البيت الجديد .. رسالة من بريد الجمعة عام 1999

البيت الجديد .. رسالة من بريد الجمعة عام 1999 

البيت الجديد .. رسالة من بريد الجمعة عام 1999


أنا شاب من أبناء الجنوب شاءت لي الأقدار أن أكون طرفاً في قصة من هذه القصص المؤلمة التي أحرص على قراءتها في بابك بانتظام..

فلقد نشأت في أسرة صعيدية مترابطة. وتزوج شقيقي الأكبر منذ بضع سنوات، وأقام مع أبي وأمي في البيت الكبير كما نسميه أي بيت الأسرة.. وتزوجت شقيقاتي واستقرت بهن الحياة في بيوت أزواجهن في الجوار القريب، وأنجب شقيقي الأكبر من زوجته طفلين صغيرين، وسعد بحياته وزوجته وسعدت هي به.. ثم فجأة تزلزل كيان هذا البيت بمصرع شقيقي هذا منذ عام ونصف عام في حادث سيارة خلال عودته من مدينة الأقصر التي كان يعمل بها.. وخيم الحزن على الجميع وسقطت زوجة أخي في غيبوبة شبه متصلة.. ووفقاً للتقاليد فقد استمرت زوجة أخي مقيمة في بيت الأسرة مع طفليها الذي يبلغ عمر أكبرهما 6 سنوات والأخرى 4 سنوات، وبعد إحياء ذكرى الأربعين بأيام جاء أهل زوجة أخي ليصطحبوها معهم إلى بيت أسرتهم كالعادة حين يكون الأطفال صغاراً.

 

ولا أدري ماذا فعل أبي معهم أو ماذا قال لهم لكي يقنعهم بترك ابنتهم مع طفليها بعض الوقت في بيتنا لكنهم على أية حال قد قبلوا بعد رجاء وإلحاح تركها لبعض الوقت على أن يرجعوا لاصطحابها معهم بعد هذه المهلة الجديدة بلا أي تأجيل.. وبعد انصرافهم فوجئت بأبي يدعوني للحديث معه على انفراد ثم يرجوني والدمع المتجمد في عيونه، بأن أتزوج أرملة شقيقي الراحل لكي تظل هي والطفلان في بيتنا وتمضي الحياة بهم وبنا على ما كانت عليه قبل الحادث المؤلم..

ولم أجب أبي بالرفض أو القبول عند سماعي هذا الرجاء المؤلم، وغلبني الإحساس بالحزن على أخي الذي كان صديقي وتوءم روحي، فانعقد لساني ولم يضغط عليّ أبي لكي يتعجلني الرد وإنما قال لي إنه يدع لي الأمر للتفكير فيه ويأمل أن أضع مصلحة الطفلين اليتيمين ورغبته ورغبة أمي في ألا يفارقاهما في اعتباري .. ومضت بضعه أيام أخرى وأنا مستغرق في التفكير، أريد أن أحقق لأبي وأمي رغبتهما في أن ينشأ أحفادهما في أحضانهما.. وأتخيل من ناحية أخرى نفسي في موضع أخي من زوجته فأخجل من الفكرة وأنزعج لها.

 

 إلى أن كنت جالساً في غرفتي ذات يوم أقرأ الصحف في الصباح فدخلت أرملة أخي إلى الحجرة ورجتني أن أعقد قراني عليها فقط لكيلا تغادر بيت الأسرة، ولأن أهلها إذا أعادوها إلى بيتهم فلسوف يضغطون عليها بشدة للزواج مرة أخرى ولن تمضي ستة أشهر أو عام على أكثر تقدير إلا وتكون قد تزوجت من آخر رغبت في ذلك أم لم ترغب، ولهذا فهي ترجوني أن أعقد قراني عليها "فقط" لكي أحميها من ذلك وأعين طفليها على البقاء بين أهل أبيهما، وعلى ألا يكون لكل منا شأن بالآخر بعد عقد القرآن لأنها لا تريد الزواج بعد أخي وترغب في أن تتفرغ لتربية طفليها منه!

