الأبناء "ملكية" خالصة للأم يحق لها أن تفعل بهم ما
تشاء ، ومن حقها أن تنفرد وحدها دون العالمين بعائد "استثماره" فيهم،
مقابل ما أنفقته عليهم من مال وما بذلته من جهد لم يساعدها فيه أحد في تربيتهم
وتنشئتهم .
* النظر بعين الشك والارتياب إلى كل من يحاول
اجتذاب هؤلاء الأبناء إليهم ، والميل الخفي لإفساد علاقاتهم بمن يحتمل أن ينجذبوا
إليهم دونها ويبتعدوا عنها بسببهم .
* الكراهية
المتأصلة لمن نجحوا في اجتذاب هؤلاء الأبناء الذين تمتلكهم الأم ملكية مطلقة لها ،
واستثمرت فيهم من قبل سنوات عمرها ووحدتها ومالها .
* التراوح بين
الرغبة في استمرار التصاق الأبناء بالأم ليستمروا - کعهدهم السابق معها - خاضعين
لها ومنصرفين كليا بمشاعرهم واهتمامهم بها ، وبين ما يشبه «الكراهية» - نعم
الكراهية ، ولا حرج في التصريح بذلك - لهؤلاء الأبناء أنفسهم إذا استمروا في
"جحودهم" وتمردهم وتفضيلهم لأحضان شركاء الحياة عليها .
هذه هي بعض
السمات المشتركة بين هذه القلة من الأمهات .. قد تتجلى لدى البعض واضحة ، وقد
يتخفى بعضها وراء ستار .. وأحسب أنها كلها تكاد تكون مجتمعة في شخصية والدتك التي
حاولت أكثر من مرة إفساد خطبة ابنها وزواج ابنتها ، ومازالت تحلم بعودة الابنة
للحياة معها دون زوجها .
فأما شماتتها
- سامحها الله - في رزقك بابن معوق - أعانه الله على أقداره وأعانكم معه . فليست
سوى إفزاز سيء لكل هذه المركبات النفسية المعقدة والمتداخلة في أعماقها ، ذلك أنها
لم تغفر لك بعد «جريمة» تركك لها بعد أن أنفقت العمر - کما تتصور- في تنشئتك، فما
أن ظهر رجل غريب في أفق حیاتك حتى ركلت "في تقديرها" كل
"عطائها" السابق لك وهرولت وراءه ، وسعدت - للأسف - بحياتك بعيدا عنها
.. غير أنها لا تعلم أن الله سبحانه وتعالى إنما يمتحن من يشاء بما يشاء من
اختبارات الحياة لحكمة تخفى على الأفهام ، وأنه لا شأن لدعائها عليك بمجيء ولد للحياة
محكوما بأقداره ، ذلك أنه "قال إنما يتقبل الله من المتقين" كما يقول لنا
سبحانه وتعالى ، وليس من القساة وغلاظ القلوب و قاطعي الرحم والبعيدين كل البعد عن
ربهم وتعاليم دينهم . أو لعلها تعلم ذلك لكنها تغالي في کيدها لك بهذا الزعم
المفضوح.
وعلى أية حال فليس أمامك سوى أن تتحملي أقدارك معها وتواصلي الحرص على حياتك الزوجية وأبنائك وصلة رحمك بالأهل والأقارب ، وألا تيأسى - على الرغم من ذلك - من محاولة وصل رحمك بأمك ، وتتحملي صابرة فظاظتها وقسوتها وجفاء طبعها ، عسى أن ترقق الأيام من قسوة قلبها ذات يوم قريب أو بعيد ، أو يأتيها برهان ربها في حينه فتدرك كم كانت قاسية وظالمة لابنيها ، فتسعى لتصحيح علاقتهما بهما في الأجل القريب .. أو لعلها تتقبل حقائق الحياة ذات يوم غير بعيد، فتسلم بما يسلم به العقلاء والرحماء في كل مكان وزمان ، من أنه لا تناقض هناك بين وفاء الأبناء لأمهم وبين استقلالهم بحياتهم وسعادتهم مع شركاء الحياة .. وهذا على الأقل هو الأمل الذي لا تملكين أن وشقيقك سوى التعلق به إلى النهاية .
شارك في
إعداد النص / محمد عايدين
راجعها وأعدها للنشر / نيفين علي
برجاء عدم النسخ احتراما لمجهود فريق العمل في المدونة وكل من ينسخ يعرض صفحته للحذف بموجب حقوق النشر