الشجرة السامقة .. رسالة من بريد الجمعة سنة 2004

 الشجرة السامقة .. رسالة من بريد الجمعة سنة 2004

الشجرة السامقة .. رسالة من بريد الجمعة سنة 2004

ليس أخطر على الحب والزواج من البلادة العاطفية وإهمال الجانب العاطفي في العلاقة الزوجية، وأخذ شريك الحياة للطرف الآخر كشجرة عميقة الجذور ترتوي بماء المطر ولا تحتاج إلى رعاية مستمرة وخدمة متصلة وسقيا دائمة بماء العاطفة والاهتمام ..‏ فالحق إن كل شيء قابل للتغير إلا قانون التغير‏، كما قال ذات يوم فيلسوف إغريقي والشجرة السامقة إذا طال جفافها شاخت فروعها‏،‏ وجف جذعها وانهارت فجأة.
عبد الوهاب مطاوع
 

أكتب إليك رسالتي هذه بعد أن قرأت رسالة الطريق المنحدر‏,‏ ثم رسالة الانسحاب الثاني فأنا طبيبة في منتصف الأربعين من العمر نشأت بين أبوين متحابين‏،‏ وعشت حياة هادئة وجهني فيها والدي المربي الفاضل إلى طريق الإيمان والالتزام الأخلاقي والحمد لله‏.‏

وقد مرت حياتي هانئة سعيدة في تفوق دراسي مستمر‏،‏ حتى وصلت للمرحلة الجامعية‏، حيث الاختلاط‏ ،‏ وكثير ممن حولي لهم ارتباطات عاطفية مع بعضهم بعضا ‏.. وعلي الرغم من شخصيتي الرومانسية وعواطفي الجياشة التي تسيطر على فكري وحياتي‏ ..‏ فلقد عاهدت الله سبحانه وتعالى على الالتزام الخلقي التام، وعلى أن تكون كل عواطفي لشخص واحد فقط هو زوجي الذي سألتقي به ذات يوم‏.‏

 

وبعد تخرجي بفترة قصيرة تقدم لي طبيب شاب يكبرني بعدة سنوات وعلى خلق ودين‏، ومناسب اجتماعيا‏،‏ ولكنه رقيق الحال من الناحية المادية‏ كأغلب الشباب ‏.. فتقبلته أسرتي بترحاب وارتياح ووافقتهم على ذلك حيث لا تهمني الماديات مطلقا‏،‏ بقدر ما تهمني الحياة العاطفية التي طالما حلمت بها طوال حياتي‏.‏

وتم الزواج بهدوء‏،‏ وفوجئت بعده بالتباين الشديد في شخصياتنا‏ن فزوجي يتميز بالجدية الشديدة والهدوء الأشد وبعيد تماما عن الرومانسية ‏.. وأنا على العكس منه في ذلك، فحزنت حزنا شديدا لتباين عواطفنا‏،‏ وتقبلت قدري بحزن‏، وإحساس باحتياجي الدائم للعواطف‏.‏

 

ومرت الأيام وإذا بي في فترة ما من حياتي العملية أصادف زميلا لي ، زادت بيننا الحوارات والمناقشات وتقاربنا وبدأ يفتح لي قلبه ويحكي لي عن مشاكله العديدة مع زوجته واختلافهما في جميع النواحي‏ .. وبدأت أشعر بالتقارب والألفة بيننا، ثم بدأ يطلب الاتصال تليفونيا بي بعد العمل لاستكمال الحوار‏، فرفضت ذلك لأنه يفتح مجالا أكبر للتقارب‏ .. وبدأ يتغير شعور الزمالة بيننا‏،‏ هنا تذكرت قول الله تعالي :
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ وَمَن يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ

فوقفت مع نفسي وقفة جادة وحازمة وقاطعة وسجدت لله أدعوه بكل قلبي ووجداني وأعاهده معاهدة خالصة بغض البصر تماما عن هذا الزميل‏ وعن أي رجل أجنبي آخر‏..‏ وأن ألتزم التزاما تاما في كل مناقشاتي‏،‏ وأنهي أي حديث بعيد عن مجال العمل ‏.. وصدقت في عهدي مع الله سبحانه والحمد لله ومع نفسي، وبدأت اتجه إلي زوجي بكل عواطفي وألح عليه بحبي أياما وأسابيع وشهورا بلا يأس‏ ..‏ وكل هذا وأنا وزوجي نعيش حياة صعبة بعض الشيء من الناحية المادية،‏ إلى أن حدثت في حياتنا طفرة غريبة،‏ إذ رُزق زوجي بعيادة في مكان جيد سعي إليه كثيرا حتى أذن الله له به في النهاية‏، فكان بمثابة فتح مادي كبير في حياتنا‏ .. وأكرم الله زوجي بالنجاح والتوفيق فيه‏..‏ وسبحان الله إذ أنه بعد هذا الارتياح المادي‏، تغير زوجي تغيرا ملموسا‏  وأصبح رجلا رومانسيا محبا عطوفا يغدق علي من الحب والحنان كل ما حلمت به وتمنيته طوال عمري‏، حتى إنه بعد ذهابه للعيادة‏، يرسل إلي رنات حب على المحمول ‏.. وفي منتصف عمله يرسل إلي رسالة حب أيضا على المحمول وأرد عليه بشوقي وحبي وانتظر عودته بلهفة.


