جحيم العودة .. رسالة من بريد الجمعة عام 1995
تبدأ المأساة
حين ينظر الناس إلى الأمر غير العادي وكأنه من الأمور العادية ، فتصبح القاعدة هي
الاستثناء والاستثناء هو القاعدة !.
عبد الوهاب
مطاوع
أنا شاب نشأت
يتيمًا ، فقد توفي والدي "رحمه الله" وأنا مازلت بالمرحلة الابتدائية ،
وبعد وفاته بسنوات تزوجت أمي من موظف انضم إلى بيتنا وعاش معنا ، وكان طبيعيًا أن
نقابله أنا وأخي بالشعور المعتاد في مثل هذه الأحوال من أطفال صغار تجاه زوج أمهم
، لكنه بمرور الوقت سقط حاجز الجفاء من جانبنا تجاهه ، واعتدنا وجوده بيننا بصورة
طبيعية بعد أن لمسنا معاملته اللطيفة لنا ، وبعد عام من الزواج أنجبت أمي من زوجها
طفلة فرحنا بها كأطفال فرحة صادقة بقدومها وانضمامها لأسرتنا ..
وبإنجاب أمي
انشغلت بعض الشيء عن إدارة مشروع تجاري صغير كان يدر علينا دخلاً معقولاً ، وبدأ
زوجها يديره نيابة عنها إلى جانب وظيفته ، إلى أن اكتشفت أمي أن زوجها يختلس لنفسه
منه ما يغطي به نفقاته الإضافية ، فكانت أزمة بينهما ، وواجهته بما عرفت ، واعترف
هو بجرأة أنه يحصل لنفسه على ما يراه حقًا له مقابل إدارته للمشروع ، فقررت أمي أن
تتخلص منه بالبيع وتغلق باب المتاعب .. وباعته بالفعل رغم معارضة زوجها ، فإذا به
يطالبها "بجرأة" أشد بنصيبه من ثمن البيع ، ورفضت أمي بالطبع ، فتطاول
عليها بالضرب والسب أمام الجيران ، وانتهى الأمر بينهما بالطلاق ، ورحل الرجل من
بيتنا مصطحبًا معه طفلته الصغيرة .. وبعد فترة من الطلاق بدأت أمي تشتاق إلى
طفلتها ، وبدأ الرجل من جانبه يحاول الإصلاح من خلال بعض الوسطاء ، واستجابت أمي
لهذه المحاولات لأنها كانت تحبه للأسف .. فأعادها الرجل إلى عصمته مرة أخرى ، ورجع
للإقامة معنا ، لكن الحياة لم تستقم رغم ذلك طويلاً بينهما ، فقد كان مازال يتطلع
إلى ما بقي معها من ثمن المشروع الصغير .
وحدثت بينهما
مشاكل عديدة انتهت بطلب أمي للطلاق منه للمرة الثانية ، وتم الطلاق لكنه لم يَطُلْ
، فتم الصلح والزواج مرة ثالثة .. وبدلاً من أن يتوقف الأمر عند هذا الحد ، واصل
تقلباته فوقع الطلاق الثالث والأخير، وغادر الرجل البيت تاركًا أختنا معنا ،
وتنفسنا أنا وأخي الصعداء أخيرًا ، واسترحنا إلى انقطاع صلتنا بهذا الرجل
نهائيًا ، ورجعنا للحياة بهدوء وبلا مشاكل ومشاجرات يشهدها الجيران ، فلم يمضِ وقت
طويل حتى بدأ الرجل يرسل إلى أمي رسولاً من طرفه من حين لآخر طالبًا رؤية ابنته ،
فتذهب إليه أختي كل مرة في مكان مختلف لأنه كان بلا مأوى دائم بسبب خلافات شديدة
مع أهله ، وترجع أختي من زيارتها لأبيها فتسألها أمي عن أحواله .. وتجيبها بأنها
سيئة للغاية لأنه فقد وظيفته منذ فترة .. ويتنقَّل بين الفنادق الرخيصة ، ولا
يستطيع العودة إلى بيت أسرته ، فتتألم أمي لحال الرجل وترثى له .
