حياة صاخبة .. بقلم عبد الوهاب مطاوع "كتاب أرجوك لا تفهمني"

 

الفنان أحمد سالم

حياة صاخبة


هناك أشخاص تصدق عليهم كلمة الروائي البريطاني الشهير أوسكار وايلد حين قال : لقد وضعت كل عبقريتي في حياتي .. ولم أضع منها إلا القليل في كتبي! فتأثيرهم في مجالات إبداعهم قد يكون محدوداً أو قليلاً .. لكن حياتهم عريضة وحافلة وشخصياتهم مبهرة لا تستطيع أن تمنع نفسك من الإعجاب بها والتوقف أمامها متأملاً حتى ولو اختلفت مع أصحابها.

 

 ومن هؤلاء كانت شخصية الفنان أحمد سالم الذي عرفته الشاشة البيضاء في الأربعينيات نجماً لعدد محدود من الأفلام ، وشخصية فريدة من شخصيات المجتمع المصري آنذاك .. لقد بدأ اهتمامي به بمقالات متفرقة قرأتها عنه وكان معظمها يركز على شخصيته الفذة أكثر مما يتحدث عن فنه أو أفلامه التي أخرجها ومثلها .. ثم كان من حظي أن عرفت صحفياً قديماً كان من أقرب أصدقائه ومن أكثر الناس انبهارا به فتقصيت منه حقيقة ما قرأت .. فأكده وأضاف إليه ووجدت نفسي أمام شخصية عجيبة لو صاغها مؤلف في عمل أدبي لاتهمه النقاد بالمبالغة والافتعال .. فأحمد سالم شاب ثري ورث عن أبيه مع شقيقاته أراضي زراعية واسعة ومالاً وفيراً ، وكان منذ صباه فتى جريئاً مقتحماً يعيش حياته بانطلاق لا يعرف الحدود ولا القيود .. وقد بدأ مغامراته بتعلم الطيران وكاد يفقد حياته ذات يوم بسبب هذه الهواية ثم استهواه عالم السينما الجديد فاقتحمه بلا تردد ومثل وأنتج وأخرج عدة أفلام ثم التقى بالمطربة أسمهان في فندق "الملك داود" بالقدس وهي مُبعدة عن مصر للشك في تعاونها مع المخابرات البريطانية ، فتزوجها وأعادها لمصر وعاش معها فترة قصيرة مشحونة بالقلق والحيرة والغيرة.

 

 

 

 

 

 فقد كانت أسمهان على علاقة بأحمد حسنين باشا رئيس الديوان الملكي في بداية الأربعينيات ، وشك أحمد سالم في خيانة أسمهان وواجهها مواجهة عاصفة وأطلق عليها رصاصة لم تصبها وهم بالانتحار فأسرعت بالفرار واتصلت بحسنين باشا لتطالبه بأن يتصرف قبل أن ينتحر أحمد سالم وينتشر الخبر ويتحول إلى فضيحة تدوي في مجتمع القاهرة.. وأرسل إليه حسنين باشا ضابطاً كبيراً بالشرطة كان معروفاً بالنعومة وسعة الحيلة.. فحاول انتزاع المسدس من يده فأطلق عليه أحمد سالم رصاصة لم تصبه وإنما أصابته هو في كتفه ونقل إلى مستشفى قصر العيني تحت الحراسة .. وفي المستشفى تجمع حوله الأطباء الشبان الذين اجتذبتهم بسهولة شخصيته المثيرة وأصبحوا يمضون معه السهرة كل ليلة يلعبون الورق ويستمتعون إلى أحاديثه الشيقة.

