خاطر فى الليل .. رسالة من بريد الجمعة سنة 1986
لماذا لا يقبل الإنسان لنفسه ما يقبله للآخرين لو تبادل معهم
الأدوار؟؟
ولماذا يفلسف لنفسه دائما ما يرضيها...ويرضى نوازعها ولا يقبل
"الفلسفه" نفسها إذا تعارضت مع سعادته وحقوقه هو؟!
عبد الوهاب مطاوع
سيدي .. لن أقول
لك : أنى ترددت كثيرا فى الكتابة إليك كما يقول كثير من القراء .. وإنما سأقول لك
: إني كتبت لك بالفعل أكثر من 10رسائل .. ولم أكمل قط أية رسالة منها فأنا يا سيدي
مهندس شاب عمري 35 سنة ، تزوجت منذ 10 سنوات زواجا تقليديا عن طريق الأسرة ، وعلى
عكس ما يتصور البعض عن الزواج التقليدي فلقد كان زواجا موفقا والحمد لله ، وبالرغم
من إننا لم نكن نعرف بعضنا قبل الزواج .. بل ولم أرها إلا حين دعيت لرؤية فتاة
مرشحة للزواج مني فى بيت بعض الأقارب ، فلقد تفاهمنا منذ اليوم الأول الذي أغلق
علينا فيه باب شقة الزوجية .. وازددنا فهما لبعضنا البعض مع مرور الأيام .. ثم بدأ
الحب الهادئ الرزين يتسلل إلى قلبينا رويدا رويدا .. ويجمع بيننا بالرباط المتين ،
حتى تحولنا بعد أقل من عام إلى عاشقين متيمين يحب كل منا الآخر ويخاف عليه .. وعلى
مشاعره وأحاسيسه وخلال السنوات الأربع من الزواج جاء الأبناء ورزقنا بطفلين ومضت
الأيام هادئة سعيدة .. وليست لي حياة بعيدا عن زوجتي ، فأنا أعود من عملي في الظهر
فألازم أسرتي حتى اليوم التالي .. ونمضي اليوم كله معا في البيت .. أو نخرج معا
نحن الأربعة لنشتري متطلبات البيت .. أو نزور أسرتي .. أو أسرتها أو بعض الأقارب .
وذات صباح خرجت
زوجتي لتشتري بعض الأشياء للبيت وحدها فصدمتها سيارة مسرعة وسقطت على الأرض وفرت
السيارة بالطبع فنقلها المارة والجيران إلى المستشفى وحين عرفت ما حدث أسرعت إليها
هناك فعرفت أن عمودها الفقري قد أصيب فى الحادث .. وقال لي الأطباء أن زوجتي قد
أصيبت بشلل نصفي لكنهم طمأنونا وأكدوا لنا انه شلل وقتي وسوف يزول تدريجيا مع
العلاج وجلسات العلاج الطبيعي ، وخرجت زوجتي من المستشفي بعد معاناة طويلة ..
وبدأنا رحلة العلاج الطبيعي لكن التحسن للأسف كان بسيطا جدا ولفترة محدودة توقف
بعدها وما زال الأمل قائما مع استمرار العلاج ، فكيفنا حياتنا على هذا الأساس ..
ولم ينقص حبنا ذرة واحدة بل ازداد قوة ومتانة .
فحبيبتي الآن أصبحت في اشد الاحتياج إلي والى
حبي ورعايتي بعد أن أطعمتني حبها وحنانها طوال سبع سنوات وأصبحنا نمضي معظم
الأوقات معا كما نفعل قبل الحادث . فأبدأ يومي فى الصباح بمساعدتها على الانتقال
إلى الكرسي المتحرك ثم تتحرك هي بنشاط لإعداد الإفطار والشاي ونجلس على مائدة
الإفطار ومعنا الطفلان فنشرب الشاي ونتبادل الحديث والابتسامات .. ثم تتحرك إلى
غرفة النوم لتعد لي ملابس الخروج وتصر على مسح حذائي وتلميعه .. وتقدم لي المشط
لأسرح شعري وتشرف على كل شئوني كما كانت تفعل قبل الحادث وتجمع الملابس لتضعها فى
الغسالة .. ثم تودعني بابتسامتها الحلوة وبقبلتها الرقيقة وأنا ذاهب إلى عملي وتظل
ترقبني بجوار الباب إلى أن اختفي فى السلم ثم تعود إلى شقتها وتدبر شئون حياتنا
بحبها الكبير للنظافة والجمال لأنها من هؤلاء الذين منحهم الله حب الناس لهم فأن
كل جيراننا وأقاربنا يتسابقون على تلبية مطالب البيت لها ، وكل جارة تحرص على أن
تسألها عن حاجتها قبل النزول إلى السوق ، ولا تعود جارة إلى شقتها إلا إذا طرقت بابها
لتسألها : هل تريدين شيئا ؟ فتقابل الجميع بابتسامة شكر وعرفان .. وتعطي من قلبها
وحنانها لهم جميعا فما من جارة عندها شكوى من شئ أو حزينة لشئ إلا وتأتى إليها
لتبثها همها وتسألها الرأي فتسمع لها باحترام وتهون عليها ولا تبوح بأسرارها حتى
لي شخصيا .. وعندما أعود إلى بيتي فى الظهر أجد شقتي نظيفة ومنسقة .. وينبعث منها
شذا أعواد البخور الجميلة التى تشعلها لتغطي على رائحة المطبخ بعد الطهي ، ولأجد
الطعام جاهزا والسفرة معدة .. وطفليَّ فى أجمل الملابس المتاحة لنا يذاكران
والمسجل يذيع موسيقى عربية قديمة و زوجتي قد بدلت ملابسها وسرحت شعرها وتعطرت بل
ووضعت بعض الروج الخفيف على شفتيها .
