طائر الوهم .. رسالة من بريد الجمعة عام 1991

طائر الوهم .. رسالة من بريد الجمعة عام 1991 

طائر الوهم .. رسالة من بريد الجمعة عام 1991 

أنا رجل في أوائل الخمسينات من عمري تزوجت منذ سنوات من إحدى قريباتی بعد حب طاهر عفيف جمع بيننا وتحدثت فيه العيون بأكثر مما تحدث اللسان .. وبدأت حياتي الزوجية معها فسعدت بكل لحظة عشتها بقربها فهي سيدة هادئة رقيقة كالنسمة تتدفق حنانا وعطاء للناس ، أحبتني بصدق وأحبت قبلي الحياة والبشر وكل الكائنات الحية حتى لأحسبها لم تعرف الكراهية لشيء أو لإنسان طوال حياتها ، وكان أقاربي أو أصدقائي يزرونني فتسخر نفسها لخدمتهم وتمضي الساعات واقفة على قدميها في المطبخ تعد لهم الطعام بحماس وسعادة وتقف على رأس المائدة تحثهم على تناوله بلطف ورجاء وتلبي طلباتهم قبل أن ينطقوا بها .. وتذهب وتجيء بلا هوادة طوال الوقت حتى ليشفق عليها الضيوف ويدعونها للجلوس والراحة .. فلا تستريح إلا إذا أشعرتهم أنهم أسعدوها وأسعدوني بزيارتهم .. وتفعل ذلك بصدق وتلقائية منذ رأيتها في بيت أسرتها تتصرف بنفس الطريقة .

 

ومضت السنوات سعيدة ودافئة بالحب والعطاء والأحاسيس الطيبة الجميلة تهتم بي وبشئوني وتحرص على جمال بيتها وهدوئه ونظافته .. فاطمأن بها جانبي وتفرغت لعملي في إحدى الهيئات الحكومية وحققت فيه نجاحي واستبشرت خيرا بالمستقبل ثم شكت زوجتي ذات يوم بعض الأعراض وتحاملت على نفسها فلم تخبرني بها وأملت أن تكون عابرة بسبب الإجهاد في أعمال البيت. لكن الأعراض عاودتها مرة أخرى وصارحتني بها فعرضتها على أحد الأطباء . فلم يفلح علاجه معها .. ثم عرضتها على آخر فطلب إجراء بعض الفحوص الضرورية وأجريناها، فإذا بها تكشف عن إصابتها بالمرض الخطير .. وواجهت زوجتي الموقف بشجاعة كبيرة وواجهته أنا بواقعية ورجاء في الله تعالى أن تصمد لهذا المرض وتنجو منه . وبعد مراحل جراحة كبيرة لها وتمت بنجاح ، وبعدها بدأ العلاج المعروف وتكررت الفحوص والتحليلات والاختبارات وزيارات الأطباء والمراكز المتخصصة ووجدت أن عملي يعوقني عن التفرغ لرعايتها ومصاحبتها في مراحل العلاج المتعددة فحصلت على أجازة بدون مرتب وتفرغت تماما لشريكة حياتي الطيبة المحبة للناس وللحياة ولم يعد لي عمل ولا هدف سوى رعايتها وعلاجها ومساعدتها على الشفاء .. ومؤازرتها في شدتها والتخفيف عنها . بل والاستمتاع بقربها في كل لحظة من لحظات اليوم كأنما أتزود منها بشحنات عاطفية وإنسانية إضافية أواجه بها احتمالات المستقبل الغامض .

 

ومهما وصفت لك يا سيدي فلن أستطيع أن أعبر لك عن إحساسي بها وإحساسها بي في هذه الأيام وطائر الخوف من الفراق يخيم فوق رؤوسنا ، فلقد ازداد ارتباطنا العاطفي حتى لم أعد أحس أنها إنسان آخر منفصل عني وازداد أيضا استمتاع كل منا بقرب الآخر رغم الألم القاسي والمعاناة . وازداد استمتاعنا بكل همسة أو لحظة نتبادل فيها الحديث عن أي شيء في الحياة .. وأصبح حبل الحديث لا ينقطع بيننا ليلا ونهارا .