 

 وذات مساء أراد أحدهم أن ينصرف إلى النوم قبل انتهاء السهرة لأن لديه جراحة لاستئصال الزائدة الدودية سيجريها لمريض في الصباح الباكر .. فإذا بأحمد سالم يسخر من هذه الجراحة البسيطة التي لا تستحق أن يغادر السهرة من أجلها .. والتي يستطيع أي إنسان أن يقوم بها بغير حاجة لدراسة الطب .. بل إنه هو نفسه يستطيع أن يقوم بها نيابة عنه إذا ساعده أحد في إعداد المريض للجراحة ويتحداه الطبيب في إنه لا يستطيع ولا يجرؤ على الإمساك بالمشرط لاستخراج جزء من جسم إنسان .. فيستجيب أحمد سالم للتحدي على الفور ويراهنه على أنه يستطيع أن يفعل ومستعد للرهان على ذلك ، وفي لحظة حمق وجنون اتفق الطبيب الشاب وكان من أبناء الذوات مثله وابن لعميد كلية الطب الذي يعتبر واحداً من أعلام الطب في الشرق ، مع أحمد سالم على أن يدخل معه غرفة الجراحة ليقوم هو بتخدير المريض وفتح بطنه ثم يسلم له المشرط ليستأصل الزائدة متوقعاً أن تخونه شجاعته في اللحظة الأخيرة ويحجم عن مواصلة التحدي .. ولكن هيهات أن يحجم الشاب المغامر عن شيء ولو كان ضد كل منطق وعقل .. وفي الصباح دخل معه غرفة الجراحة وأمسك بالمشرط واستأصل الزائدة وسط ذهول الأطباء .. وانتهت المأساة بعد فترة قصيرة بوفاة المريض .. وتحولت الدعابة السوداء إلى كارثة تهدد مستقبل الطبيب الشاب الذي جارى أحمد سالم في هذا الجنون .. لكن المجاملة للأب العميد لعبت دورها في تكتم الفضيحة وساهم فيها ضعف أسرة المريض الفقير وجهلها بما يحدث .

 

 وأصبحت المغامرة المجنونة قصة تروى في مجتمعات المدينة وتضاف إلى سلسلة مغامرات هذا الشاب الذي لا يعرف الحدود والسدود .. وبعد قليل تمت تسوية المشكلة التي سجن من أجلها أحمد سالم في المستشفى .. وعاد للظهور في منتديات القاهرة وسهراتها .. شاباً ثرياً أنيقاً يرتدي القميص لمرة واحدة في حياته .. ثم يهديه لغيره .. وإنساناً رقيقاً مهذباً ، شهماً وكريماً مع الجميع لا تملك مع جرأته الجنونية إلا الإعجاب بشخصيته والتأثر بها إذا اقتربت منه! وعاد لينافس الملك فاروق في قلوب فاتنات السينما والملاهي الليلية .. وسيدات المجتمع ويتعمد انتزاع عشيقاته منه أو من يتطلع إلى كسب حبهن فتؤثره كثيرات منهن على الملك العابث اللاهي وتتدله في حبه ممثلة السينما المصرية اليهودية الديانة ، الصارخة الجمال كاميليا التي كانت أيضاً من عشيقات فاروق، وتطارده في كل مكان .

 


 

