أحلام اليقظة .. رسالة من بريد الجمعة عام 1993

 

احلام اليقظة .. رسالة من بريد الجمعة عام 1993

                 أحلام اليقظة .. رسالة من بريد الجمعة عام 1993

أحلام اليقظة قد تصلح لأن يهرب إليها الإنسان أحيانا من واقع أليم يعجز عن احتماله ، لكنها لا تصلح لأن يبني خططه على أساسها أو ينتظر تحققها في أرض الواقع، إنها فترات هروب قصيرة إلى واحة الخيال من عناء الواقع ، لا يجوز أن تطول عن لحظات .. ولا أن يستنيم إليها المرء طويلا وإلا اختلطت لديه الحدود بين الواقع والخيال .. وطاشت تقديراته وأحكامه.

عبد الوهاب مطاوع


أكتب هذه الرسالة لأروي لك تجربة حياتي وأستفيد بخبرتك فيها .. فمنذ 17 عاما كنت شابا حاصلا على شهادة فوق المتوسطة وانتظر التعيين ، وذهبت ذات يوم إلى مكتب القوى العاملة لأقدم أوراقي إليه فشهدت بالمصادفة مشاجرة عنيفة بين فتاة جميلة حاصلة على دبلوم التجارة جاءت للغرض نفسه ، وبين الموظف المختص وقد بدأت المشادة بأن وجهت الفتاة إليه سؤالا عن موعد التعيين أو شيء كهذا ، فلم يرد على سؤالها وتشاغل عنها فانفجرت فيه بعصبية شديدة ووجهت له عبارات عنيفة ورد عليها الموظف بعصبية أشد ، ونهض من وراء مكتبه ليطردها أو يعتدي عليها . فوجدتني بتلقائية أحميها ورائي وأدفعه عنها بقوة وتأزم الموقف بيننا وكاد ينتهی بنا في قسم الشرطة لولا أن تدخل الحاضرون رفضوا النزاع وسمحوا لنا بالانصراف فخرجت الفتاة معي وعلى السلم سألتني عن اسمي ثم طلبت مني توصيلها إلى محطة الأتوبيس خوفا من أن يلاحقها الموظف ويعتدي عليها . وقبل أن تركب قالت لي بلهجة شبه آمرة : تعال زرني في البيت لأقدمك لأهلي ويشكروك .. ثم أعطتني عنوانها وركبت الأتوبيس في عظمة لا تتناسب مع فستانها البسيط وبعد انصرافها دهشت لكل تصرفاتها ، وقررت أن أنسى القصة كلها وألا أزورها، لكني في اليوم التالي وجدت نفسي أتجه إلى بيتها ، وطرقت الباب وقدمت نفسي لشاب فتحه لي ففوجئت بأنه يعرفني ويرحب بي وتعرفت على الأب الذي شكرني كثيرا وعرفت أنه موظف بوزارة الأوقاف وعنده أربعة أبناء ، وجاءت الأم أيضا وشكرتنی وشكت لي من عصبية ابنتها التي تجر عليها المتاعب ، وأحسست بعد قليل أني لست غريبا على هذه الأسرة وأمضيت معهم وقتا طيبا وانصرفت، فجاءت الفتاة ورائي وودعتني على السلم وأكدت علي أن أزورها مرة أخرى .

 

وزرتها بالفعل وتكررت الزيارات واللقاءات بيني وبينها ووجدت نفسي غارقا في حبها وهي أيضا كذلك .. وبعد أسابيع طلبت مني أن أخطبها من أبيها فأبدیت لها مخاوف من أن يرفضني وأنا بلا عمل ولا مال ولا شقة ، وأبي موظف مثقل بالأعباء مثله فطلبت مني أن أتقدم بغير أن أخشى شيئا .. ووافق أبي بصعوبة شديدة على فكرة الخطبة قبل العمل وتوفير إمكانيات الزواج .

واشترط علي أن أحصل من أبيها على موافقته أولا قبل أن يزوره ليخطب لي أبنته ، وفاتحت أباها في الموضوع فلم يرحب بی کما توقعت وطلب مني أن يبحث كل منا عن نصيبه مع آخر تکون ظروفه أفضل قليلا ، لأن كلينا غير قادر على إمكانات الزواج ، وعدت بالخيبة إلى أهلي .. لكن الفتاة لم تسكت عما حدث وإنما تمسکت بی وصارحت أهلها بذلك ، وانتابتها نوبة هياج شديدة ضدهم وحاول أبوها تبصيرها بالمشاكل التي تنتظرنا بلا فائدة ، وأخيرا حسم الأمر بالرفض النهائي فإذا بالفتاة تحاول الانتحار بقطع شريان يدها وتم إنقاذها في اللحظة الأخيرة ونقلت إلى المستشفى واستسلم الأب لرغبة ابنته وتمت الخطبة .