وفي هذه الفترة بالذات حملت زوجتي .. فثار جدل كبير بين أفراد الأسرة حول هذا الحمل .. هل الحكمة في أن تحتفظ به أو تتخلص منه للأسباب المعروفة وشغل الأهل والأقارب بهذه الحكاية وأجمعت آراؤهم على ضرورة التخلص منه لكن زوجتي حسمت الجدال بقرارها أن تحتفظ بحملها .. لأنها كما قالت لي تريد أن ترى طفلها مني قبل أن تؤذن السفينة بالرحيل وأيدتها في قرارها باقتناع تام بل وبسعادة بها وبقرارها وجادلني الأصدقاء والأهل في هذا القرار وسألني أحدهم بإشفاق وحرج شدیدین : ماذا سيكون مصير الطفل القادم من عالم الغيب إذا ؟ فأجبته بهدوء بأن الأعمار بيد الله وأن الحقائق ليست غائبة عني لكني سعيد بحمل زوجتي وبرغبتها في الإنجاب مني .. وأريد أن أحتفظ منها بطفل يربطني بها طوال العمر فصمت الصديق متأثرا . وتوقف الجدال حول هذا الأمر .

 

 واستكمل جنین زوجتي نموه وأذن الله له بالخروج إلى دنيا الأحياء فكانت طفلة جميلة فرحت بها زوجتي فرحة طاغية واختلطت ضحكات السعادة بدموع الإشفاق في عيون الأهل وهم يستقبلونها مرحبين وسعدت أنا بها سعادة صافية من كل شائبة رغم الظروف الأليمة .

وبعد مولدها بشهور بدأت حالة زوجتي الصحية في التدهور بسرعة غريبة ولم يكن لدي سيارة فاستأجرت سيارة أجرة بسائقها ليتفرغ لتنقلاتی بها بين المستشفيات والمراكز المتخصصة .. ثم جاء الأجل المحتوم .. ولقيت وجه ربها راضية مرضية بعد عام من میلاد طفلتها فودعتها بما يليق بها وبعد رحيلها احتضنت أختي الأرملة التي لم تنجب أولادا طفلتي وضمتها إليها في بيت الأسرة الكبير الذي نعيش فيه جميعا مع إخوتنا كل في شقته . وعشت أنا وحيدا مع ذكريات زوجتي الراحلة .. واحتفظت بكل شيء في مسکني کما تركته فملابسها في دولاب غرفة النوم وشبشبها بجوار السرير كأنه ينتظرها ، والأثاث کما نسقته ورتبته خلال حياتها القصيرة معي ، وواجهت حیاتی بواقعية وشجاعة ، واستقلت من عملي الحكومي ومارست عملا حرا وشغلت أوقاتی بالعمل وصرفت النظر نهائيا عن التفكير في الزواج أو في أن تحل أخرى محل زوجتي الراحلة .

 

وكرست شقيقتي حياتها لرعاية طفلتي وغمرتها بحبها وحنانها فنشأت وهي لا تعرف لها أما غيرها ، وحين نطقت بكلمة ماما .. وأنا بابا .. وساعد الإخوة وأبناؤهم الذين يعيشون معنا في نفس البيت على ترسيخ هذه الفكرة لديها، فمضت في حياتها هانئة بين - أبوين يحبانها ويغمرانها بالعطف والرعاية كباقي الأطفال .. وبلغت طفلتي سن الثامنة وهي في أمان من أي خواطر مثيرة للقلق أو الخوف . وكان من الممكن أن تستمتع ابنتی بسنوات أخرى من السلام النفسي .. لولا أن إحدى مدرساتها سامحها الله صدمتها بلا أي مناسبة بأن أمها الحقيقية قد ماتت بعد مولدها بسنة وأن من تناديها بماما هی عمتها وليست أمها ! ولست أعرف لماذا تطوعت لإيلامها بذلك بلا ضرورة . فعادت الطفلة من المدرسة شبه مريضة وأمضت ثلاثة أيام صامتة لا تشير إلى ما سمعت ونحن لا نعرف شيئا، وفي اليوم الرابع سألتني فجأة عن الحقيقة فذهلت .




ولكاتب هذه الرسالة أقول :