وقبل أن أضع المفتاح فى الباب لأفتحه أجد الباب
قد فتح وحده وزوجتي تجذبه لتستقبلني بأجمل ابتسامة ، ثم تقودني إلى غرفة النوم
لأبدل ملابسي ثم إلى المائدة لتناول الطعام ثم إلى عرفة المعيشة لنشرب الشاي أمام
فيلم الظهر فى التليفزيون فإذا غفوت لمدة ساعة بعد الغداء وصحوت وجدت شاي العصر
جاهزا واقترحت عليَّ زوجتي بحماس أن اخرج وحدي لزيارة أسرتي أو لدخول السينما ..
أو للجلوس فى المقهى أو للقاء بعض الأصحاب .. فإذا رفضت لاعبتني طاولة أو شطرنج أو
تفرجنا معا على التليفزيون وحولنا طفلانا حتى ننام مطمئنين .. وقد لاحظت أنها
أصبحت أكثر رعاية لي بعدما حدث كأني أصبت فى الحادث وليست هي .. كما لاحظت أيضا
أنها أصبحت كالطيف الخفيف لا تريد أن تثقل عليا فى أي شئ .. ورغم كل ذلك فان نفسي
تنازعني أحيانا ويطيش بي التفكير إلى آفاق بعيدة !
ولا اعرف كيف أحست
هي بما يدور داخل نفسي فعرضت علي بطريقتها اللطيفة فى الحديث أن أتزوج عليها أرملة
أو مطلقة تتفهم ظروفي وتقدر مشاعر زوجتي بل لقد طلبت مني أن أطلقها وأتزوج غيرها
وأبدأ حياتي من جديد بعيدا عنها إذا كان وجودها فى حياتي هو العقبة أمام تحقيق
سعادتي فأفهمتها ان كل ذلك لا يدور فى تفكيري مطلقا وأنني لن أتزوج عليها أبدا
وسأبقى دائما إلى جوارها ، ومع ذلك فأن نفسي لا تهدأ يا صديقي .. ولا اكف عن
التفكير فيما صارحتك به .. ومازالت هذه الأفكار تساورني من حين لآخر
إن الأمل فى
العلاج مازال قائما لكنه بطئ .. فهل أتزوج عليها بغير أن أشعرها بذلك وهل سترضى
هذه الزوجة الثانية بأن تحيا فى الظل نصف زوجة لرجل يحب امرأة أخرى مريضة لا
تستطيع أن تستغني عن خدماته وحبه فى ظروفها القاسية .. وأين هي هذه الزوجة الثانية
التى تقدر كل هذه الظروف السابقة ؟ وهل من حقي ان أفعل ذلك أماني لو فعلت أكون قد
أخطأت فى حقها خطأ جسيما ؟
ولكاتب هذه الرسالة أقول:
حين قرأت رسالتك
كدت اعتذر عن عدم الإجابة عن تساؤلاتها متمثلا فى ذلك بموقف الإمام الشافعي حين
سئل مرة عن مسألة فى الفقه فسكت فقيل له : ألا تجيب رحمك الله ؟ فقال لا أجيب حتى
ادري هل الفضل فى سكوتي أم فى جوابي ؟!