 

وخلالها تم تعييني في إحدى الشركات ، أما هي فقد جاءها التعيين في جهة حكومية بعيدة .. وظنت أن موظف القوى العاملة الذي أهانته وراء ذلك ، فهاجت وخرجت ثائرة لكي تذهب إليه وتنتقم منه ، وهرولت وراءها حتى نجحت في تهدئتها وإعادتها إلى بيتها ، وبعد شكاوي عديدة وجهود مضنية تم تعديل التعيين إلى جهة قريبة وبدأت أكافح للحصول على سكن وحصلت بمعجزة على شقة صغيرة من غرفتين في المساكن الاقتصادية ، وساعدني أبي بما يستطيع في إعداد الجهاز ، أما أبوها فلم يساعدنا بشيء لأن عنده بنتين أخريين ! وتم الزواج في شقة شبه خالية من الأثاث ، وبدأنا بعد أن عملنا نشتري قطع الأثاث البسيط قطعة وراء قطعة وهي سعيدة بحياتها الجديدة وأنا سعيد بها وبكل شيء رغم نوباتها العصبية التي إذا هبت لأي سبب انفجرت كالبركان فلا أجد طريقة لمواجهتها سوى اللين والصبر إلى أن تهدأ وتمر العاصفة بسلام ، ولولا صبري وتجنبي لإثارتها بقدر الإمكان لتحطمت حياتنا الزوجية عشرات المرات وليس مرة واحدة .

 

 ولم يكن أمامي مفر من احتمالها والصبر عليها خاصة بعد أن أنجبنا طفلنا الأول ، كما أنها كانت حين تصفو تصبح رقيقة وجميلة وتحاول أن تنسيني ما تحملته منها، وجاء الطفلان الآخران تباعا فضاقت بنا الشقة وازدادت أعباء الحياة علينا .. وبدأت زوجتی تتذمر باستمرار من ضيق المسكن وقلة النقود ، وإذا واجهتنا أزمة مادية طارئة وعجزت عن تدبير النقود اللازمة لها انفجرت في ولعنت اليوم الأسود الذي رأتني فيه .. وتحسرت على شبابها الذي دفن معي في هذه المقبرة ، وتساءلت بمرارة وحقد بماذا تزيد عنها أختها الصغرى التي تزوجت تاجرا عنده سيارة وشقة واسعة في القاهرة ، وشقة في الإسكندرية ويقبل قدمها ، كل صباح ا أو ماذا تزيد عنها هؤلاء الأخريات اللاتي يرفلن في الترف ؟!

 

وعبثا أحاول إقناعها بأن لكل إنسان ظروفه ورزقه وأن لدينا الكثير مما ينبغي أن نشكر الله علیه کالأولاد والصحة والحب .. الخ .. ولكن بلا أي فائدة فهي إذا انفجرت لم تسمع لشيء إلا لشياطينها .. وكم اضطررت أن أقترض من أخي الأصغر مني لألبي طلباتها ولأقدم لها الهدايا في المناسبات حتى لا تشعر بأنها أقل من غيرها .. فتصفو بعض الوقت وتبدو جميلة وسعيدة ، ثم يتعكر جوها فجأة بلا مقدمات فتمضي الأيام وهي ناقمة على كل شيء ومكفهرة الوجه ولا ترد على تحيتي في الصباح ولا تتكلم معي ، إلى أن انهض ذات يوم من النوم فتبادرني بالتحية كأن شيئا لم يكن فأعرف أن العاصفة قد انتهت ، ونواصل حياتنا أو فترة الهدنة المؤقتة إلى أن يجد جدید فتتكرر نفس القصة بحذافيرها ، وفي هذا الجو المتقلب عشنا ثلاثة عشر عاما كاملة يا سيدي ناهيك عن مقاطعتها لأهلي بلا سبب والشياطين التي تركبها إذا علمت يوما أني قد زرت أمي بغير استئذانها ! .. فإذا قلت لها أن زيارة أمي واجب علي خاصة بعد وفاة أبي ، هاجت وقالت لي إن أمي تكرهها وتنظر لها بنظرات كراهية صامتة مع أنها كانت توصینی دائما باحتمالها من أجل الأولاد ولا تذكرها معي إلا بخير ، في حين لا تذكر هي أمي أبدا إلا بسوء !