في مثل هذه الظروف المأساوية التي أحاطت بنشأة طفلتك وفرضت عليكم إيهامها بأن عمتها هي أمها ، كنت أفضل أن تتأخر مكاشفتها بضع سنوات أخرى تزداد خلالها قدرة على فهم حقائق الحياة الأليمة .. لكن مدرستها الفاضلة لم تدع لأحد مجالا للاختيار فلقد تعجلت الأمور وبذرت بذرة الشك والألم في نفسها وأثقلت عقلها وقلبها الصغيرين بالتفكير في حقائق كبرى لم تكن مؤهلة للتعامل معها في هذه المرحلة من العمر ، ومع أن طفلتك كان لابد أن تعرف كل شيء ذات يوم فإن سوء اختيار الوقت الذي تتعرف فيه على الحقائق وسوء اختيار الوسيلة أيضا يمكن أن يثمر آثارا نفسية ضارة تنعكس على شخصيتها سلبيا في المستقبل . السن الملائمة في تقديري للتعامل مع حقيقة الموت الأزلية هي ما بعد سن الحادية عشرة أو الثانية عشرة أما الوسيلة المثلى .. فهی تسريب الحقيقة إلى الطفل بجرعات متدرجة تهيئه نفسيا للتسليم بالحقيقة والتعايش معها . وكل ذلك لم يتوافر لطفلتك للأسف .. ولا مفر إذن من تدارك الآثار السلبية لمصارحتها بالواقع بغير تدرج بالبدء من الآن في تسريب الحقيقة إليها تدريجيا .

 

والبداية المثلى في مثل حالتها هي البدء في الحديث أمامها عن أطفال تعساء حرموا من الأم لأن الله قد اختارها إلى جواره في السماء .. ثم بالحديث عن أطفال آخرین حرموا من الأم لكن رحمة الله تداركتهم فهيأ لهم أمهات بديلات قمن باحتضانهم ورعايتهم كأفضل ما تفعل أي أم حقيقية ، وكيف أن هؤلاء الأطفال قد أحبوا أمهاتهم البديلات وشكروا الله كثيرا على ترفقه بهم وإهدائهم هؤلاء الأمهات الرحيمات .. وهكذا تدريجيا إلى أن يتهيأ عقل الطفلة لتخيل أن تكون هي نفسها واحدة من هؤلاء الأطفال ... وهو ما يعرف بأسلوب « المحاكاة » أي تمثيل المعنى المراد إيصاله إلى الآخرين أمامهم .. وهو أسلوب مفيد في بعض الحالات وينصح به علماء النفس .. بل إن بعضهم ينصحون أيضا بالاستعانة فيه بتدبير مشاهدة الطفل لفيلم أو أفلام تحكي عن أم راحلة وأطفال حرموا من الأمهات لزيادة تهيئتهم نفسيا وعقليا لقبول الواقع والتسليم به .

 

ونصيحتي لك هو أن تعتمد أسلوب المحاكاة هذا مع ابنتك لأن بذرة الشك قد أفسدت عليها سلامها ، ولن تكف عن التفكير فيما تراه من اختلاف في حياة أبويها عن حياة الآباء والأمهات الآخرين .. ولن تكف عن التساؤل عنه كما أنه ليس من المفيد تربويا أن تتهم مدرستها التي تتلقى عنها حقائق العلم وتصدق كل ما تنطق به بالكذب فيهتز مثلها الأعلى في خيالها وتفقد الثقة في أشياء كثيرة في حين أن نفيك لما قالته المدرسة يمكن تبريره أمامها بإشفاقك عليها من أن تحزن لمعرفة الحقيقة وهو عذر مقبول لن يؤثر على مثلها الأعلى فيك ويستطيع حنان الأب وعاطفته ورعايته لطفله أن يتجاوز مثل هذه الهنة بسهولة أما مشاعر طفلتك تجاه عمتها أو أمها في الحقيقة .. فلن تتغير تجاهها إذ ماذا تعني الأمومة أكثر مما تفعله شقيقتك مع طفلتها لأن الأطفال ينجذبون تلقائيا تجاه من يغمرهم بالحنان والحب والعطف الصادق وهي في النهاية لم تعرف لها أما غيرها وسوف يزداد تقديرها لها مع تدرجها في الحياة وإدراكها للدور الهام الذي لعبته في حياتها .. وسوف تتربع على عرش قلبها إلى جوار أمها الحقيقية التي تطل عليها من صورها إن شاء الله .

فلا تنزعج كثيرا یا سیدی فلسوف يحفظ الله ابنتك من كل سوء .. ويهييء لها من أمرها رشدا كما هيأ لها من قبل هذه الأم الرؤوم التي عوضتها حرمانها من أمها ولسوف يعوضك الله خيرا كثيرا في ابنتك وفي حياتك جزاء وفاقا لوفائك وإخلاصك ونبلك والله خير حافظا ... وشكرا لك .

 ·       نشرت في جريدة الأهرام "باب بريد الجمعة" نوفمبر عام 1991

راجعها وأعدها للنشر / نيفين علي

 


Neveen Ali
Neveen Ali
كل ما تقدمه يعود إليك فاملأ كأسك اليوم بما تريد أن تشربه غداً
تعليقات