وأنا أرقب ذلك
وأتوجس شرًا مما قد يجره علينا من متاعب ، وشيئًا فشيئًا بدأت أمي ترسل إليه مع
ابنته طعامًا منزليًا شهيًا لأنه "يا حرام" يعيش على الأكل الجاف وطعام
المطاعم الرخيصة ، ثم بدأت ترسل له من حين لآخر بعض النقود ، وتطلب من أختي أن
تحضر معها في المرة القادمة حقيبة ملابسه لتغسلها وتعيدها إليه نظيفة مكوية ،
وبدأت أعترض على ذلك وأنبه أمي إلى أن علاقتها بهذا الرجل قد انقطعت نهائيًا
بالطلاق الثالث ، ولا ينبغي أن تكون بيننا وبينه أية صلة ، فتقول لي : إنه على
خلاف دائم مع أسرته ولا يجد من يرعى شئونه ، وأنها إنما تفعل ذلك لوجه الله فقط لا
تريد عليه جزاءً ولا شكورًا ، ولم أقتنع بهذا المبرر ، لكني لم أملك وسيلة لوقف
الاتصال به عن طريق أختي ، حتى فوجئت بالرجل يُحَمِّل ابنته رسالة برغبته في أن
يتناول الغداء معنا في موعد حدده ، وانزعجت لهذه الرغبة انزعاجًا شديدًا وأكدت
لأمي أن عودته إلى بيتنا بأي شكل من الأشكال حرام ، لأنه رجل أجنبي عنها الآن ولا
تربطنا به صلة ، لكنها لم تأبه لاعتراضي ، وفرحت لرغبته ، بل وطارت بها فرحًا ،
ونهضت بحماس لإعداد طعام الغداء وأنا في قمة الغضب والغيظ.
وجاء الرجل فلم أحتمل رؤيته في بيتنا ، وغادرت
البيت غاضبًا ، ورجعت أشد غضبًا وغيظًا ، وكررت على أمي ما قلته لها من أن الشرع
قد فرق بينهما فراقًا نهائيًا بالطلاق الثالث ، لكني لم أجد منها آذانًا صاغية
للأسف .
ويومًا بعد يوم
تكررت دعوات الغداء في بيتنا بحضور أختي وأمي حتى أصبحت شبه يومية ، وكان الرجل قد
عمل عملاً آخر مربحًا واستقرت أحواله المالية ، فعرض عليها أن يدفع لها ما يدفعه
للفندق مقابل إقامته فيه ، على أن يعود للإقامة بيننا متظاهرًأ أمام الجيران بأنه
قد أعادها إلى عصمته لكي تنشأ ابنته بين أبويها ، على أن يقيم في غرفة مستقلة ،
وعلى ألا تربطه بها أية صلة إلا صلة الأجنبي عنها .. وسألتني أمي عن ذلك فكدت
أنفجر من الغيظ ، واعترضت بشدة مؤكدًا أن هذا التصرف حرام حرام بكل معنى وكل شكل ،
بل واضطررت لأن أقول لها مغالبًا جرحي وخجلي كابن وشاب يفهم معنى ما يقوله ، وهو
أنني أعرف أنها تحبه ، وأخشى لو عاش بيننا أن تتجدد صلتها به بشكل أو بآخر .. فبكت
بشدة ولامتني بعنف على سوء ظني بها ، وقالت لي : إنها لا تريد إلا أن تربي ابنتها
بمشاركة من أبيها ، وأنها لا يمكن أبدًا أن تقترف ما يسئ إلى شرفها وأبنائها ويثير
عليها غضب ربها .
ولم تُجدِ
محاولاتي معها في إثنائها عن قبول هذا الوضع الغريب ، وعاد الرجل للإقامة بيننا
بعد أن أقنع الجيران أنه قد أعاد (زوجته) إلى عصمته حرصًا على مستقبل ابنته ، ولم
أعرف أنا ماذا أفعل ولا كيف أواجه هذا الموقف الذي ورطتني فيه أمي "سامحها
الله" .. وشيئًا فشيئًا بدأ الرجل يتصرف بإحساس رجل البيت ، فيأمر وينهي
ويطلب ويتمتع بكل حقوق صاحب البيت في المأكل والملبس والخدمة مقابل ما بدأ يغدقه
على أمي من نقود بسخاء أدار رأسها وفتح شهيتها للصرف والإنفاق ، حتى خُيِّل إليَّ
أنها قد أصابها سعار النقود .
إن عقلي يوشك
على الانفجار ، وأرجو أن تشير عليَّ بالرأي الذي ينتشلني من هذا الجحيم .. وألا
تهمل رسالتي أو تتأفف منها فترفض مساعدتي بالرأي .. فماذا تقول لي ؟ ... وشكرًا لك
مقدمًا .. والسلام .
