نزوات الرجال .. رسالة من بريد الجمعة عام 1997
نزوات الرجال
التي يبرر بها البعض خيانتهم ليست صكا للغفران ينال صاحبه العفو والمغفرة بمجرد
إشهاره في وجه من يحاسبه عن سلوكياته ، ولا هي امتیاز خاص بالرجل يشبع به شهواته كلما
بدا له أن يفعل ذلك ، ثم يتوقع من الآخرين بمجرد الاحتجاج به أن يغفروا له ما فعل
ويتجاوزوا عنه ولو أدرك من يتشدق بها - لتبرير ضعفه عن مغالبة هوى النفس - معناها
الحقيقي ، لما سعد به ولما ارتضاه لنفسه.
عبد الوهاب مطاوع
أنا سيدة في
الخامسة والأربعين من عمري أعمل عملا مرموقا ومتزوجة منذ عشرين عاما ، وأم لعدد من
الأبناء، وقد تقدم زوجي لخطبتي وأنا في الثالثة والعشرين من عمري، وكان هو في ذلك
الوقت يكافح لكي يبنى حياته ويقوم بواجبه والتزاماته تجاه أسرته ، فتحملت معه
صعوبات البداية ، ورضيت بأن أعيش معه في بيت أهله لفترة طويلة حتى يتمكن من تدبير
مطالب الحياة وتوفير مسكن الزوجية ، وعشت في بيت أهله كواحدة من أهله أنام في غرفة
البنات إلى أن يرجع زوجي من أسفاره الكثيرة وراء عمله ، ثم تحسنت ظروفنا بعد ذلك
وأثمر كفاحنا المشترك في الحياة فأصبح لنا مسکن مستقل وجميل وجاء الأبناء الذين
ملأوا علينا حياتنا واكتملت بهم سعادتنا ، وحقق زوجي نجاحا ملحوظا في عمله ، وحققت
أنا كذلك نجاحا لا بأس به وتعاونا معا على الحياة بلا فرق بين مالي وماله ،
واستقرت سفينة الحياة بنا بعد سنوات من الزواج في إحدى المدن الصغيرة حيث تعيش
أسرة زوجي .
ثم احتجت ذات
يوم إلى من يساعدني في شئون البيت فجاءني زوجي بفتاة من قريباته البعيدات تستحق
المساعدة ، فعملت معنا ورحبت بها كأخت صغيرة لي وكواحدة من قريبات زوجي وليس
كشغالة . وقضت معنا فترة من الزمن ثم شكت من بعد المسافة بين بيتنا وبيت أسرتها ،
فأعفيتها من العمل معنا وتمنيت لها التوفيق في حياتها وسعيت بقدر جهدي لتزويجها
بعد أن تأخرت بها سن الزواج ، فلاحظت فتورها وعدم حماسها لذلك ، ودهشت لتهربها من
محاولاتي لتعريفها بشاب رشحته للزواج منها ، وتعجبت لذلك كثيرا ثم نسيتها ونسيت أمرها
في غمار انشغالي بشئون أسرتي وأبنائي إلى أن فوجئت ذات يوم بوالدي يصارحنی مشفقا
بأن زوجي متزوج من هذه الفتاة عرفيا منذ فترة ليست قليلة وأنه يستأجر لها شقة
صغيرة بالقرب من بيت أمها ، وتعجبت لما قاله أبي كثيرا ورفضت تصدیقه إذ كيف يتزوج
زوجي ذلك الرجل المرموق في مجتمعه وأسرته وعمله من فتاة غير جميلة وغير متعلمة ولا
ذكية مثلها ، لكن والدي أكد لي معلوماته وقال لي إنه لم يبلغنی بما قال إلا بعد أن
تقصى حقيقة الأمر وتأكد منه.
وقررت ألا أسبق الأحداث وأن انتظر زوجي لأسأله
عما سمعت به ، وجاء زوجي من سفر قصير له ، فواجهته بما سمعت به ، فإذا به لا ينكره
ولا ينفيه ، وإنما يعتذر عنه فقط بأنها نزوات الرجال التي لا تؤثر على حبه ،
واحترامه ، وحاجته الدامغة لي ، لأنه لم يحب سواي .. إلخ .
