الحلم العجيب .. رسالة من بريد الجمعة عام 1991
أنا
يا سيدي شاب في التاسعة والعشرين من عمري ابن وحيد لأبوين .. ينحدران من أصل ريفي
وخريج إحدى الكليات المرموقة ووسيم وعلى خلق ومتدين وصحتي جيدة ولديَّ شقة فاخرة
بحي راقٍ وسيارة وحالتي المادية ميسورة والحمد لله .
وأنا كأي
شاب تتوق نفسه إلى زوجة تشاركه الحياة بما فيها من هموم وأفراح ولحظات شقاء ولحظات
سعادة .. وأوقات للمشاكل وأوقات للصفاء إلى آخر أحوال الزواج الجميلة هذه .. بالإضافة
إلى أن أبي وأمي يلحان عليَّ منذ فترة إلحاحاً شديداً لكي أتزوج خاصة وأني مستعد
مادياً للزواج كما أن أبي على حد قوله يريد أن يفرح بذريته من أبنائي وهو الريفي
النشأة الذي يقدس الزواج والإنجاب .. ولو استجابت الأقدار لأمانيه لكان لي من
الأشقاء كثيرون لكن ظروفاً معينة شاءت ألا ينجب غيري وأن أكون ابنه الوحيد الذي
ينتظر منه أن يملأ عليه شيخوخته بالأحفاد .
لكن تأتي الرياح بما لا تشتهي السفن فقد اكتشفت
للأسف خلال إجراء تحليلات طبية بالصدفة منذ فترة أني عقيم وأن احتمال إنجابي سيظل
ضعيفاً حتى بعد العلاج الطويل والمشكلة ليست فقط في ذلك .. وإنما في أني اكتشفت
هذه الحقيقة قبل الزواج مما زاد تعقيدها ومن عبئها النفسي عليَّ .. ذلك أني لن
أستطيع أن أخطب فتاة وأنا أعرف مشكلتي وأكتمها عنها فإن صارحتها بها منذ البداية
فأين هي الفتاة التي توافق على عريس تعرف مسبقاً أنه عقيم وإن لم أفعل فكيف أخدع
من ستكون رفيقة العمر في أمر جوهري كهذا الأمر وخلقي وديني لا يرضيان لي بذلك .. أم
ترى أنه ينبغي عليَّ أن أبحث عن فتاة عقيم مثلي لأحقق المثل الشعبي المعروف الذي
يتحدث عن اجتماع التعيس مع خائب الرجاء.. ولو أردت ذلك فأين هي الفتاة التي تعرف
أنها عقيم من قبل أن تتزوج . أم ترى أنه ينبغي عليَّ أن أتخلى نهائياً عن فكرة
الزواج وأضرب عرض الحائط برغبتي المشروعة في الزواج وأنا
سليم من الناحية الجسدية ولي احتياجاتي الطبيعية
وأتجاهل إلحاح أبي وأمي على الزواج مع ما في ذلك من إغضاب لهما لا أريد أن أحمل
وزره .
ولكاتب هذه الرسالة أقول :
ما تصفه بأنه الحلم العجيب ليس حلماً ولا عجيباً
وإنما هو واقع يعيشه كثيرون غيرك مع زوجات اخترن الزوج المحب المحبوب واكتفين به
وتلمسن السلوى في جوانب أخرى من جوانب الحياة العديدة .. ولكل حال جمالها يا صديقي
.. والحياة دائماً سيمفونية ناقصة .. ولوحة لا تكتمل كل عناصرها أبداً .. وإنما لكل إنسان دائماً
في حياته ما يرضى عنه وما يتطلع إليه .. والزواج بدون أبناء ينجح كثيراً ويثمر
حياة زوجية لها طابعها الخاص الذي يعوض به الله ما يحجبه عن أطرافه ، إذ أنه زواج
عواطف ومشاعر وإيناس دائم حتى نهاية العمر .. ومجرد استمراره هو دليل نجاحه ودليل
توقد مشاعر طرفيه حتى اللحظة الأخيرة .. في حين أنه في حالات ليست قليلة لا يكفي
استمرار الزواج الآخر دليلاً على نجاحه أو توقد العواطف أو توافر المودة والرحمة
فيه على الأقل إذ قد يكون في بعض الأحيان تضحية بسعادة الزوجين وإيثاراً وحرصاً
على سعادة الأبناء وهذا هو ما أعنيه بأن لكل حال جمالها .. ومتاعبها أيضاً ، وهذا
هو التعويض الإلهي لمن حجبت عنهم الذرية .. ألا يتزوجوا إلا بالحب وألا يتساكنوا
إلا بالمودة وحسن المعاشرة .. وأن تزداد اللمسات الشاعرية والعاطفية في حياتهم عن
غيرهم لأنه لا معنى لاستمرار زواجهم إن خلا من كل ذلك أما مجالات التعويض النفسي
فهي كثيرة .