 

المهم أنني احتملت كل شيء من أجل الأولاد ، ومن أجل فترات الهدنة بين الأزمات إلى أن لاحظت منذ عام ونصف ، أن نوبات النكد والخصام قد تقاربت بشكل لافت للنظر وأن فتراتها أصبحت تطول أكثر من المعتاد فاستعنت عليها بأهلها فلم يصلوا معها إلى شيء ، ثم فوجئت بها ذات يوم تطلب مني الطلاق في هدوء .. ولم يكن ذلك شيئا جديدا بل كان دائما من مراسم کل خلاف ، لكن الجديد كان هو الهدوء الذي طالبتنی به بالطلاق دون خلاف ولا عصبية ، وربما لهذا السبب وحده استشعرت خطورة الأمر هذه المرة وسألتها معاتبا : أتريدين الطلاق وابنك الصغير لم يبلغ عامه الثالث بعد ؟.. فأجابت بالإيجاب .. ولجأت إلى أهلها شاکیا بلا فائدة ، وأصبحت تطالبني بالطلاق كل يوم مرتين ، مرة في الصباح ومرة في المساء ، حتى ضقت بكل شيء وأكدت لها أنني لن أطلقها مهما فعلت لأني لا أريد أن أشرد أطفالي الثلاثة .. فإذا بها تمسك بموس الحلاقة الذي استخدمه وتهددنی بقطع شريانها إذا لم أطلقها الآن وفورا !!

 

وتذكرت فجأة وأنا في قمة ضيقي ونكدي حين حاولت الانتحار من قبل ولكن لكي تتزوجني وتفرضني على أهلها وليس لكي تطلق منی ، وتعجبت من تغير الأحوال .. وتقلب القلوب وقلت لها أنني سأطلقها وذهبت لإحضار شقيقها وعرضت عليه الأمر للمرة الأخيرة عسى أن يجد له مخرجا فاختلى بها فترة من الوقت ثم خرج إلي وطالبني بطلاقها فطلقتها .. وعرضت عليها أن أترك لها الشقة وأقيم مع أمي وأختي الصغرى التي لم تتزوج بعد فرفضت وطلبت أن تصطحب معها طفلها الصغير وتقيم عند أهلها .. وغادرت زوجتي بيتها ، وانطويت على نفسي مجروح النفس والكرامة أنظر للطفلين وأتحسر على حيرتهما بعيدا عن أمهما . وأملت أن ترجع إلى رشدها بعد شهور ، لكن أتت الرياح بما لا تشتهي السفن ، فقد تزوجت أم أولادی يا سیدی بعد انتهاء عدتها بيوم واحد من رجل آخر .. ومن هو الذي تركتني من أجله ؟.. إنه زوج وأب لأولاد كبار وجد لحفيدين أيضا ويكبرها بخمس وعشرين سنة .. لكن كل ذلك يهون لأنه تاجر مستريح ماديا ويركب سيارة فاخرة وعنده شقة في الإسكندرية تماما كزوج أختها الصغرى .. وقد أقامت معه في شقة لا تزيد في مساحتها عن شقتي لكنها في حي أرقى وأثاثها أفخر وفيها الفيديو والدش أو الإيريال الدولي الذي يلتقط تليفزيونات الدنيا ؟

 

کما ترك هو بيت أولاده وأقام معها إقامة دائمة في الشقة ويذهب إلى أولاده كل يومين لمدة ساعات ، وقد علمت أن هذا كان شرطها وأنه استجاب لها سعيدا وراضيا .

ورغم ما أحسست به من مرارة فقد تصبرت واستسلمت لمصيري وأكثرت من الصوم وأفرغت أحزاني في رعاية الولدين والاهتمام بشئونهما وإعداد ملابسهما وطعامهما، ومن حين لآخر أرسل ابني الكبير - وعمره ۱۲ عاما - لکي بحضر لى شقيقه الأصغر من بيت "ماما" الجديد لکي أراه لمدة ساعة .

 

ومضت شهور على هذا الحال إلى أن كان الأسبوع الأخير من العام الدراسي حين عاد ابني الكبير من المدرسة ففوجئت به يجر في يده شقيقه الأصغر وفي يده الأخرى حقيبة صغيرة يتعثر فيها .. وسألته عما حدث فعرفت منه أن أمه "الحنون" قد ذهبت إليه عند موعد خروجه من المدرسة وسلمته شقيقه وحقيبة ملابسه وقالت له أن زوجها لا يريد ابنها معها لأن الشقة صغيرة وهو يريد الهدوء ! هل تتصور هذا یا سیدی؟! |

وهل تتخيل حالي وابني الصغير الذي يبلغ من العمر 3 سنوات يبكي من الجوع وتعب المشي ، وابني الأكبر يسألني هل معنى هذا أن ماما لم تعد تريد أحدا منهم أو تحبه ؟