ولم أتمالك
نفسي حين سمعت ذلك ، وغضبت منه غضبا هائلا
ورحت أردد
باكية وذاهلة : حسبي الله ونعم الوكيل ، ولست أعرف كيف مضت تلك الليلة ، ولا كيف
انقضت ساعاتها الثقيلة على نفسي، وفي اليوم التالي جاءني من أهلي من يقول لي إنها
لم تكن الزيجة السرية الوحيدة له ، وإنه قد فعلها قبل ذلك منذ أحد عشر عاما وبنفس
طريقة الزواج العرفي السري ودامت زيجته بضعة أشهر ، ثم کررها بعد ذلك مرة أو مرتين
أو ثلاثا ، وازداد ذهولي وانهياري وواجهت زوجي بما سمعت مرة أخرى فلم ينكره ، ولم
يجد ما يقوله سوى أنها "نزوات الرجال" ، وإنه يحبني ولا يحب سواي ، بل
إنه كان يقارن دائما بیني وبين من يتزوجها ، فتكون نتيجة المقارنة دائما لصالحي
ويزداد حبا لي واحتراما وإعجابا !
وثارت نفسي
على زوجي ثورة رهيبة وخيرته بين أمرين لا ثالث لهما إما أن يختارني أنا وأبنائی ..
وإما أن يختار هذه الفتاة غير المتعلمة ويطلق سراحي ويقطع ما بيني وبينه من رابطة
الزوجية .. فوعدني بطلاقها لكنه راح بالرغم من ذلك يماطلني في تنفيذه يوما بعد
الآخر ، ويعد بإتمام الطلاق ولا ينفذ الوعد .
إلى أن ضقت بكل شيء فهجرت البيت ولجأت إلى أهلي
وانكشف المستور الذي حاولت تكتمه من قبل بقدر جهدي ، وفي اليوم التالي جاء زوجي
إلى في بيت أهلي مهرولا وباكيا ، ومؤكدا أنه قد طلقها ، واشترط عليه والدي بعض
الشروط المادية المحدودة لضمان بعض حقي لديه بعد أن اختلطت نقودنا طوال السنوات
الماضية ، ولم يعترض زوجي على شيء من ذلك ورجعت إلى بیتي وأنا حزينة كسيرة
الخاطر ، أفكر وأتعجب كيف رضي زوجي لنفسه وهو الذي يعتز بی ويفخر بين أهله ، أن
يتزوج علي فتاة عاطلة من الجمال وجاهلة كهذه الفتاة ، بل وكيف رضي لنفسه بأن يتزوج
سرا قبلها واحدة أو أكثر .. علم ذلك عند ربی .
لقد وهبنا
الله من نعمه الكثير والكثير ، فأنعم علينا بالأبناء الممتازین وبالنجاح المهني في
عمله وعملي .. وبالحياة الميسورة .. وأهم من كل ذلك بالوفاق الزوجي ، فلم نختلف
طوال عشرين عاما خلافا جادا ذات يوم ولم نتغاضب ونتخاصم ونتشاجر كما يفعل بعض
الأزواج والزوجات ، فما معنى هذا الجحود یا سیدي لنعم الله علينا ؟
ولكاتبة هذه الرسالة أقول :
من يطلب
احترام الآخرين له ، عليه أن يلتزم بالنهج القويم في الحياة ويسلك في حياته الخاصة
والعامة السلوك الذي يبعث الاحترام في نفوس الآخرين له ، ولا يضعه موضع انتقادهم
أو انتقاصهم أو استهجانهم لتصرفاته . فالاحترام إحساس ذاتي لا إرادي يصدر من داخل
الإنسان ولا يستطيع أن يرغم نفسه على احترام من لا يشعر له به ، فإذا رشحتنا
سلوكياتنا في الحياة لنيل احترام الآخرين لنا فمن واجبنا ألا نعتبره حقا إلهيا
أبديا نحظى به إلى آخر العمر بغض النظر عما نفعل أو نختار من اختيارات الحياة ،
ذلك أنه رهين باستمرار التزامنا بالنهج القويم الذي رشحنا له ، وقد نفقد هذا
الاحترام كله أو بعضه إن لم نحافظ عليه ولم ننمه ، أو إذا خرجنا فجأة عن التزامنا
الأخلاقي الذي أهلنا له .
