نظرة الانكسار .. رسالة من بريد الجمعة عام 1992

 


نظرة الانكسار .. رسالة من بريد الجمعة عام 1992

نظرة الانكسار .. رسالة من بريد الجمعة عام 1992

الحق إني أشفق على بعض التائبين وعلى غيرهم من أصحاب العقول من ذلك التناقض الذي يحير الأفهام أحيانا بين «سهولة» ورود نهر الحرام الدافق لمن أراد أن يرده .. وصعوبة ورود نهر الرزق الشريف أحيانا لمن تاب وآمن وأراد أن يلقى وجه ربه مطهرا .. هذا هو التناقض الغريب الذي أشفق عليهم منه والذي يسهم بعضنا بغير وعي أحيانا في تعميقه حين يسد عمدا أبواب الرزق على العائدین إلى الطريق الصحيح والمتمسكين به في وجه الإغراءات والصعوبات.

عبد الوهاب مطاوع


أنا إعلامية أعمل بالإذاعة في أقسام الأخبار ، تزوجت وأنجبت فاخترت العمل في وردية الفجر لإعداد نشرة الأخبار حتى لا أغيب عن أطفالي الرضع ولأعود إليهم في الضحى فكنت أغادر مسکنی في العمارة التي نقيم بها قبيل الفجر وأركب سيارة الإذاعة إلى عملي وأعود إلى بيتي قبل الساعة الحادية عشرة صباحا . وكنا كسكان للعمارة نعرف أنه في الدور السابع من عمارتنا تقطن سيدة شابة تعمل راقصة بالملاهي وتقيم بمفردها ، ونتجنبها ونقاطعها جميعا فلا كلام ولا تحية بيننا إذا تقابلنا صدفة في مدخل العمارة أو على السلم ولا نشركها معنا في أي أمر من أمور السكان ، وكان من النادر أن يراها أحد لكني كنت كثيرة ما أصادفها عائدة إلى العمارة وأنا أغادر مسکنی للذهاب للإذاعة في الفجر فلا نتبادل التحية بالرغم مما كنت أحسه أحيانا من تشوقها إلى کسب مودة جاراتها وكلهن زوجات لرجال محترمين .

 

ثم حدث بعد ذلك أني لم أعد أصادفها عائدة في الفجر إلى العمارة .. وعرفنا أنها قد تزوجت من رئيس فرقتها الموسيقية واستقرت في شقتها بالدور السابع ولم تعد تغادرها إلا للذهاب للسوق وشراء احتياجات البيت كأي زوجة أخرى . وبعد أيام أخرى صادفتها إحدى جاراتنا على السلم فرأتها في صورة جديدة تدعو للاحترام والدهشة فقد كانت محجبة حجابا جميلا ووجهها خال من الأصباغ ومظهرها هادیء ومحترم .. فبادرتها جارتنا بالتحية لأول مرة وأجابتها السيدة المعتزلة بحرارة وترحيب .. وأنجبت تلك السيدة الشابة واحتفلت بمولودها الأول احتفالا عائليا بسيطا ووزعت الصدقات . وأرسلت علب البونبون لأطفال العمارة فتقبلتها الجارات بلا اعتراض . وبدأت زوجات العمارة يتحدثن معها إذا رأينها في صعودهن أو هبوطهن للسلم وتجلى حرصها على علاقتها بالسكان وعلى نيل مودتهم في المناسبات المختلفة وفي أداء واجبات التهنئة والمواساة وزيارة المرضى، أما زوجها فقد اكتسب احترام السكان بغير جهد كبير بشهامته مع الجميع وبطبيعته غير المفتعلة كإنسان خدوم يبادر بخدمة أي جار يحتاج إلى خدمة وبأدبه الجم وإغضائه البصر مع كل سيدات العمارة.

 

 وأصارحك يا سيدي أنني أحببت سريعا هذه السيدة المعتزلة ومنحتها ثقتي واحترامی خاصة بعد أن لاحظت عليها حرصها على أداء الفروض الدينية وعفة لسانها . واقتربت منها وعرفت قصة دخولها عالم الفن وهي قصة غير تقليدية أدت إلى تبرؤ أهلها منها ومقاطعتهم لها إلى الأبد وبلا أي أمل في عودة العلاقات معها .

ومضت الأيام بهذه الأسرة الصغيرة .. ولم تكن لعائلات العمارة عليها أية ملاحظات سوى إسرافها في الإنفاق على نفسها وعلى الآخرين کالبواب وصبيان المحلات التجارية التي تتعامل معها وشغالي العمارة ، وفسرنا ذلك بأن الزوج يكسب من عمله كموسيقى الكثير وينفق إيراده بسهولة وبلا احتياط للزمن وبأن الزوجة معتادة على الإنفاق وارتداء الملابس الثمينة وعلى المظهر الفخم من حياتها السابقة .