ولم يكن أمامي من سبيل بعد هذه المصارحة سوى القبول، استجابة لرغبة أبي وأمي.. وجاء أهلها بعد أيام ليصطحبوها معهم، فقال لهم أبي إنه لا داعي لذلك لأن ابنه الآخر سوف يتزوج أرملة أخيه ويربي ابنيه ورحب الأهل بذلك.. وانتظرنا انقضاء فترة العدة.. وما أن انتهت حتى جاء المأذون وعقد قراني عليها.. وبعد القرآن دخلت هي حجرتها ودخلت حجرتي وفي الصباح غادرت البيت وتوجهت إلى الإسكندرية حيث يقيم بعض أقاربي ويعملون، وقضيت في الثغر تسعة شهور كاملة عملت خلالها مع أقاربي ثم علمت أن أبي مريض فعدت إلى بلدتي لزيارته والاطمئنان على أحواله وأحوال أمي، واستقبلتني "زوجتي" بالمصافحة العادية كما كانت تفعل معي وهي زوجة لأخي، وعلمت أن أمي على خلاف معها منذ علمت أن كل ما بيننا هو وثيقة الزواج فقط.. ووجدت العلاقة متأزمة بينهما للغاية واشتريت لزوجتي مسكناً مستقلاً قريباً وانتقلنا إليه، وأصبح من واجبي أن أبيت معها في البيت الجديد لكيلا أدعها وأدع طفليها وحدهم فيه.

 

 ومضت حياتنا في البيت الجديد هادئة.. فزوجتي تعد الطعام وتغسل الملابس وترعى الأطفال.. وأنا ألبي مطالبها من الخارج وأرعى مصالح البيت وأرعى الابنين اللذين لا يعرفان لهما أباً غيري.. وأؤدي عملي، وفي المساء يدخل كل منا غرفته ويغلق بابها عليه للصباح.




ولكاتب هذه الرسالة أقول:

من حقك بالفعل أن تتطلع لأن تحيا حياتك بطريقة طبيعية وتستغني بزوجتك عن غيرها من النساء، مادامت الأقدار قد جمعت بينكما في رباط مقدس ولكل منكما مصلحة مؤكدة في استمراره إلى النهاية.. أما "الاتفاق" المبدئي بينكما على أن يكون زواجكما شكلياً حتى لا تخرج زوجتك وطفلاها من أحضان أسرتك، فليس مما يعتد به كشرط دائم يعتبر من خالفه كمن نقض العهد وخان الوعود.. لأنه شرط فاسد دعت إليه الضرورة النفسية في الظروف المأساوية التي أحاطت بهذا الزواج.. وربما لو لم تشترطه هي لما راودت نفسك على الارتباط بها متخلصاً من الحرج الإنساني المفهوم في مثل هذه الظروف، ولما استطاعت هي أيضاً أن تتغلب على مشاعرها وأحزانها وحرجها النفسي لتقبل به.

غير أن الواقع حتى ولو استعنا في البداية على القبول به بالتحايل على أنفسنا بمثل هذه المبررات والحيل النفسية، لا يلبث أن يرغمنا على أن نحيا حياتنا بطريقة طبيعية، وعلى أن نتقبل بعد حين ما كنا ننكره أو نستفظعه من حقائق الحياة قبل وقت قصير.

 

ولهذا فإن تمسك زوجتك بهذا الشرط الفاسد حتى الآن هو الذي يعد خروجاً على الاتفاق الضمني المفهوم بغير تصريح بين الطرفين حين تم الزواج وليس تفكيرك في تحويله إلى زواج حقيقي يلبي لك احتياجاتك النفسية والعاطفية هو الخروج على مثل هذا الاتفاق الصامت.