بل لعلنا في
هذه الحالة نفقده بأسرع مما اكتسبناه ، لأن بناء الاحترام يتطلب التزاما أخلاقيا
طويلا ، وسلوکا جادا أمينا مع الحياة لفترة طويلة حتى يقتنع الآخرون بجدارتنا
بنيل ثقتهم واحترامهم ، أما فقد كل ذلك فلا يتطلب منا إلا تصرفا طائشا واحدا أو
سلوكا مستهجنا واحدا نستجيب فيه لغرائزنا البدائية أو خطرات نفوسنا الأمارة بالسوء
فتهتز ثقة الآخرين بنا ويراجعون أنفسهم في مدى جدارتنا بنيل احترامهم ..
وليس يحق لمن
لا يرد نفسه عن خطراتها ونزواتها ورغائبها .. ولا يبذل أي جهد لمقاومة هوى النفس
ونداء الغرائز الوحشية ، أن يبكي على افتقاده لاحترام من حوله له .. أو ينفس على
من أخذوا أنفسهم بالحرمان من كثير من اللذائذ والمتع المتاحة والشهوات الجامحة ،
لظفرهم دونه باحترام الآخرين لهم .
فالمثل
الإنجليزي القديم يقول إن المرأة التي تتقاضى أجرها لا يحق لها أن تطالب بالزواج !
وكذلك في رأيي
الإنسان الذي لا يرد نفسه عن متعة سانحة .. أو لذة عابرة .. أو مال محرم ، أو أي
إغراء آخر من إغراءات الحياة العديدة، فإذا كنت يا سيدتي قد فقدت معظم احترامك
السابق لزوجك بعد أن تكشفت لك نزواته وزيجاته السرية العديدة السابقة ، فلست
أستطيع أن ألومك على ذلك ، لكني أرجو لك فقط أن تحتفظی له بما بقى في نفسك من
ذبالة هذا الاحترام لكي يمكن البناء عليه من جديد إذا أثبت بسلوكياته في قادم
الأيام جدارته بذلك ، ولكي يتوافر لك الحد الأدنى من العلاقة الصحية بين زوجين
وأبوين لعدد من الأبناء يحتاجون إلى تأكيد القيم لديهم ، والحفاظ على رموز الأب
والأم والمثل العليا لديهم، ولا بأس إلى جانب ذلك بأن يشعر المخطىء بأن لأفعاله
ثمنا في الحياة واجب الأداء ، وأنه لا ينجو أحد من دفعها ، و استمتعنا بلذة
المغامرة والنزوة وبالاستجابة لهوى النفس وخطراتها علينا أيضا أن ندفع
الثمن العادل لكل ذلك في علاقتنا بمن استجبنا لغرائزنا على حساب وفائنا لهم وعهدنا
معهم ..
فإن كان في
موقف زوجك منك شيء يستحق الاعتبار ، فهو فقط في إنه كان "يتزوج" ولا
يتورط في علاقات محرمة ومرفوضة دينيا وأخلاقيا ، حتى ولو كان زواجه العرفي
السري هذا لا يختلف كثيرا عند معظم الفقهاء عن العلاقة الخاصة السرية ، لافتقاده
لركن الإشهار والإعلان ، وغير أن ذلك أيضا لا يعفيه من خيانة العهد معك .. ولا من
حرمانك من حق الاختيار بين الاستمرار معه وهو زوج لأخرى عرفيا أو طلب الانفصال عنه
سواء أكان هذا الارتباط عرفيا أو رسميا .
أما نزوات
الرجال هذه التي يبرر بها خياناته السابقة لك فهي ليست صكا للغفران ينال صاحبه
العفو والمغفرة بمجرد إشهاره في وجه من يحاسبه عن سلوكياته ، ولا هي امتیاز خاص
بالرجل يشبع به شهواته كلما بدا له أن يفعل ذلك ، ثم يتوقع من الآخرين بمجرد
الاحتجاج به أن يغفروا له ما فعل ويتجاوزوا عنه ولو أدرك من يتشدق بها - لتبرير
ضعفه عن مغالبة هوى النفس - معناها الحقيقي ، لما سعد به ولما ارتضاه لنفسه.