وفي جلسات الصباح حين تجتمع بعض الزوجات الصديقات في شقة إحداهن لتناول القهوة وتبادل الأحاديث في غياب الأزواج أصبحت تلك السيدة تجلس بيننا في أدب ووداعة وثقة في النفس وقد منحها الله قبولا من عنده لدى الجميع كما أصبحت تدعونا من حين لآخر لمثل هذه الجلسة في شقتها وتبالغ في إكرامنا والحفاوة بنا في غياب زوجها ويلفت نظر البعض منا فخامة أثاثها ونظافة شقتها المتناهية ونظافة أطفالها الصغار ونظافتها الشخصية دائما .

 

ولم نكن نزورها في شقتها في الصباح إلا إذا كان زوجها مسافر خارج القاهرة في رحلة فنية ، لأنه في الأيام العادية كان يمضي نهاره في البيت ويخرج لعمله في المساء . ومنذ ثلاث سنوات أرسلت في الصباح شغالتي إلى هذه السيدة لطلب لم أعد أذكره الآن ، فصعدت إلى شقتها ووجدت "الأستاذ" قد انتهى من تناول إفطاره ويتناقش على الباب في مرح مع محصل الكهرباء حول قيمة الفاتورة الباهظة وهو يدفعها ، وانصرف المحصل ضاحكا .. فتنبه الأستاذ للشغالة وداعبها ودعاها للدخول واتجه إلى البهو وهو ينادي زوجته .. فإذا به يسقط على الأرض فجأة وكنت في شقتي فسمعت صراخا هيستيريا وفوجئت بالشغالة تهرول عائدة في فزع وتقول لي إن الأستاذ فلان قد طب ساكتا وأسرعت إلى شقة جارتي فوجدته ممدا على الأرض وقدرت أنها حالة إغماء مفاجئة فأسرعت أطلب سيارة الإسعاف وتجمعت سيدات العمارة في شقة الجارة الشابة وجاءت سيارة الإسعاف فطلب الطبيب إنزال المريض إلى السيارة في الشارع لعدم وجود مصعد . وجاء زوجي المحامي فحمل الجار الطيب الشهم على كتفه من الدور السابع إلى الدور الأرضي وتم إدخاله إلى سيارة الإسعاف ، وتحركت السيارة مسرعة إلى المستشفى وقبل أن تصل إلى نهاية شارعنا فوجئنا بصوت فراملها ثم بعودتها القهقرى إلى باب العمارة ، وبالطبيب الشاب يطلب من زوجي إعادة الجار إلى مسكنه .. لأنه «إنا لله وإنا إليه راجعون» .

 

 وصعق زوجي .. هذا الجار الخجول الشهم الذي لم يتجاوز الرابعة والثلاثين من عمره وكان يتفجر حيوية ومرحا منذ لحظات ؟ .. نعم هذا ما حدث وانتهى كل شيء في غمضة عين ودفع الحاضرون أجر استدعاء السيارة .. وحمل زوجي جاره مرة أخرى على كتفه إلى الدور السابع .. ووقفت الزوجة مذهولة بين جيرانها لا تدري ماذا تفعل وهي بلا أهل وأكبر أطفالها لم يتجاوز السادسة .. وتطوع الحاضرون لعمل اللازم .. وقام زوجي بالإجراءات الضرورية وحمل الجميع الراحل إلى بلدته بإحدى محافظات الوجه القبلي القريبة وتمت المراسم الحزينة وأقيم العزاء هناك . وعاد الجميع في المساء وصعدت زوجات سكان العمارة لمواساة الأرملة الشابة وحاولن تشجيعها فظلت تتمتم في هيستيرية ومن بين دموعها بعبارة واحدة هي : أن الخراب قد بدأ .. ولا حول ولا قوة إلا بالله !

 

وبعد أن أفاقت قليلا لنفسها سألت عمن دفع تكاليف المراسم والإجراءات وأصرت بعناد على أن تدفع لكل ذي حق حقه ورفضت كل محاولات التأجيل أو الاعتذار ، وأجابتنا حين سألناها عن أحوالها المادية باقتضاب إنها مستورة . وأنهى لها زوجي إجراءاتها القانونية اللازمة لإعلام الوراثة الخ ولاحظنا كثرة بكائها وتطلعها الحزين لأطفالها الصغار الذين أدخلتهم مدرسة لغات وكانت تحلم لهم بحياة أفضل من حياتها وأدركنا أنها تواجه أزمة مادية كبيرة لكنها تتعفف عن أن تشير إليها بعزة نفسها الكبيرة فعرضنا عليها المساعدة المادية فرفضت بإصرار .. ثم لاحظنا بعد ذلك أنها تبيع آلات زوجها الموسيقية من حين إلى آخر لتواجه نفقات أطفالها وحياتها .. فعرض عليها أحد الجيران أن يقدم لها مرتبا شهريا يعينها على حياتها فاعتذرت شاكرة بإصرار وأبلغت زوجته بأن من يريد أن يساعدها فليوجد لها عملا شريفا تنفق من أجره على أطفالها .