كما أن تصريحها لك بالزواج من غيرها مع بقائها في عصمتك، ليس حلاً مقنعاً للمشكلة.. ذلك أنه ليس كل إنسان قادراً على أن يحيا حياة مزدوجة ينتقل فيها بين زوجتين حتى ولو كانت علاقته بإحداهما شكلية ولأن الزواج مسئولية نفسية وأدبية واجتماعية قبل كل شيء.. وقليلون هم الذين يطيقون تعدد هذه المسئولية في حياتهم. كما أن وجود زوجتك في عصمتك لن يرشحك بسهولة للاستقرار والسعادة مع زوجة أخرى، ولن يكون ذلك الوضع مقبولاً ولا مريحاً لمن تقبل الارتباط بك وإنما سوف يظل بؤرة للمتاعب والقلاقل بينكما على الدوام حتى ولو أقسمت لها أغلظ الأيمان أنه لا يجمع بينك وبين الأولى من مقاصد الزواج سوى والحماية والمسئولية ورعاية الأبناء. وليس من المستبعد كذلك أن ينبه زواجك المقترح هذا لدى زوجتك الأولى مشاعرها الأنثوية واحتياجاتها النفسية الخامدة حالياً تحت ركام الأحزان.. فتتساءل: وماذا يمنعها بعد كل هذا الوقت من رجلها وهو زوجها أمام الله والجميع، فيحركها ذلك لاجتذابك إليها.. أو يحفزها للاحتفاظ بك إذا استشعرت خطر فقدك النهائي واستئثار الأخرى بك.. وليس كل ذلك بمستغرب على النفس البشرية التي لا تستشعر في بعض الأحيان قيمة ما لديها إلا من خلال تقدير الآخرين له!! فلماذا كل هذا العناء.. وقد يسر لنا الله سبحانه وتعالى أن نحيا حياتنا الطبيعية بلا مشاكل ولا اضطرابات؟

 

إنني أتصور أن ما يحول بينك وبين زوجتك الآن هو قرب الذكرى وبطء التكيف مع الواقع الجديد الذي فرضته عليها الأقدار الحزينة. لكنها في غمار همها بنفسها وأحزانها ينبغي لها أيضاً ألا تظلم شاباً أميناً مثلك قبل أن يضحي بأحلامه الشخصية رعاية لاعتبارات إنسانية وعائلية نبيلة وتعفف عن الضغط على زوجته لنيل ما يصبو إليه منها مراعاة لظروفها النفسية والإنسانية، وإنما لابد أن يدعوها ذلك إلى مراجعة موقفها منه.. وإبراء ذمتها من ظلمها له ومطالبته بما لا يطيقه.. ولا شك أن المشكلة القائمة حالياً بينك وبين زوجتك هي في النهاية مشكلة وقتية لن يلبث الزمن أن يجد لها الحل الموفق لها بمبضعه الذي لا يخيب.. فاعتصم بالصبر يا صديقي.. ولا تستجب الآن لنصيحة زوجتك لك بالزواج من غيرها لأنك لن تسعد في مثل هذا الزواج المقترح.. وإنما اصبر وانتظر.. ولا تدفع الأمور بأكثر مما تحتمله ظروف زوجتك النفسية الحالية وتأكد من أن لك لدى زوجتك القبول النفسي الذي يصلح أساساً كافياً لعلاقة الزواج السليمة بعد حين، بدليل توجهها لك بالرجاء لأن تعقد قرانك عليها لكيلا تغادر بيت الأسرة، حتى ولو كانت قد اشترطت عليك أن يكون زواجك بها صورياً.. ففي تقديري أنها لو لم تكن تقبل بك نفسياً من البداية لما سعت لأن ترتبط بها مثل هذا الارتباط ولتحملت العودة إلى أهلها ومواجهة ضغوطهم للزواج مرة أخرى لأن ذلك أرفق بالمرأة من ارتباطها بأي نوع من الارتباط بمن تنفر منه ولا تطيق وجوده في دائرة تنفسها، لكنها فقط هذه "الإشكالية الإنسانية" التي لم تستطع بعد التكيف معها وهي أن تحل أنت منها محل أخيك الراحل في هذا المدى الزمني القصير، وهي إشكالية الزمن وحده هو الكفيل بحلها.. فأرجو ألا يطول بك الانتظار لمفعوله السحري لكيلا تتجرع عذاب الحرمان ممن تشاركها الحياة لفترة طويلة.. فإذا طال الانتظار عما تطيقه أو بدا لك أن زوجتك تصر بالفعل على مخالفة الطبيعة وعدم التكيف مع الواقع الجديد إلى النهاية، فلا مفر في هذه الحالة من الزواج مرة أخرى وتحمل هذا العناء الجديد الذي ستفرضه عليك هذه الظروف الإنسانية.. كما فرضت عليك من قبل هذه التضحية العائلية.

 ·       نشرت في جريدة الأهرام "باب بريد الجمعة" عام 1990

شارك في إعداد النص / أحمد محمود

راجعها وأعدها للنشر / نيفين علي


Neveen Ali
Neveen Ali
كل ما تقدمه يعود إليك فاملأ كأسك اليوم بما تريد أن تشربه غداً
تعليقات