* ولكاتب هذه الرسالة أقول :
هناك كلمة
حكيمة للكاتب المسرحي الألماني برتولد بريخت يقول فيها : تبدأ المأساة حين ينظر
الناس إلى الأمر غير العادي كأنه من الأمور العادية ، فتصبح القاعدة هي الاستثناء
والاستثناء هو القاعدة وتضطرب القيم وتفسد المعايير !
ولأن الأمر
كذلك فلابد يا صديقي من أن نتمسك منذ اللحظة الأولى وحتى النهاية برفض كل ما هو
غير مألوف ولا مقبول دينيًا وخلقيًا ؛ حتى لا يتحول بمرور الأيام وتأثير العادة
إلى أمر من الأمور العادية التي نتعايش معها ونألفها وتألفنا .
والوضع في
أسرتك وفي بيتك غير مقبول ولا مألوف بكل المعايير الدينية والأخلاقية .. ومع
تقديري لما يحيط بالأمر كله من حرج مؤلم لشاب في مثل سنك ، فإن مقاومتك لهذا الوضع
لم تكن منذ البداية متكافئة ولا متناسبة مع حجم خروجه على المألوف ولا مخالفته
للأعراف والقيم السائدة .. فقد اكتفيت بالاعتراض بشدة على قبول والدتك لعودة زوجها
السابق للإقامة بينكم وبتذكيرها بمخالفة هذا الوضع للشريعة وأحكام الدين ، ثم لم
تفعل أكثر من ذلك وسكتَّ وأنت كظيم ، وقبلت بالحياة وسط الجحيم الذي يجرح مشاعرك ،
حتى بدأ مع مرور الأيام يتحول إلى أمر مألوف ، وبدأ الرجل يتصرف بإحساس رجل البيت
، فيأمر وينهي ويسخط على أي تقصير في تلبية مطالبه ، بل ويسب ويلعن أيضًا عند
الضرورة . وليس هذا سلوك رجل أجنبي اضطرته الظروف للإقامة بين أفراد أسرة زوجته
السابقة ، ولا هو سلوك ضيف عابر لا حق له على أصحاب البيت إلا حسن الوفادة ..
والمثل الانجليزي القديم يقول : إنه ليس من حق الضيف أن يعترض على أصحاب البيت ،
وصاحبك يتجاوز حق الاعتراض إلى ما هو أبعد منه بكثير ، وقد كان بمقدورك أن تمنع كل
ذلك لو قاومت هذا الوضع الخاطئ ومنعته من البداية وبصلابة وبموقف صارم لا يقبل
المساومات ، والمبررات الواهية .
وقد كانت أبسط
الوسائل لتحقيق ذلك هو أن تواجه هذا الرجل إذا عجزت عن إقناع والدتك برفضه ،
وتعلنه أنك لا تقبل إقامته بينكم ، وأنك سوف تمنع ذلك بكل السبل المتاحة ، والحق
والشرع ، بل والقانون أيضًا معك في ذلك ، حتى ولو اضطررت لاستخدام سلاح التهديد
بفضح أكذوبة عودة والدتك لعصمة هذا الرجل ، ولو فعلت ذلك وحده لما جرؤت والدتك على
تحدي إصرارك على منع الرجل من دخول البيت أصلاً ، ناهيك عن إقامته بينكم إقامة
دائمة .
