صمت الجدران .. رسالة من بريد الجمعة عام 1994

 

صمت الجدران .. رسالة من بريد الجمعة عام 1994

صمت الجدران .. رسالة من بريد الجمعة عام 1994 

إن الإنسان لا يستطيع أبدا أن يبدأ صفحه جديدة من حياته إلا إذا طوى الصفحة القديمة وتخلص من كل آثارها عليه، وليس سر السعادة كما يقول لنا الكاتب الاسكتلندى جيمس بارى هو أن يفعل الإنسان ما يحب أو يحيا ما يتمناه وإنما أن يحب ما يفعله وما يحياه من حياة حتى ولو لم تكن ما يرجوه لنفسه من حياة، فإذا عجز عن أن يحب ما يفعل أو يعيش من حياة فإنه على الأقل يستطيع أن يحاول دائما إقناع نفسه بتقبلها والتواؤم معها .. وأن يسعد بما تتيحه له من أسباب قليلة للرضا والقبول بها.

عبد الوهاب مطاوع


ترى هل تتذكرني الآن ؟ لقد جئت إليك منذ أربع سنوات لمقابلتك في مكتبك مساء أحد أيام الاثنين وسافرت إليك من مدينتي الساحلية من أجل هذا اللقاء ، ورويت لك قصتي مع زواج لم يدم عمليا سوى ۱۱ شهرا فقط وكنت حين جئت إليك أحاول استعادة زوجي الذي هجرني وانتقل للعمل بمنطقة البحر الأحمر حتى مضت ۱۸ شهرا في هذه المحاولات دون أن يرجع أو يقبل بانتقالي إليه ، ونصحتني بعد أن سمعت قصتي بأن أكف عن محاولة الاتصال به أو ملاحقته بالمكالمات التليفونية لأن قصتي معه قد انتهت عند هذا الحد ، ولن يجديني شيئا امتهاني لنفسي معه ، فهو لا يرغب في استئناف العلاقة الزوجية بینی وبينه ، ولا يرغب في العودة للمدينة التي أعمل وأقيم بها ولا يرغب في استقدامي إلى المدينة التي يعيش فيها وقد فشلت معه كل الحيل لاستعادته وليس بيننا أبناء قد يبررون لي هذا الامتهان بدعوی التضحية من أجلهم ، وفي مثل هذه الظروف فالأفضل لى هو أن أسلم بالأمر الواقع وأن أعترف بانتهاء القصة وأقبل بالانفصال عنه وأتفاهم معه وديا حوله، ثم أضمد جراحي النفسية وأحاول بعد حين أن أبدا حياتي من جديد مع إنسان آخر.

 

ولقد حدث یا سیدی ما نصحتني به ، ويئست بالفعل من محاولاتی الذليلة لاسترجاع زوجي وكففت عن الاتصال به ، وأبلغت أخته بقبولی للطلاق بشرط واحد هو ألا يعلنه لأحد ، وطلقني غيابيا وأرسل إلي ورقة الطلاق ، وتكتمت أنا طلاقي في محيط عملي كتربوية ، وفي دائرة الجيران والأصدقاء .. وظللت في أوراق الرسمية متزوجة ، وفي نظر الجيران والزملاء تلك السيدة الفاضلة التي تعيش وحدها في مسكنها بهذه المدينة الساحلية لأن زوجها يعمل بالبحر الأحمر .. وتسافر إليه في العطلات والأجازات ! وحافظت على هذا المظهر الاجتماعي ، لعدة سنوات وتحملت من أجل الحفاظ عليه عناء كبيرا .. ففي العطلات القصيرة التي تصل لثلاثة أو أربعة أيام كما في بداية شهر مايو مثلا أو في الأعياد الدينية التي تتوقف فيها الدراسة بالمدارس ، كنت أرى المدرسات من حولي يستعددن لقضاء الإجازة مع أزواجهن وأولادهن .. وأرى المدرسين المغتربين عن المدينة يبتهجون بقرب سفرهم لزوجاتهم وأولادهم فأتظاهر مثلهم بالابتهاج والمرح وأعلن لهم استعدادي للسفر لقضاء الإجازة مع زوجي الحبيب ثم أخرج من المدرسة فأودع سيارتي في جراج بعيد بأطراف المدينة لأبعدها عن العمارة التي أقيم بها ثم أرجع إلى البيت وأتوارى فيه عن الأنظار، وأغلق النوافذ والأبواب لكي يظن الجيران أنني قد سافرت إلى زوجي وأمضى هذه الأيام حبيسة بين جدران شقتي كأنني في معسكر للخدمة العسكرية لا أستطيع مغادرته ، إلى أن تنتهي الأجازة و أرجع ، من السفر "سعيدة" ومحملة بالذكريات الجميلة عن زوجي الحنون الذي ابتهج كثيرا بزيارتي له ، أما في الأجازات الطويلة فإنني أسافر إلى محافظة أخرى وأقضي فترة من الأجازة لدى بعض الأقارب زاعمة أنني قد قضيتها مع زوجي في البحر الأحمر.

 

وهكذا مضت أربع سنوات وأنا أعيش وحيدة بين جدران الحجرات حتى أوشكت على الجنون ، وكثيرا ما أجهشت بالبكاء في مسكني الخالي من شدة الحزن والكآبة ولست أستطيع رغم ذلك أن أحدث أحدا بحقيقة وضعي خوفا من نظرة المجتمع للسيدة المطلقة ، وراقبت العمر وهو بجری باسی بعد أن بدأت منذ أيام عامي السابع والأربعين وترسبت الكآبة في نفسي فبدأت أستعين عليها وعلى حياتي الخالية بالأقراص المهدئة ، وسيطر علي الخوف مما أقرأه في الصحف عن حوادث القتل بهدف السرقة التي تتعرض لها سيدة وحيدة في مسكنها أو رجل مسن يعيش وحده .