 

ولمست أزمتها عن قرب وأشفقت عليها من تغير الأحوال خلال وقت قصير بعد أن كانت تنفق عن سعة ومن خلال اضطرارها لبيع آلات زوجها الموسيقية .. وعاد بعض أصدقاء الوسط القديم الذين حجبهم زوجها عنها للظهور في حياتها وزيارتها من جديد ووسوس لها بعضهم وهم يلمسون تقشف حياتها ويرونها تبيع بعض أجهزتها المنزلية كالمسجلات وغيرها لتعيش أن تعود إلى عملها السابق خاصة وأن كل ما تحتاجه هو بعض التدريب والتمرينات الرياضية لاستعادة رشاقتها القديمة ثم تبدأ العمل وتجد كل مشاكلها حلولها بطريقة سحرية ! لكنها رفضت بشدة مجرد مناقشة الفكرة .. وقالت لي لن تخون زوجها الراحل وأطفالها بعد أن هداها الله للإيمان والاستقامة ، وألحت علي في الإسراع بإيجاد عمل لها وتداولنا في أمرها .. وتساءلنا عن نوع العمل الذي تستطيعه وهي لم تكمل تعليمها ولم تحصل على الثانوية العامة .

 

ولاحظت بالأسف أن عزة نفسها قد بدأت تنكسر داخلها بعض الشيء مع استمرار المحنة وتزايد صعوبة الحياة وعرضت عليها إحدى جاراتنا أن تعمل مربية وشغالة لدى إحدى الأسر وهي تتوقع أن تثور عليها وتلومها .. ففاجأتنا بالقبول قائلة إنه عمل شريف ولا يسيء لأولادها بعكس عملها القديم . وأرسلتها جارتنا إلى تلك الأسرة وهي مشفقة عليها من التجربة فذهبت طائعة فإذا بالأسرة ترفضها لا لماضيها فقد شهد لها الجميع بالتدين والأخلاق الكريمة وإنما لسبب عجيب هو أن مظهرها فخم جدا وأنيق للغاية حتى في حجابها الجميل . وعادت باكية تقول : وماذا أفعل بملابسي هل أبيعها هي الأخرى .. ومن يشتريها .. ولماذا ينبغي علي أن أرتدي الملابس الرثة لكي أحصل على عمل شريف ؟

 

وأرسلها بعد ذلك جار آخر إلى صديق له صاحب مصنع صغير للملابس الجاهزة لتعمل عاملة في مصنعه وذهبت إليه واستقبلها وطلب منها الانصراف وانتظار رده عليها مع صديقه . ثم اتصل بجارنا معتذرة عن عدم تشغيلها عاملة في مصنعه لأنها تصلح كما قال لأن يعمل هو عندها وليست هي عنده ! 

 

ولكاتبة هذه الرسالة أقول :

الحق أني أشفق عليها أكثر وعلى غيرها من أصحاب العقول من ذلك التناقض الذي يحير الأفهام أحيانا بين «سهولة» ورود نهر الحرام الدافق لمن أراد أن يرده .. وصعوبة ورود نهر الرزق الشريف أحيانا لمن تاب وآمن وأراد أن يلقى وجه ربه مطهرا ..

هذا هو التناقض الغريب الذي أشفق عليها منه والذي يسهم بعضنا بغير وعي أحيانا في تعميقه حين يسد عمدا أبواب الرزق على العائدین إلى الطريق الصحيح والمتمسكين به في وجه الإغراءات والصعوبات وهو تناقض قدیم أشار إليه الشافعي في بعض أشعاره حين قال :

ومن الدليل على القضاء وحكمه

بؤس اللبيب وطيب عيش الأحمق

هذا إذا أسفنا إلى مفهوم الأحمق الذي قد يتسع رزقه من حلال أحيانا بغير جهد منه أو كفاءة مفهوم الأحمق الآخر الذي يرضى لنفسه وأهله أن يطمعوا من حرام وهو كذلك بكل تأكيد وبالمقاييس الصحيحة .