ولقد كان
جمال الدين الأفغاني يقول "من ترك شيئاً عاش بدونه" والإنسان يستطيع
دائماً أن يتواءم مع ظروفه وأن يتعايش معها إذا رضي بها .. فإن أسفت لشيء في كل
ذلك فهو فقط لأنك ابن وحيد .. يتركز فيه حلم الأبوين بالأحفاد ، ولا يمكن أن يتحقق
عن غير طريقه . لكن ماذا تفعل يا صديقي ونحن لا نملك من أمرنا شيئاً .. ولا نختار
لأنفسنا ما لا نرضاه لها . لهذا لست أرى لك أن تكابد هذه المعاناة وتتحمل ضغط
أبويك عليك للإسراع بالزواج وهما لا يعرفان حقيقة ظروفك .. إذ ممن تتخفى يا صديقي
وما هو "الإثم" الذي جنيته لتتكتمه عنهما ؟ إنهما أبواك وأقرب الناس
إليك وإشراكهما معك في أمرك ييسر عليك ما تتصوره حلماً مستحيلاً ويوسع أمامك
مجالات الاختيار .. بل ويعفيك من أن تعرض نفسك على أحد إذ لن تقترب منك إلا من
تتمناك لنفسها وللأمهات فنون في ذلك لا يدركها الأبناء مهما
حاولوا كما أني لا أشاركك مخاوفك من أن يدفع علم أبيك بظروفك إلى الإقدام على
الزواج لكي "يصنع" أحفاده بيديه .. وإنما هي غالباً مغالاة منك في
الإحساس بخطورة ظروفك مع أنها ظروف لا تنفرد بها وحدك .. وليست نهاية الدنيا ،
وتصوري أنك تستطيع أن تجد كثيرات يتنافسن للفوز بك .. أفضل المرشحات لك فعلاً هي
من لها مثل ظروفك لكيلا يشغلها عنك تطلع مكتوم إلى الأمومة ، لكنك تتساءل وكيف
تعرف الفتاة قبل الزواج إنها كذلك وسؤالي أنا لك ولماذا تتساءل عن "الفتاة"
وحدها ولا تتساءل عن "السيدة" التي اختبرت نفسها وعرفت أنها لن تنجب وهن
أيضاً كثيرات ؟ فإن جمعت الحياة بينك وبينها فإن إشراك أبويك معك من البداية يعفيك
على الأقل من شرح أسباب تفضيلك لها على غيرها ؟
كما أن الحب الحقيقي يعفيك من كل ذلك إذا جمعك
بأخرى فتاة كانت أم سيدة وأطلعتها على ظروفك منذ البداية لهذا فقد ترددت في أن
أجيبك عن سؤالك الآخر عن "النص" الذي يبيح للزوجة طلب الطلاق في مثل هذه
الحالة .. لكني راجعت نفسي .. إذ ماذا يفيد تجاهل الأمور ، نعم هناك نص في قانون
الأحوال الشخصية يعطي الزوجة حق طلب التفريق بينها وبين زوجها .. – وعفواً
للتعبيرات القانونية – إذا وجدت به عيباً لا يمكن البرء منه أو يمكن بعد زمن طويل
ولا يمكنها المقام معه إلا بضرر ، سواء كان هذا العيب بالزوج قبل العقد ولم تعلم
به أم حدث بعد العقد ولم ترض به فإن تزوجته عالمة به أو حدث بعد العقد ورضيت به
صراحة أو دلالة بعد علمها فلا يجوز التفريق
لكن ما أهمية كل ذلك وأنت بخلقك ودينك لن تتزوج
إلا ممن تتمناك وترضاك كما أنك بنبلك لن تمسك عليك من ترغب عن الاستمرار معك لأي سبب من الأسباب؟
راجعها وأعدها للنشر / نيفين علي


برجاء عدم النسخ احتراما لمجهود فريق العمل في المدونة وكل من ينسخ يعرض صفحته للحذف بموجب حقوق النشر