ومع الفارق الكبير
بين الحالتين فقلد احتجت أنا أيضا إلى فترة صمت كافية حتى أدري بأي الرأيين أجيب ؟
ولأني مضطر
للإجابة بكل أسف فاني أقول لك نعم من حقك أن تفعل ما تريد يا سيدي إذا كنا نتحدث
فقط عن ( الحقوق ) وعن المنطق العقلاني المجرد وإذا أسقطنا كل الاعتبارات الأخرى
.. لكن السؤال الأهم هو هل هذا التصرف المثالي فى مثل حالتك ؟
إنني لن أسارع
بالإجابة عن ذلك لكنى سوف أسألك سؤالا واحدا أرجو أن تغفره لي ، وان تضعه نصب
عينيك دائما وأنت تختار لمستقبلك معها :
ماذا لو كنت أنت _
لا قدر الله _ الذي تعرض لهذا الحادث الأليم فأقعده فى البيت ومازال يواصل العلاج
ويأمل فى الشفاء كما تفعل زوجتك الان ؟
هل كنت ستسعد كثير
بهذه ( الخواطر ) التى تلح على زوجتك وبهذا الحديث عن الحقوق وعن المنطق العقلاني
المجرد ؟ أم انه كان سيدمي قلبك بالتأكيد ويشعرك بقسوة الحياة ومرارتها ؟
لا تقل لي : إن
موقفك كان سيختلف لأنك كنت ستعرض عليها من البداية أن تعفيها من الارتباط بك
إيثارا منك لسعادتها على سعادتك كما نرى فى أفلام السينما القديمة ولست أنكر عليك
أنك كنت ستفعل ذلك فعلا ، لكنك ستفعله وأنت تنتظر من شريكة حياتك التى تحمل لها كل
هذا الحب ويربط بينك وبينها طفلان جميلان ألا تكتفي بالتفكير فى ( حقوقها ) فقط
وان تفكر أيضا فى واجباتها كزوجة مخلصة وكأم وكمحبة وأن ترفض بلا تردد عرضك الكريم
هذا ؟ بل وكنت ستحس بالرضا فى أعماقك حين ترفض هيا مناقشة الأمر من البداية وتؤكد
تمسكها بك ، ولو قبلت هى عرضك ( السخي ) هذا وأشادت بواقعيتك وعقلانيتك ثم تحررت
من ارتباطها بك وتركتك فى محنتك وانطلقت إلى العالم الواسع لتستمتع بحياتها
وشبابها لشقيت أنت بذلك اكبر شقاء .. ولكرهت غدر الأيام وانعدام الوفاء . فلماذا
لا يقبل الإنسان لنفسه ما يقبله للآخرين لو تبادل معهم الأدوار ؟
ولماذا يفلسف
لنفسه دائما ما يرضيها .. ويرضى نوازعها ولا يقبل هذه ( الفلسفة ) نفسها إذا
تعارضت مع سعادته وحقوقه هو ؟!
يا صديقي تمسك
بزوجتك هذه .. ولا تفقد الأمل فى العلاج وتغير الأحوال .. واسعد بما بين يديك فان
حديثك عنها سوف يثير لواعج كثيرين من أزواج ( الصحيحات ) اللاتي لا يقدمن لأزواجهن
بعض مما تقدمه لك هذه الزوجة الرائعة رغم ظروفها الصحية ، وصدقني لو قلت لك : اننى
قد حلقت معك فى سماوات علا من الحب والرومانسية والتفاهم والتعاطف والجمال ، وأنت
تروي عن زوجتك التى تودعك بابتسامة وتلقاك بابتسامة .. وتجمل حياتك وبيتك رغم
ظروفها القاسية ، لكنك _ سامحك الله _ صدمتني بتساؤلك الغريب هذا والذي لن أجيبك
عنه وإنما سأذكرك فقط بأن الحياة لا تستقيم لو تصرف فيها كل إنسان على ضوء ما يحقق
رغباته ونوازعه وحده بلا اى اعتبار آخر وفى حالتك هذه فان لزوجتك المحبة عليك
حقوقا ينبغي ألا تنساها ولأبنائك عليك حقوقا لابد ان تتذكرها دائما .. وسأذكرك
أيضا يا صديقي بأن ( الدنيا زوج خؤون ) لا أمان لها .. ولا عهد ولا ذمة أيضا !
وعلينا أن نحتمي من غدرها بألا نظلم غيرنا فيها بقدر الإمكان .
رابط رسالة خاطر في النهار تعقيبا على هذه الرسالة
راجعها وأعدها للنشر / نيفين علي
برجاء عدم النسخ احتراما لمجهود فريق العمل في المدونة وكل من ينسخ يعرض صفحته للحذف بموجب حقوق النشر