 

كذلك فقد اعتبره الشاعر العربي أبو تمام من حقائق الحياة التي يخفی سرها على الإدراك ووجد تبريرها في قوله :

لو كانت الأرزاق تجري على الحجا

هلکن إذن من جهلهن البهائم

لا يجتمع شرق وغرب لقاصد

ولا المجد في كف امریء والدراهم

 

ولسنا في الحقيقة ننتظر أن يجتمع "شرق وغرب" لقاصد .. لأننا نعرف جيدا أن لكل إنسان ما ينقصه وما يتطلع إليه دائما .. کما نعرف أيضا أن لكل إنسان اختياره في الحياة .. وأن لكل اختيار تبعاته وفاتورته التي يدفعها راضيا.. فمن اختار الانحراف والحياة اللذيذة التي لا تؤرقها مسائل الحرام والحلال .. فليهنأ بما اختار وليدفع فاتورته غير شاك في الدنيا من احتقار الآخرين له .. وفي الآخرة من عذاب الجحيم .. وليس من حقه بعد ذلك أن يأسي على عدم احترام الناس له أو رفضهم أو نبذهم له أو جفولهم من مصاهرته أو الاحتكام إليه في أمور الدين والدنيا .. بسبب منطقي بسيط هو «أن المرأة التي تتقاضى أجرها .. ليس من حقها أن تطالب بالزواج» . كما يقول المثل الانجليزي ! وكل منحرف يستهين بقيم دينه وحدود ربه وأعراف مجتمعه وينهل من المورد الحرام بلا حساب هو كالمرأة التي تتقاضى أجرها ولا يحق لها أن تطالب بالزواج أو بالاحترام والقبول والشرعية وبراحة القلب والنفس والضمير .. وبأجر الصالحين في الدنيا والآخرة ، لأن ذلك كله هو جائزة الحرمان من اللذائذ المحرمة ، وجائزة الحرمان أحيانا من طيب عيش الأحمق، والمنحرف والسارق والمختلس وتاجر السموم وناهب الأموال وسارق الأعراض .. الخ ولن يجتمع مرة أخرى شرق وغرب لقاصد على ظهر الأرض إلا لمن رحم ربك وهداه إلى الطريق القويم وأجزل له العطاء في الدنيا .. وفي الآخرة .. ليكون مثالا للناظرين، وإن لم تخل حياته غالبا من أشجانها التي لا يعرفها غيره .

 

وقصة صديقتك يا سيدتي ترجمة مؤلمة لهذا التناقض القديم ، ولست ألوم الأسرة التي رفضتها شغالة ومربية أطفالها حتى وإن اختلفت معها في الرأي لأن لكل إنسان تقديره الخاص فيما يتعلق بتربية الأطفال . لكني ألوم بشدة صاحب المصنع الذي ضن عليها بهذا العمل البسيط لمجرد أن مظهرها محترم ولا يتفق مع مظهر العاملات عنده . فليس هكذا نعين من اختار الرزق الشريف على شحه وفضله على النبع الغزير، ولا هكذا ينبغي أن نعين من اختار العمل الشريف راضيا بعائده البسيط .. وهناك على الضفة الأخرى من النهر من يناديه أن هلم لترد نبعنا وتجد كل ما تحتاج إليه بلا حساب ولا عناء ! "وبئس الورد المورود" .. صدق الله العظيم .

 

إنني مثلك لا أخشى عليها من أن تضعف أمام صعوبات الحياة أو تتنازل عن قيمها لأن من عرف الطريق الصحيح واختاره بملء إرادته يتعذر عليه غالبا أن يرتد عنه لكننا لا يصح أن نعتمد على ذلك وحده فنعين صعوبات الحياة على أمثالها بدلا من أن نعينهم على صعوبات الطريق .

ولاشك أن صديقتك أحق بإعانتها على أمرها ، ليس فقط لحاجتها وحاجة أطفالها إلى ما يحفظ عليهم الحياة الكريمة .. وإنما أيضا لکی نثبت لها ولغيرها بالدليل أنها لم تضل الطريق حين اختارت حياتها الجادة المستقيمة .. وإنما عرفت طريقها الصحيح إلى ربها وصلاح أمرها وأمر أطفالها حين اختارته رغم صعوبات الحياة وعثراتها ولتفضل إذن بالاتصال بي مساء الاثنين القادم والله المستعان على ما يصفون .


تنويه هام

لقد تواصلت معنا السيدة الفاضلة كاتبة الرسالة في 21 نوفمبر 2024 لتطلب قراءتها وبسؤالها عن أحوال بطلة القصة اخبرتنا أنها للأسف تركت هذه العمارة وانقطع عنها اخبارها ولا تعرف عنها شئ 

 ·       نشرت في جريدة الأهرام "باب بريد الجمعة" في يناير عام 1992

راجعها وأعدها للنشر / نيفين علي

 


Neveen Ali
Neveen Ali
كل ما تقدمه يعود إليك فاملأ كأسك اليوم بما تريد أن تشربه غداً
تعليقات