 ثم قادته مغامراته إلى اقتحام دنيا رجال الأعمال فأسس شركة للمقاولات جعل مقرها عمارة الايموبيليا بالقاهرة .. ومارس العمل بشخصية البك ابن الذوات الذي يحترمه مقاولو الباطن المتعاملون معه ويتهيبونه .. لكن دنيا الأعمال لا تستقر على حال .. وفي إحدى موجات الكساد تأخر صرف مستحقات مالية كبيرة للبك رجل الأعمال لدى المصالح الحكومية .. فتأخر أحمد سالم في سداد مستحقات مقاولي الباطن لفترة طويلة .. وصبر المقاولون من أبناء البلد لفترة ثقة في وفاء ابن الذوات وارث آلاف الأفدنة بديونه .. لكن الفترة طالت ، فبدءوا يتململون وكثر ترددهم على المكتب للسؤال عن مستحقاتهم .. يتوجهون بمطالبتهم للسكرتير الخاص ولا يجرؤون على مواجهة البك بها .. ثم طالت الفترة وبدأت أصواتهم تعلو بالمطالبة والاحتجاج حتى بلغت مسامع البك في حجرته الوثيرة وهو بين ضيوفه من الباشاوات والبكوات فيكتم غيظه ويعتزم أمراً ثم حل أخيراً موعد صرف مستحقاته الحكومية فطلب من سكرتيره أن يشتري حقيبة ملابس ويتوجه بها للبنك لصرف المبلغ الكبير مشترطاً عليه أن يكون كله من فئات نقدية صغيرة ليدفع للمقاولين حقوقهم ، ونفذ السكرتير التعليمات حرفياً وجاءه بحقيبة ملابس منتفخة فأمره بإفراغ محتوياتها على المكتب والانصراف لاستقبال المقاولين .. وبعد قليل طلب البك دخولهم واحداً وراء الآخر .. ودخل أولهم فرأى مشهداً ذهل له! رأى البك يجلس مسترخياً في مقعده الكبير وقد مد ساقيه فوق تل عال من أوراق البنكنوت على المكتب .. وفي يده سيجار فاخر.. وما أن دخل حتى بادره البك بصوت هادئ : أهلا يا معلم فلان ، كم لك عندنا من نقود؟ فإذا بالمعلم يجيبه بعفوية : نقود إيه يا بك .. لقد جئت أسأل عن عمل جديد تكلفني به .. فقد مضت فترة طويلة لم نسعد فيها بالعمل مع سعادتك! فيهز البك الخبير بالنفوس البشرية رأسه في ثقة ثم يعده بعمل جديد قريباً .. ويشير له بالانصراف فينصرف شاكراً ومحيياً من غير أن يتقاضى مليماً من مستحقاته!

 

ويتكرر المشهد بكل تفاصيله مع باقي المقاولين .. فينصرفون جميعاً شاكرين تعطف البك عليهم ووعده لهم بأعمال جديدة ودون أن يتقاضوا ديونهم التي علت أصواتهم من قبل للمطالبة بها ثم يغادر أحمد سالم مكتبه بعد قليل تاركاً للسكرتير أن يدفع فيما بعد للمقاولين بعض مستحقاتهم .. ويوفر البعض لمطالب حياة البك الباهظة ! ويتعجب السكرتير من هذا المشهد الذي يشبه قصة مثيرة للتأمل من قصص تشيكوف .. أما هو فلم يتعجب لشيء لأن حياته المثيرة المليئة بالمفارقات وبالصعود والهبوط لم تترك له مجالاً لأن يتعجب لشيء .. ثم تتوالى المفارقات الغريبة في حياته إلى أن تبلغ قمة الهزل والإثارة حين قدم للمحاكمة في إحدى تقلبات الزمن العديدة معه بتهمة توريد صفقة خوذات عسكرية المفروض أن تكون من الصلب لتقي رؤوس الجنود من الرصاص والشظايا ، لكن الفحص أثبت أن حصاة صغيرة متطايرة قد تستطيع اختراقها! وقام الخبير بتجربة عملية في قاعة المحاكمة لإثبات ذلك فنجح في خرق إحدى هذه الخوذات بقطعة حجر صغيرة .. وتداول القضاء القضية لفترة طويلة .. والبك يواصل حياته العجيبة بلا أي انزعاج .. وينفق الألوف في بعض الليالي .. ويشح المال في يديه في أيام أخرى فلا يتغير شيء في حياته .. فهو النجم الذي يستقبل استقبال الفاتحين في كل مكان يحل به سواء أكان مفلساً أم يتدفق المال بين يديه .