ففي قواميس
اللغة إن كلمة نزوة مشتقة من الفعل "نزا" أو "انتزی"
وكلاهما بمعنى وثب أو تسرع ، وهي قرينة لكلمة مماثلة لها تماما في المعنى وهي
"بدوات" ، فيقال أن فلانا ذو بدوات بمعنى أنه قد يسنح له الرأي
فجأة فيتبعه دون ترو ، والقاسم المشترك بين الكلمتين هو التسرع والخفة
والطيش وعدم تقدير العواقب عند الإقدام على الفعل ، فهل في هذا المعنى ما يشرف
أحدا لكي يتمسح به ويدعيه لنفسه ويبرر به أفعاله وسلوكياته ؟
الحق إنها
ليست نزوات الرجال ولا النساء ، لكنه بطر الإنسان وتطلعه الدائم لنيل الحد الأقصى
من المتع والأشياء كلما أتيح له ذلك ، كما أنه أيضا اعتقاده العجيب بأنه كائن فريد
مميز يحق له أن ينال من المتع ما يشاء ولو أضير بذلك بعض أقرب البشر إليه .
ولا حد لطمع
الإنسان يا سيدتي ولا لمطالبه من الحياة ، ولعل ذلك قد يفسر لك تساؤلك المرير عن
معنى هذا الجحود لنعم الله الجليلة على الإنسان وتطلعه للمزيد منها حتى ولو أدى
سعيه إلى ذلك إلى تبديده لبعض ما غمره به ربه من نعم جليلة كان حريا به أن يشكر
ربه عليها كثيرا.
غير أن الحياة
بالرغم من كل ذلك تفرض علينا في كثير من الأحيان أن نتفهم بعض هذا الضعف البشرى
ونتجاوز عما نستطيع احتماله من الهنات والعثرات لكي تظل السفينة طافية فوق ماء
النهر، ومادام زوجك قد رضخ لمطلبك بطلاق هذه الفتاة واستجاب لمطالب والدك لتامين
مستقبلك ماديا وأكد تمسكه بك ورغبته فيك فلا بأس بأن تحاولي احتواء الموقف وتجاوزه
طلبا للمصلحة المشتركة بينكما وهي الأبناء، وطلبا للسلام مع شريك الحياة الذي لم
تفقدي حبك له ويصعب إن لم يستحل فصم الخيوط المتشابكة والمتلاحمة بینکما على مر
السنين .
ومستقبل
الإنسان دائما أمامه وليس وراءه ، فإذا التزم زوجك
بالإخلاص لك
وتجنب ما يثير شكك فيه أو في تجدد ضعفه أمام هوی النفس وغرائزها فلا بأس بذلك
ولننس معا أو نحاول بقدر الإمكان نسيان ما كان من أمره معنا ، ولتستفيدي أيضا بدرس
التجربة .. فتحاولي معرفة دوافعه لهذه الزيجات السرية المتعددة على مدى رحلتك معه،
لتحاولي تحصين "الثغور" التي تتسلل منها هذه النزوات العابرة إلى حصونه
، ولتزيدي من التصاقك وارتباطك به لكيلا يجد منفذا جديدا للتطلع إلى الأخريات ،
ولا تغفلي مرة أخرى عنه اعتمادا على الثقة الغافلة فيه ، فيستجيب من جديد إلى نداء
المغامرة والغرائز إذا أمن المخاطر فبعض البشر يا سيدتي قد يضطرون إلى الاستقامة
الخلقية حين يتعذر عليهم العبث ، أو حين يتخوفون من عواقبه الوخيمة على حياتهم .. ولا
بأس بأن نعين الإنسان على نفسه ونسد عليه منافذ العبث والمغامرة .. أو نضيقها عليه
بقدر الإمكان لكيلا تغريه بها ويستجيب لها.
والثقة
المبصرة في الآخرين من حسن الفطن ، على أية حال ، وهي شيء آخر خلاف الثقة الغافلة
التي تعمي المرء عن بوادر الخطأ ومقدماته ، فلا يتدخل في الوقت المناسب لوأده
وحماية أعزائه منه .
ففكري في كل ذلك يا سيدتي .. وامنحي نفسك فرصة جديدة مع زوجك لتجاوز هنات الماضي .. والحفاظ على الحاضر والبناء للمستقبل .
· نشرت في جريدة الأهرام "باب بريد الجمعة" عام 1997
راجعها وأعدها للنشر / نيفين علي
برجاء عدم النسخ احتراما لمجهود فريق العمل في المدونة وكل من ينسخ يعرض صفحته للحذف بموجب حقوق النشر