أما المبرر
الذي تقدمه لك والدتك ، والذي تقف أنت أمامه شاعرًا بالعجز والضآلة .. فهو ليس
سببًا جديًا ولا مقبولاً بأية حال من الأحوال . وحتى لو كان كذلك لما أعفاك من
مسئوليتك العائلية والدينية والأخلاقية عن منع هذا الوضع الخاطئ والتصدي له بكل
حزم ، فلقد كنتم تعيشون بمعاش أبيك ومرتبك الصغير وببعض المدخرات الباقية من تصفية
المشروع التجاري قبل عودة هذا الرجل للإقامة بينكم ، فماذا جدَّ في أوضاعكم حتى
أصبحت مساهمته المادية في ميزانية أسرتكم ضرورية وملحة ولا يمكن الاستغناء عنها
كما تحاول والدتك إيهامك بذلك ؟ ... لقد كانت تمد هذا الرجل نفسه قبل فترة قصيرة بمساعدتها
المادية خلال فترة تعطله ... فكيف أصبحت إقامته بينكم بعد شهور ضرورة حياة
لاستمرار مساهمته المادية في نفقات الأسرة ؟
وحتى لو
افترضنا ذلك ، فإن الرجل مسئول شرعًا وقانونًا عن كل تكاليف حياة ابنته التي تعيش
بينكم ، وما يدفعه لوالدتك هو حق لابنته عليه لا يتطلب أن يقيم معكم ، ولو امتنع
عن أدائه لوالدتك فهناك أكثر من وسيلة لإجباره على ذلك . ولا حد في النهاية لمطالب
الإنسان المادية مهما كان مستوى دخله لو استسلم لرغباته وتطلعاته وتفتحت شهيته
للإنفاق وللحياة ، فمطالب الحياة واحتياجات الإنسان بحر بلا شطآن ، فهل يعني ذلك
أن يسلم الإنسان بما يخالف أوامر ربه ونواهيه ويقبل بالدَّنيَّة في دينه ودنياه
بمبرر احتياجاته المادية .. ضرورية كانت أم ترفيهية ؟
إنك تسألني في
النهاية : هل تهجر بيتك وتقيم مع زملائك وتقطع كل صلة لك بأمك ؟ .. وهل تكون قد
عققتها إذا فعلت ذلك ؟ .. وهل تستحق بذلك غضبها وغضب السماء لغضبها عليك ؟
وجوابي هو أنك
تكون قد عققت أمك حقًا وصدقًا إذا تركت هذا الوضع الخاطئ في بيتك ، وفررت من
مواجهته ومن مسئوليتك عن إيقافه وتغييره بكل السبل المتاحة لذلك ، ومنها استنفار
أخيك الذي لا أدري أين اختفى ولا ما هو موقفه مما حدث لمساندتك في هذا الأمر .
وثق أن والدتك
لو استشعرت (ضراوة) إصرارك على تغيير هذا الوضع الخاطئ وأنك لن تسكت على استمراره
يومًا واحدًا بعد الآن ، لما ملكت إلا الاستجابة لإرادتك ، ولأنهت هذا الوضع
الشائن راضية أو ساخطة ، ولا يهم كثيرًا في هذا الأمر رضاها ولا سخطها لأنك إنما
تسعى إلى نيل من هو أعظم قدرًا وأجلَّ شأنًا سبحانه وتعالى .. فضلاً عن استعادة
ثقتك في نفسك وراحة ضميرك ..
أما خشيتك من
غضب السماء عليك إذا قاطعت أمك ، فلست أرى لك مقاطعتها إلا إذا استنفدت كل الوسائل
لإرجاعها عن الخطأ واستحالة الحياة بينكما ، وطالبتك هي بهجر البيت تمسكًا بالخطأ وإصرارًا
عليه .. ففي هذه الحالة فقط لا أرى لك البقاء في البيت وأؤيدك في هجره ومقاطعته
نائيا بنفسك عن معايشة الخطأ والسكوت عليه ، فيكون هجرك للبيت رادعًا آخر عاطفيًا
وإنسانيًا لوالدتك لحثها على تغيير هذا الوضع الخاطئ .
والسماء في النهاية لا تغضب لغضب من يجترئ على حدود ربه فيسخط على من لا يقرُّونه عليه ، ولا ترضى لرضا المجترئ على هذه الحدود عمَّن يقرونه على الخطأ أو يسكتون عليه .. فالله جلَّ شأنه هو العدل اسمًا ومعنًى سبحانه ، و"إنما يتقبل الله من المتقين" وليس من الخطاة ولا ممن يريدون قلب الأوضاع والمعايير ، فيجعلون من القاعدة استثناء ومن الاستثناء قاعدة ، وعفوًا لأية كلمة شاردة قد أكون قد آلمت بها مشاعرك من حيث لم أُرِد ولم أحتسب ، فالحق أني قد كرهت رسالتك هذه من البداية ، واعتزمت تجاهلها لما تحمله من معانٍ غير مريحة ، لكنك أرسلتها إليَّ مرتين وألححت عليَّ فيهما ألا أتجاهلك وأن أشير عليك بما ينقذك من الجحيم الذي تعيش فيه .. وأرجو أن أكون قد فعلت .. والسلام .
راجعها وأعدها للنشر / نيفين علي
برجاء عدم النسخ احتراما لمجهود فريق العمل في المدونة وكل من ينسخ يعرض صفحته للحذف بموجب حقوق النشر