لقد هتفت في أعماقی "حسبي الله ونعم الوكيل" .. وحاولت أن أخفف عن الأولاد وأشغلهم بترتيب أوضاع حياتنا الجديدة .. ولكن

جرح الألم كاد يقتلني وذهبت لأمها وشقيقها فقالا لي أنهما لم تعد لهما سيطرة عليها وأنهما رفضا قبول الولد عندهما أو توصيله لي حتى يجبراها على الاحتفاظ به لكنها لم ترتدع وفي النهاية طلبا مني أن أتزوج غيرها لترعى أولادي ولكي أنساها !

 



فبماذا تنصحني يا سيدي أن أفعل ؟ .. هل أنتظر حلم اليقظة هذا .. أم أتزوج أم أبقى وحيدا مع ما أعانيه من آلام ومتاعب وأتفرغ لأبنائی ؟

 

 
ولكاتب هذه الرسالة أقول :

أحلام اليقظة يا صديقي قد تصلح لأن يهرب إليها الإنسان أحيانا من واقع أليم يعجز عن احتماله ، لكنها لا تصلح لأن يبني خططه على أساسها أو ينتظر تحققها في أرض الواقع، إنها فترات هروب قصيرة إلى واحة الخيال من عناء الواقع ، لا يجوز أن تطول عن لحظات .. ولا أن يستنيم إليها المرء طويلا وإلا اختلطت لديه الحدود بين الواقع والخيال .. وطاشت تقديراته وأحكامه وحلم يقظتك على وجه التحديد حلم بعيد المنال في المنظور القريب على الأقل لأن زوجتك السابقة شخصية جامحة أنانية تطلب لنفسها ما تراه ملائما لها وتقاتل للحصول عليه ، ولا تضع في اعتبارها إلا رغباتها وحدها . وقد فعلت ذلك حين حاولت الانتحار لتفرضك على أهلها وحين

هددت به لتنال حريتها منك وتتزوج "الآخر" .. فإذا كان خطؤها في المرة الأول محتملا .. فهو في المرة الثانية جريمة لا تغتفر ، لأن له ضحايا أبرياء هم أنت وأولادها الثلاثة الذي لم يتم أكبرهم الثالثة عشرة من عمره، ومن لا تردها غريزة الأمومة ولا عاطفتها تجاه أطفالها الصغار عن الاستسلام لرغباتها وهوى نفسها لا يردها عنها شيء آخر في الوجود ، ذلك أن غريزة الأمومة هي أقوى غرائز المرأة ودوافعها على الإطلاق ، ومن لم يرق قلبها لصغارها فيدفعها للتمسك بهم واحتمال ظروف حياتها من أجلهم أو حتى للاحتفاظ مؤقتا بطفلها الصغير الذي يحتاج لرعايتها، لا أمل في الاعتماد على صحوة ضميرها أو مراجعتها لنفسها أو ندمها على ما فعلت .

 

 ثم هبها فعلت ذلك - وهو ما أستبعده الآن على الأقل - فهل تستطيع أنت أن تصفح عنها وتمحو من نفسك كل أثر لغدرها بك وتنكرها لأطفالها ؟

لقد كانت حياتك معها سلسلة متصلة من العواصف والبراكين التي تقف عاجزا أمامها ولا تملك معها إلا انتظار انتهاء "النوة" العاصفة حتى تلتقط أنفاسك بعض الوقت قبل أن يموج البحر بعاصفة جديدة ، وقد احتملت حياتك معها مدفوعا بأنبل الدوافع وهو الحرص على سعادة الأبناء من ناحية .. وبضعفك العاطفي تجاهها من ناحية أخرى، مع اعتقادك أنها على الحب الذي جمع بينكما مازالت مقيمة وأن ما تعانيه من انفجاراتها إنما يرجع إلى مزاجها الناري المتقلب وليس إلى جفاف عاطفتها تجاهك .. فكيف ستكون حياتك معها لو تحقق هذا الحلم المستحيل ، وقد عرفت الآن بخيانة القلب الذي أحببته وتحملت من أجله كل هذه الأموال ؟

 

صحيح أن الحب قلب غفور قد يغفر الكثير من الخطايا للأحباء ، لكن هناك بعض الحالات التي تنطبق عليها بصدق عبارة الشاعر الحكيم طاغور حين قال أنه :

حين ينقسم الحجر إلى نصفين فإنه يمكن إعادة وصله بيسر وإحكام ليعود كما كان من قبل بغير أن يلحظ أحد انقسامه السابق ، أما مع الإنسان فإن الأمر يختلف لأنه كائن حي ومتغير دائما .. وعندما يفترق الناس لفترة طويلة أو يحدث بينهم ما لا يمكن الصفح عنه ، فإنه لا يمكن إعادة ضمهم ليعودوا کما کانوا من قبل .

