الفائز .. رسالة من بريد الجمعة عام 1990

 الفائز ..  رسالة من بريد الجمعة عام 1990

الفائز ..  رسالة من بريد الجمعة عام 1990

إن هناك أشياء كثيرة في الحياة يستطيع المال أو النفوذ أن يحققاها ، لكن هناك شيئين على وجه التحديد لا يستطيع نفوذ الأباطرة ولا أموال الدنيا شراءهما هما : الصحة .. والحب "وهذان في الدنيا هما الرحماء" بالإنسان على حد تعبير أمير الشعراء .. وهذان هما غاية ما يحلم به كل إنسان عاقل في حياته .. لكنه لا ينالهما أبدًا إلا من رحم ربك وربما نال غيرهما الكثير فلا يكون له قيمة في غيابهما .. ولا يعرف السعادة الحقة بغيرهما .
عبد الوهاب مطاوع


تأثرت كثيراً بقراءة رسالة الجائزة الثانية التي كتب قارئ عن معاناته مع زوجته فدفعني ذلك أن أكتب رسالتي هذه .

 فأنا رجل في الخمسين من عمري تزوجت منذ 25 عامًا ولي 6 أولاد منهم 3 بالتعليم العالي – اثنان على وشك التخرج إن شاء الله – واثنان في الثانوي وواحدة في الابتدائي .. وكانت زوجتي طالبة عندي في المرحلة الإعدادية أعجبتني أخلاقها وتعقلها وتصرفاتها فتقدمت لخطبتها وكنت وقتئذ في إعارة للتدريس بإحدى الدول العربية ثم تزوجنا وسافرنا معًا وأنجبنا أولادنا الواحد بعد الآخر فمرت حياتنا كشهر عسل مستمر من 25 عامًا .

 

 ولك أن تتخيل هذا والحمد لله إذ لم أسمع يومًا من زوجتي كلمة نابية أو تأففًا بل لم أسمع منها مطلقًا ما يزعجني أو يؤلمني أو يجعلني أندم على اختياري لها . بل كانت لي الأم الرءوم والزوجة الحنون والحبيبة المخلصة وكنت لها الأب العطوف والزوج المخلص والأخ الحنون والحبيب والأليف والصديق .

 

ولا أذكر طوال هذه الفترة – التي أعتبرها قصيرة من عمرينا – أنني أسأت معاملتها يومًا أو أهدرت لها كرامة أو خدشت لها حياء وإنما كان الحب والود والوفاء والتضحية والإخلاص هي المظلة التي تظلل بيتنا .

 وأنا غالبًا ما أناديها في البيت بـ "حبيبتي" أو "روحي" أو "حياتي" بتلقائية طبيعية وعفوية عادية دون نفاق أو رياء وهي كذلك حتى أن أولادنا بعد أن كبروا بدؤوا يتندرون علينا – باحترام طبعًا – فتأتي ابنتي الشابة أحيانًا إليّ فتقول لي : كلِّم روحك تقصد أن أمها تطلبني بل إن أولادنا يقولون لنا أحيانًا نريد أن نراكما مرة تتشاجران كما نسمع من أصحابنا أو نرى في التليفزيون فنقول لهم ضاحكين هيهات أن يحدث هذا ! ولن يحدث بإذن الله .

 

وهذه المودة والرحمة انتقلت تلقائيًا إلى أولادنا فهم يحبون بعضهم بعضًا ويضحي كل منهم من أجل الآخر ويؤثره على نفسه بل إني إذا أردت أن أعاقب أحدهم على ذنب يستحق الحساب والعقاب انبرى لي الآخرون كلٌ يدافع عن أخيه ولا أجد إزاء هذا الحب إلا الصفح عنه بعد أن أعرّفه بخطئه وأنا ممتن شاكر لله على نعمته التي أنعم بها عليّ . والحمد لله رغم أنني لا أنال من المال إلا ما يسد حاجتنا الضرورية إلا أنني أعتبر زوجتي وأولادي والستر من الله هم ذخيرتي ومالي وثروتي في الحياة .

 

وأرجو ألا تعجب إذا قلت أن شريكة عمري ورفيقة دربي وكفاحي – لم تبت ليلة واحدة خارج بيتها طوال هذه المدة لا بسبب ولا بدون سبب ، ولم تغادر بيتنا يومًا غاضبة وإن حدث بيننا خلاف على أي أمر من الأمور فيلتزم كل منا جانبًا ولا تمر ساعة وربما أقل إلا وقد عاد الصفاء والوئام مرة ثانية ويأخذ كل واحد منا في إقناع الآخر بوجهة نظره بوعي وهدوء وروية حتى نزيل أسباب سوء التفاهم .. وإن حدث "وهو نادر" أن خاصم أخ أخاه  وهذا كثيرًا ما يحدث بين الأشقاء في هذه السن فلا يهنأ لها بال إلا بعد أن تعيد حبال المودة بينهم وتعيد الصفاء بين قلوبهم ورغم كل ذلك فكم عانت وقاست من أجلي ومن أجل أولادها وكم ضحت وكم سهرت الليالي على آلة الخياطة لكي توفر لأولادها ما يحتاجون إليه ولا يستطيع أن يوفره راتبي المحدود ورغم أنها تتألم من ظهرها إلا أنها تتحامل على نفسها وتضحي من أجل ذلك . وإن طلب أحد الأبناء شيئًا ولا أستطيع أن ألبي طلبه فلا يهنأ لها بال حتى توفره له بمزيد من التضحية ومزيد أكثر من العناء والمشقة ، ورغم كل ذلك فلم أسمعها يومًا تشكو ولم تطلب منّي يومًا ما لا أستطيع أن أوفره لها حتى لا تشعرني بالعجز رغم إحساسي بما تحتاجه .

 



 

ولكاتب هذه الرسالة أقول :

 

ذلك هو الفوز العظيم !

فلقد فزت بجائزة الزواج الأولى يا سيدي ، وهي السعادة وحقَّ لك أن تنعم بما أوتيت من فضل .. فمن أوتيها فقد أوتي خيرًا كثيرًا . إن هناك أشياء كثيرة في الحياة يستطيع المال أو النفوذ أن يحققاها ، لكن هناك شيئين على وجه التحديد لا يستطيع نفوذ الأباطرة ولا أموال الدنيا شراءهما هما : الصحة .. والحب "وهذان في الدنيا هما الرحماء" بالإنسان على حد تعبير أمير الشعراء .. وهذان هما غاية ما يحلم به كل إنسان عاقل في حياته .. لكنه لا ينالهما أبدًا إلا من رحم ربك وربما نال غيرهما الكثير فلا يكون له قيمة في غيابهما .. ولا يعرف السعادة الحقة بغيرهما .. فالحمد لله كثيرًا على ذلك ولعلك سمعت صوت طرقات أصابعي على خشب المكتب .. اتقاء للحسد .. أتم الله عليك نعمته ، وشكرًا .

رابط رسالة الجائزة الثانية

 ·       نشرت في جريدة الأهرام "باب بريد الجمعة" عام 1990

راجعها وأعدها للنشر / نيفين علي


Neveen Ali
Neveen Ali
كل ما تقدمه يعود إليك فاملأ كأسك اليوم بما تريد أن تشربه غداً
تعليقات