 

ولكاتبة هذه الرسالة أقول :

نصحتك يا سيدتي منذ أربع سنوات بالقبول بالأمر الواقع والتسليم به فأخذت ببعض نصيحتي وسلمت عملیا باليأس من أي محاولة لاستعادة زوجك الذي طوى هذه الصفحة العابرة من حياته وانصرف عنك نهائيا وقبلت بالطلاق منه وديا ، لكنك لم تأخذي ببقية نصيحتي لك ولم تقبلي بالأمر الواقع نفسيا ولم تسلمي بأخطر جوانبه وهو أنك قد أصبحت بعد الانفصال عن زوجك سيدة لا تربطها بأحد رابطة الزوجية فتكتمت نبا الطلاق وكأنه « عار » لا ينبغي لأحد أن يطلع عليه وتظاهرت أمام الجميع بأنك مازلت زوجة لزوج غائب وسجنت نفسك بين جدران مسكنك وكابدت عذاب الحبس الانفرادی الاختياري في العطلات القصيرة لتؤكدي لمن حولك صحة هذا الوهم ، فكلفت بذلك نفسك رهقا وساهمت من حيث لا تدرين في تعقيد مشكلتك وفي مضاعفة آثار الوحدة القاتلة عليك حتى استعنت عليها بالمهدئات واستسلمت لبراثن غول الاكتئاب .

 

وما كنت في حاجة إلى شئ من كل ذلك وما كان هذا هو التصرف الأمثل في مثل ظروفك هذه ، فلقد غاب عنك أنك لا تساعدين نفسك على الخروج من قوقعة الوحدة بمثل هذا التظاهر بغير الحقيقة ، وأن نظرة المجتمع للسيدة المطلقة التي تحسبت لها كل هذا التحسب ، لا تخلو رغم تحفظي على المغالاة في التحسب لها من جانب إيجابي مهم إلى جوار جوانبها السلبية الأخرى وهو «إعلام » المجتمع المحيط بالسيدة المطلقة بأنها لم تعد مرتبطة برباط الزوجية مع أحد، وأنها يمكن أن تكون موضع التفكير فيها كزوجة لراغب في رفقة الحياة مع سيدة متوسطة العمر مثلها !

 

فإذا كانت بعض السيدات يتحفظن في إعلان نبأ طلاقهن ليبعدن بذلك عنهن أطماع العابثين ، فإن المغالاة في تكتم هذا النبأ الذي لا يشين أحدا إنما تبعد عنهن كذلك تفكير الجادين في البحث عن شريكة مناسبة لرحلة الحياة ، ولهذا فلقد قلت مرارا أن الحقيقة مهما كانت مؤلمة لنا هي خير من أي زيف ، وأن تقبلها والتسليم بها بشجاعة نفسية هما الخطوة الأولى دائما لمواجهة الصعاب والتغلب عليها . 

فواجهي الحقيقية يا سيدتي بلا إدعاء ولا إنكار فإن الخطوة الأولى لحل مشكلتك هي أن «يعرف» من حولك أنك سيدة «قابلة» للتفكير فيها كزوجة أو شريكة حياة .. وليس في طلاقك من زوجك ما يشينك أو يخجلك وليس في فشل الإنسان في الحياة الزوجية ما يصفه بما ليس فيه كما أن الإنسان لا يستطيع أبدا أن يبدأ صفحة جديدة من حياته إلا إذا طوى الصفحة القديمة وتخلص من كل آثارها عليه، وليس سرالسعادة كما يقول لنا الكاتب الاسكتلندي جيمس باري هو أن يفعل الإنسان ما يحب أو يحيا ما يتمناه من حياة وإنما أن يحب ما يفعله وما يحياه من حياة حتى ولو لم تكن ما يرجوه لنفسه من حياة ، فإذا عجز عن أن يحب ما يفعل أو يعيش من حياة فإنه على الأقل يستطيع أن يحاول دائما إقناع نفسه بتقبلها والتواؤم معها .. وأن يسعد بما تتيحه له من أسباب قليلة للرضا والقبول بها, فواجهي حياتك بلا خجل منها أو تحسب مغالي فيه لنظرة الآخرين إليها بدلا من مخاطبة الجدران الصامتة في مسكنك الخالي ، والاستسلام لأعراض الاكتئاب و"رموزه" كذلك القماش الكئيب الذي تحتفظين به في دولاب ملابسك ، وأخرجي إلى الحياة الاجتماعية في مدينتك .. وشارکي فی نشاطاتها إذ إنها مهما كانت محدودة فلا يمكن أن تخلو من دار للأيتام تستطيعين زيارتها والاهتمام بأمرها أو من جمعية للنشاط النسائی تستطيعين المشاركة في أعمالها التطوعية ، أو من جمعية ثقافية تستطيعين المساهمة في ندواتها واهتماماتها

ولسوف يكون خروجك من قوقعة الأحزان .. والكف عن التظاهر بغير الحقيقة هما الخطوة الأولى للمسح على جراحك .. وترشيحك للسعادة في قادم الأيام بإذن الله .

 ·       نشرت في جريدة الأهرام "باب بريد الجمعة" عام 1994

راجعها وأعدها للنشر / نيفين علي

Neveen Ali
Neveen Ali
كل ما تقدمه يعود إليك فاملأ كأسك اليوم بما تريد أن تشربه غداً
تعليقات