 

وروى لي صديقي الصحفي المخضرم الذي كان صاحب مجلة فنية معروفة ورئيس تحريرها في ذلك الوقت ، أنه ألمت بصديقي هذا ضائقة مالية عابرة فشغلت فكره وفي غمرة اكتئابه فوجئ ذات مساء بأحمد سالم يزوره في مكتبه ومعه 4 من أصدقائه والجميع في ملابس السهرة السوداء الفاخرة ، ولاحظ أحمد سالم اكتئابه وعرف منه أسبابه .. فهون عليه الأمر وأصر على الترويح عنه بدعوته لتناول العشاء والسهر معهم في مطعم سان جيمس الذي كان من أرقى منتديات القاهرة ، فاعتذر له صديقي بأنه ليس مستعداً نفسياً لذلك ، فأصر على ألا يدعه لاكتئابه وألح عليه بمصاحبتهم .. فاعتذر له بأنه مفلس وليس مستعداً مادياً فأجابه أحمد سالم بأنه مفلس أكثر منه ومع ذلك فسوف يدعوه للعشاء والشراب فأراد أن يتهرب من الدعوة ، فاعتذر له بآخر أعذاره وهو أنه ليس مستعداً حتى من ناحية الملابس فهو يرتدي القميص والبنطلون وهم يرتدون بدل السهرة الكاملة ، واعتقد أنه قد أقنعه بذلك لا محالة.. لكن هيهات أن يحول بين أحمد سالم وبين ما يريد من شيء فقد نهض صامتاً وخلع في هدوء ربطة عنقه وجاكتته وشمر أكمام قميصه وأمر أصدقاءه ففعلوا مثله في ثوان .. ثم قال له : ها قد أصبحنا جميعاً بالقميص والبنطلون فهيا معنا!

 

وخرج الجميع إلى سان جيمس واستمتعوا بقضاء ليلة سعيدة من ليالي العمر.. وانصرف أحمد سالم وهو يشير إلى رئيس الجارسونات بكبرياء بأن يضيف إلى قيمة الفاتورة عشرين جنيهاً كبقشيش له .. وكان مبلغاً خرافياً في الأربعينيات وأن يرسل الفاتورة إلى مكتبه لسدادها فيما بعد.. وينحني الرجل شكراً واحتراماً وهو يودع البك وضيوفه حتى باب السيارة.. وتتلاحق الفصول المثيرة في قصة حياته .. وتبلغ إحدى قممها حين يبدد معظم ما ورثه من أرض زراعية لا تخصه وحده وإنما تخص معه شقيقاته لكي يواجه تكاليف حياته الباهظة .. وبغير أن تحتج الشقيقات عليه أو ينازعنه في شيء .. أو يتأثر حبهن له وإعجابهن به حتى اللحظة الأخيرة وبرغم ما بدد من مالهن!

 

ثم تجيء النهاية الأكثر درامية لتلك الحياة العريضة الصاخبة رغم قصرها ويموت أحمد سالم في شرخ الشباب .. فهل تعرف كيف مات؟ بانفجار في الزائدة الدودية فاجأه على حين غرة قبل أن يجري له الأطباء تلك الجراحة البسيطة التي سخر منها ذات يوم وقال أن أي إنسان يستطيع أن يقوم بها بغير حاجة لدراسة الطب ..! " وَمَا رَبُّكُ بِظَلاَّمٍ لِّلْعَبِيدِ " صدق الله العظيم .. وانطوت بذلك صفحة عجيبة من صفحات الحياة . لم يؤلفها مؤلف .. ولم يبتدعها خيال كاتب ، وإنما ألفها الزمن "أعظم المؤلفين" كما قال ذات يوم الفيلسوف الإنجليزي فرنسيس بيكون.

 

 ·       نشرت في كتاب أرجوك لا تفهمني

شارك في إعداد النص / أحمد محمود

راجعها وأعدها للنشر / نيفين علي

 


Neveen Ali
Neveen Ali
كل ما تقدمه يعود إليك فاملأ كأسك اليوم بما تريد أن تشربه غداً
تعليقات