 وتحولت حياتنا إلى شهر عسل متصل ولله الحمد في الأولى والآخرة .. وسعدت بذلك كثيرا وقلت لنفسي أنه ربما كانت مسئولية زوجي المادية قبل ذلك تحجب عنه الاهتمام بالتعبير عن عواطفه الكامنة وربما كان إلحاحي عليه بحبي السبب في هذا التغيير،‏ وسواء كان هذا أو ذاك فإني سعيدة بما حدث وأوجه كلمتي إلى كل من تمر بمحنة عاطفية من هذا النوع أن تفعل كما فعلت وتتجه إلى الله بقلبها والي زوجها بمشاعرها

وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

 

ولكاتبة هذه الرسالة أقول ‏:‏

 

إذا صدقت نية الزوجة المحصنة علي الإخلاص لزوجها مهما يكن ما تنكره عليه أو تعانيه معه فإن الله سبحانه وتعالى لا يتخلي عنها أبدا‏,‏ وإنما يعينها علي أمرها ويجعل لها من أمرها رشدا‏.‏

وهذا هو درس قصتك الذي تؤكده كل يوم تجارب الحياة‏ ,‏ ومنها تجربتك الشخصية‏..‏ ولقد فعلت ما ينصح به العارفون إذا تعرضت الزوجة ذات يوم للضعف البشري ‏,‏ وشعرت بميل عاطفي تجاه شخص آخر عدا زوجها ‏,‏ وهو أن تجاهد نفسها وتقاوم هذا الميل داخلها وتصارعه حتى تصرعه وتمتنع عن كل فعل او سلوك يؤجج مشاعرها تجاه الآخر‏,‏ أو يعيد عليها ضعفها بدلا من ان يعينها عليه‏ ,‏ فتكف عن رؤيته والاتصال به والسماح له‏ ,‏ بالاتصال بها‏,‏ وتتجه بكل عواطفها إلى زوجها وتلح عليه بها وتنبهه إلى ما تنكره عليه في الجانب العاطفي من علاقتها به‏,‏ وتطالبه بالاهتمام باللفتات العاطفية واللمسات المعبرة عن الحب في علاقتهما الزوجية‏,‏ وتشجعه علي التعبير عن مشاعره تجاهها بالكلمات إلى جانب الأفعال والتصرفات‏,‏ ولا بأس في هذا المجال من أن نقتبس التقليد الأجنبي الحميد الذي يقضي بما يسمونه تجديد العهود بين الزوجين كل عدد من السنين‏,‏ حيث يحتفلان بالمناسبة ويكرران صيغة الإيجاب والقبول بينهما في حضور الأهل والأبناء كما لو كانا يتزوجان من جديد وبمراسم شبيهة بمراسم الزواج ‏,‏ ويجددان العهد بينهما بأن يحب كل منهما الآخر ويصاحبه في السراء والضراء وفي الصحة والمرض وفي كل خطوب الحياة وتقلباتها‏.‏

 

وهو تقليد حميد بالفعل إذ إنه ليس أخطر علي الحب والزواج من البلادة العاطفية وإهمال الجانب العاطفي في العلاقة الزوجية‏، وأخذ شريك الحياة للطرف الآخر كشجرة عميقة الجذور ترتوي بماء المطر ولا تحتاج إلى رعاية مستمرة وخدمة متصلة وسقيا دائمة بماء العاطفة والاهتمام ‏,‏ فالحق إن كل شيء قابل للتغير إلا قانون التغير‏,‏ كما قال ذات يوم فيلسوف إغريقي والشجرة السامقة إذا طال جفافها شاخت فروعها‏، وجف جذعها وانهارت فجأة ‏,‏ وليس من الحكمة أن نعتمد في علاقتنا مع شريك الحياة إلى الاطمئنان الغافل إلى أنه راض عن حياته علي هذا النحو‏,‏ ولن تتغير مشاعره تجاهنا مهما واصلنا تجاهل احتياجاته العاطفية ‏، أو إذكاء لهب الحب المشتعل بيننا بمزيد من قطع الخشب كل حين‏,‏ وكل إنسان مهما يبلغ من الرشد والحكمة معرض للفتنة والضعف الإنساني وإغراءات النفس الأمارة بالسوء ‏,‏ ولا يعصمه من ذلك إلا إيمانه بربه وتمسكه بتعاليمه ونواهيه والتزامه بالقيم الأخلاقية والدينية‏.‏

فهنيئا مريئا لك يا سيدتي تجديد العهود بينك وبين زوجك‏,‏ وتجدد لهب الحب والعاطفة في حياتكما‏,‏ وثقي من إن ما تنعمين به الآن من راحة القلب والضمير إنما هو جائزة السماء لك لانتصارك علي نفسك وردك لها عن الخطأ والخطيئة‏,‏ بعد أن حامت حوله وأوشكت أن تخالطه‏.‏

 

فلقد توقفت في الوقت المناسب تماما‏..‏ وقبل أن يصدق عليك حديث الرسول الكريم صلوات الله وسلامه عليه‏:‏

من حام حول الحمي أوشك أن يقع فيه ‏,‏ ومن يخالط الريبة يوشك ان يجسر‏!‏

فالحمد لله الذي حماك من الخطر‏..‏ وشكرا لك‏.‏.

 رابط رسالة الطريق المنحدر

رابط رسالة الانسحاب الثاني

 ·       نشرت في جريدة الأهرام "باب بريد الجمعة" عام 2004

شارك في إعداد النص / محمد يسري

راجعها وأعدها للنشر / نيفين علي


Neveen Ali
Neveen Ali
كل ما تقدمه يعود إليك فاملأ كأسك اليوم بما تريد أن تشربه غداً
تعليقات