 

وحالتك هذه للأسف من الحالات القليلة التي لا يمكن إعادة وصل الحجر المنقسم فيها ليعود كما كان من قبل ، ليس فقط لخيانة الحب ولا الغدر بعهد من اختاره القلب وكاد يفقد الحياة من أجله ، وإنما لبشاعة تنازل الأم عن أطفالها الصغار بهذا اليسر بغير أن يهتز لها رمش إلى حد تنازلها عن حضانة الطفل الوليد لأن زوجها الذي يحقق لها مستوى الحياة الذي أرادته لا يحتمل وجوده معها ! إن العجماوات یا صدیقی لا تتنازل عن صغارها بهذه السهولة وإنما تقاتل وتخمش بمخالبها وأظافرها من يحاول انتزاعها منها .. والحديث الشريف يقول للآباء والأمهات : "الزموا أولادكم وأحسنوا أدبهم" وكثيرون هم من يضحون باعتبارات السعادة الشخصية والاعتبارات المادية لكيلا يتخلوا عن أبنائهم أو عن واجبهم الإنساني والديني في رعايتهم وإحسان أدبهم .. فكيف تأمل خيرا فيمن تخلت عن واجبها المقدس تجاه أطفالها الصغار بهذا اليسر ولولا أنك ترسلهم إليها لما طلبت رؤيتهم ؟! .

 

وكيف تتصور إمكانية عودة الحياة بينك وبينها مرة أخرى وكأن شيئا لم يكن ولم ينشرخ بينكما؟

يا صدیقی .. لقد فرطت كثيرا مع هذه السيدة ، ولم تلتفت من البداية إلى الإنذار المبكر الذي كان ينبغي أن تتلقاه وتتفهمه عن مزاجها العصبي وطبعها الناري من اليوم الأول لتعرفك عليها في مكتب القوى العاملة ، فهي لم تكن تصلح لك ولا كنت تصلح لها ، وقد نالت ما تستحقه الآن من الحياة ومن نمط الأزواج الذين يصلحون لها فدخلت في عصمة رجل يعرف كيف يتعامل مع شياطينها .. وكيف يروضها کما يروض مروض الوحوش النمرة الشرسة .. ومستقبلها معه رهين بخضوعها لتسلطه وتجبره عليها ، كما حدث لـ "كاترين" الشرسة في مسرحية شكسبير "ترويض النمرة" التي رفض كل الشبان أن يتقدموا

لخطبتها لطبعها الشرس وجموحها .. إلى أن جاءها زوجها المجرب "بتروشيو" ، وأخضعها بخبرته وحنكته لشخصيته وتسلطه ، حتى كان يتعمد أن يشير إلى القمر الساطع أمام الآخرين ويقول لها أنها الشمس المباركة، فتؤمن على ما يقول وتردد وراءه أنها الشمس المباركة بعد أن جربت عاقبة مخالفته في الرأي .. ولكل جامع آفة من جنسه !

 

أما أنت فلقد كان استمرار حياتها معك رهينا بقدرتك على الصبر والاحتمال والمرونة وقد آن لك الآن أن تنال من الدنيا من تستحقها ومن تعرف لك قدرك وتشاركك حلو الحياة ومرها بلا تسلط ولا عدوانية ومن تقاسمك رعاية أولادك وربما أولادها أيضا ..

فهز راسك بعنف يا صدیقی کلما راودك حلم اليقظة المزعج هذا لکی تطرده منه إلى الأبد .. ولا تحكم على نفسك بالوحدة والمعاناة بقية العمر .. وإنما استجب لنصيحة الأهل والعقلاء ، وابحث لنفسك عن شريكة عمر ملائمة لك ولسنك وظروفك الاجتماعية والمادية وفوض أمرك لربك فيمن تخلت عن صغارك ولم تحفظ لك عهدك .. وانتظر تعويض السماء لك عما لقيت معها من عناء .. ولسوف تأتيك جوائزها تترى قريبا ، وقريبا جدا بإذن الله ..

 ·       نشرت في جريدة الأهرام "باب بريد الجمعة" أغسطس عام 1993

راجعها وأعدها للنشر / نيفين علي

 

Neveen Ali
Neveen Ali
كل ما تقدمه يعود إليك فاملأ كأسك اليوم بما تريد أن تشربه غداً
تعليقات