الأوسمة .. رسالة من بريد الجمعة عام 2000
ثلاثة أيام فقط هي الباقية من عمرها فعليك الاستعداد لذلك قالها لي الطبيب الهمام
استاذ المخ والأعصاب بعد أن رأس مجموعه من الأطباء متنوعي التخصصات قالها المتخصص
لفحص أمي وهو يدس في يدي روشته بها أدويه يرهق ثمنها ميسوري الحال وليس فقط محدودي
الدخل .. ولم اخف دموعي وأنا أرد عليه بأنه لن يستطيع أن يزيدها نفسا لو
أراد إذا هاجم القضاء, كل ما اطلبه لهذه السيدة العظيمة هو أن تلقى من الرعاية ما
تستحقه على الأقل كسيده أفنت عمرها أكثر من أربعين عاما في مجال التمريض وتخفيف آلام
المرضى .
اشتريت لها الأدوية وعرجت إلى مقابر الأسرة وتحسست البوابة باكيا وأنا استطلع
لتلك الأيام الثلاثة المقبلة .. فأراد الله بنا خيرا وعاشت أمي بكل حبها
وبركة وجودها بيننا, أكثر من ألف وأربعمائة يوم بعد تلك الأيام الثلاثة
وأراد الله لنا أن ننعم بفرصة أخرى في الحياة معها كأنما الله قد بعثها بعد موتها
لنهنأ بها وذلك رغم عذابات المرض والشلل النصفي الذي كان نتيجة خطأ جراحي قبل
الحوار المذكور ووقتها طلب منا أن نلفها في بطانية وهى في غيبوبتها لنهرب بها في
جنح الليل من المستشفى حتى تموت وهى على السرير في منزلها وعندما أبيت قالوا عني
ابن عاص وسوف اعرضها للبهدلة والتشريح حين يتم القضاء وعندما واصلت الرفض وقاومت
خروجها على تلك الصورة فتح لى الله جلت قدرته أبوابا ما كنت أدري بوجودها فضلا عن قدرتي
على الوصول إليها .
مكثت أمي بالإنعاش أكثر من شهرين استردت خلالهما وعيها وقدرتها على الكلام وتناول
الطعام وإن بقى شقها الأيمن في حالة موات ولم تفلح معه محاولات العلاج بالمستشفى
أو المنزل فيما بعد.
عاشت راضيه بقدرها وسعيدة بالتفافنا حولها مفتقدة لمن يغيب منا عنها , متزنة في
وعيها وعقلها وإدراكها الطيب للأمور, وكانت مستشارنا النفسي والاجتماعي والتربوي في
كل ما يلم بنا وملجأنا إذا احتجنا إلى الحنان والعطف ممن يعطي دون مقابل .
ولأنني
ابنها الأكبر ولوفاة أبي المبكرة رحمه الله فقد كنت لها أكثر من ابن, وتغلبنا
بالحب على الآلام فكنت اخرج معها للتنزه على شاطئ النيل القريب من منزلها في مصر
القديمة حيث ادفعها بمقعدها المتحرك ونقضي الوقت فرحين منتشين متسامرين وأعود بها لأتركها
فى رعاية شقيقتي المتزوجة معها بنفس الشقة فتتكفل بأمورها وتنعم بصحبتها على وعد
مني بلقاء في اليوم التالي ولا يمر يوم دون لقاء, ودون قصة جميله يمكن أن تروى .
وعقب افتتاح مترو الأنفاق بشبرا ولأن شبرا مسقط رأسها فقد استضفتها عدة أيام فى
منزلي وكانت لنا نزهة جميلة فى محطات المترو ذات المصاعد الكهربائية حيت استقللنا
المترو, وكنا نصعد في كل محطة ونخرج منها ونتجول بين طرقاتها وشوارعها واستعيد
معها ذكرياتها لتلك الأماكن ثم نعود للمحطة لنستقل القطار إلى المحطة التالية
صعودا ونزولا من محطة مسرة إلى محطة كلية الزراعة, ولكم توقفنا في الأخيرة التي
أعجبت بها رحمة الله عليها لكونها مرتفعه وفوقها معبر حوائطه زجاجيه وتظهر أسفله
كلية الزراعة بخضرتها .
ولقد حباني الله بزوجة صالحة رضيت بأن تكون في ترتيب أولوياتي الثالثة بعد أمي
وبعد أطفالي الأربعة, وكانت إذا ما وجدت مني تعبا أو مرضا لا تشقق علي إنما تدفعني
دفعا لأذهب إلى أمي مذكرة إياي بأن في ذهابي لها الشفاء والنجاة وأن في تقاعسي
عنها الشر والبلاء.
لقد كانت قصة رائعة يا سيدي عشتها مع أمي والحمد لله ومازالت ذكرياتها الجميلة
تغلب آلام الشوق وحرقة الفراق .. ولقد قلدتني أمي خلالها ارفع وسامين
الأول حين أفاقت من غرفة الإنعاش وحدثتني عن أن المرضى من حولها والممرضات
والأطباء يحسدونها على فرط اهتمامي بها وشراسة مقاتلتي من اجلها حين طلب منا
الاستسلام لما قدره الأطباء, والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات .
أما ثاني الأوسمة فهو حين كانت في غيبوبة موتها التي امتدت 3 أيام فشرعت شقيقتي
المقيمة معها تسألني كيف سنتصرف إذا نفذ سهم القضاء فطلبت منها الصمت حتى لا
تسمعنا أمي فأشارت أختي إلى حالتها فقلت لها إن أمي معنا تنعم بنا وننعم بها,
وإنها تسمعنا ثم توجهت بالكلام إلى أمي طالبا منها أن تكذب هذه الابنة بأن تطبع
على خدي قبله بالرغم مما هي فيه من غيبوبة واقتربت بوجهي من فمها فإذا بها تضم
شفتيها وتمنحني الوسام الرائع قبل رحيلها بيوم واحد وهي في غيبوبة كاملة .
ولقد دفعني لان
اكتب هذه الكلمات إليك ما قرأته في رسالة "النظرة الصحيحة" التي رفضت
تحذير الأطباء من الارتباط به بدعوى أن مرضه سوف يقضي عليه خلال ستة أشهر ،
فتزوجته على بركة الله وشفاه الله بأمر ربه وطالت عشرتها الجميلة له.
ولكاتب هذه الرسالة أقول:
وانعم بها حقا وصدقا من أوسمة أيها الصديق, فهي ليست أوسمة وإنما هي بعض مفاتيح الجنة ونعم عقب الدار, وأية أوسمة ارفع منها للإنسان في دنياه وأخراه من رضا الأبوين ودعائهما الصادق بالستر والكرامة والأمان ..أي حصن أو حجاب يحتمي وراءه المرء من عاديات الأيام أقوى من هذا الحصن المكين فهنيئا لك ما نعمت به من صحبه والدتك حين جزم " الجازمون " بأن ليس ثمة حياه وهنيئا لك رضاؤها عنك وفخرها بك, واطمئنانها بين يديك, وترقب جوائز السماء السخية لك فى الدنيا مع ما يدخره لك ربك عنده بإذن الله .
راجعها وأعدها للنشر / نيفين علي
برجاء عدم النسخ احتراما لمجهود فريق العمل في المدونة وكل من ينسخ يعرض صفحته للحذف بموجب حقوق النشر