بداية ونهاية .. رسالة من بريد الجمعة عام 1984
الحياة كالحرب
يا صديقي لها أيضا جرحى ومصابون وجراحها أضعاف أضعاف جرحى الحروب.
عبد الوهاب مطاوع
لأن مثل حكايتي قد تحدث
لآخرين في مجتمع يبدو أحيانا قاسيا لا يرحم .. فإني أناشدك أن تنشر قصتي هذه وأن
تقول رأيك فيها صادقا ليس لي وحدي وإنما لكل من يتعرض لأن يكون فى مثل موقفي ..
وحكايتي يا سيدي بدأت منذ 10 سنوات وكنت في ذلك الوقت في التاسعة والعشرين من عمري
وكنت قد أنهيت خدمتي العسكرية وبعد الحرب وبعد أن أمضيت من حياتي 6
سنوات كاملة في الجبهة وسط النار والبارود أو في الصحراء القاحلة ، وكنت قد أنهيت
تعليمي الجامعي وتخرجت في كلية الآداب وعدت بعد انتهاء الخدمة إلى عملي وكشاب فى
مثل ظروفي .. فكرت فى البحث عن فتاة الأحلام فقد أمضيت 6سنوات في النار لم أثق
ليلة في أن النهار سوف يطلع علي .. وكنت في حاجة إلى الراحة بعد العناء وإلى البيت
الدافئ بعد صقيع الليالي الباردة فى الملاجئ أو العراء .. ووجدتها بأسرع مما تخيلت
..التقيت بها فى عملي وأحببتها بكل ما فى نبض .. وأصبحت خلال وقت قصير شيئا يسري
فى دمى وعروقي .. وصدقني إن اندفاعي فى حبها لم يكن بلا مبرر فلقد كانت ملاكا بكل
معنى الكلمة.
وتزوجتها سريعا فأعطتني
الحب والحنان والدفء العائلي وعشنا فى شقة في الهرم ندبر حياتنا معا .. بحب وحنان
وتفاهم نخرج إلى العمل صباحا معا فنطارد التاكسيات إلى أن نجد مكانا فى أحدها أو
نتشعلق بالأتوبيس إذا يئسنا من سيارات الأجرة .. ندخل العمل فتتجه هي إلى مكتبها، وأنا
إلى مكتبي وتظل فى وجداني سواء أكانت قريبة منى أم بعيدة عنى، وعند الظهر نغادر
العمل معا فنتجول فى شوارع وسط المدينة .. نأكل السندوتشات .. فى شارع
سليمان وندخل سينما..أو نتغدى فى محلات الكشري .. ونمشي فى شوارع المدينة فنشترى
كتابا أو مجلة وقد نجلس معا على المقهى فى وسط المدينة نقرأ الصحف حتى نمل فننهض
لنركب الأتوبيس من ميدان التحرير .. كنا معا فى كل لحظة .. وحين جاء الأبناء
تضاعفت سعادتنا ولا أنسى يوم ولادتها الأولى ولا خوفي عليها من الولادة .. كان
المولود الأول طفلا عمره الآن 8 سنوات وكان فرحتنا الأولى .. وكان سعادتنا وكم
سهرنا بجواره نلاعبه ونداعبه ونفكر فى المستقبل .. ثم جاءت الطفلة بعد 3 سنوات من
الأول .. فاكتملت سعادتنا .. ولم تكن من قبل ناقصة .. لكن تستطيع أن تقول إنها
زادت كمالا على كمال!
وابتسمت لنا الدنيا أكثر وأكثر فسافرنا مع عام1977
للعمل معا فى إحدى الدول العربية .. وعرفنا إلى جانب الحب الوفير والحنان الغامر
.. شيئا لم نكن نعرفه من قبل وهو أن نجد فى أيدينا نقودا كثيرة تفيض كثيرا عما
نحتاج إليه لنفقات الشهر ولشراء الملابس فزادها ذلك حنانا على حنان ورضا على رضا
.. وعطاء على عطاء، والحق أنها نوع من البشر يتميز بقدرته على الحنان ، وصدقني أن
هذا ليس رأيي وحدي لكنه كان رأي كل من رآها وعاشرها فى الغربة أو مصر، ولقد كان
زملائي فى الغربة يحسدوننا على حبنا المتجدد كل يوم، وعلى الوئام الشديد والتفاهم
العميق بيننا.
وفى العام الخامس من زواجنا
حملت زوجتي فى طفلنا الثالث ، ولا أعرف لماذا أحسست بعدم الارتياح لمقدمه، أما هي
فكانت سعيدة به وتقول إنه سيكون " ابن عز " لأنه الوحيد من أبنائنا الذى
سيولد فى ظروف حسنة .. فلدينا مال نستطيع أن نوفر ظروف ولادة مريحة .. وأن نشترى
له ملابس غالية .. ولعبا جيدة وسريرا فاخرا .. وكلها أشياء لم تتوفر لابني وابنتي
عند مولدهما .. وكنت أجاريها فى أحلامها لكن شيئا ما فى صدري لم يكن متجاوبا معها
فيها.
ولم تمضى الأيام حتى لاحظت
أنها متعبة وأن حملها قد أرهق صحتها فعرضتها على الطبيب الذى أحالها إلى طبيب آخر
وأحالها الطبيب الآخر إلى طبيب ثالث .. وجاءت كلمة الطبيب الأخيرة كالمطرقة
الثقيلة فوق رأسي .. إنها مريضة بالمرض اللعين!
وأنا الآن يا صديقي وحدي .. أراها.. وأتنفس الهواء الذى كانت تتنفسه ..وأشم رائحتها
فى كل مكان من الشقة وقد أخذ أهل زوجتي أطفالي لديهم فى مدينتهم البعيدة عن
القاهرة وأنا شارد ضائع .. حزين.. ومستقبل أطفالي في خطر لأن ثمة تفكيرا لدى أسرة
زوجتي فى الاحتفاظ بالأطفال بحجة أنى غير قادر على تربيتهم بينما هم قد التحقوا
بمدرسة لغات فى القاهرة، فقل لى بربك ماذا أفعل .. ولماذا تذبل الزهور فى الربيع
ثم تتركنا للأحزان والدموع .. ولماذا
أنا وحدي الذى أواجه هذا المصير..؟
ولكاتب هذه الرسالة أقول:
قرأت هذه الرسالة فخدعني
سطورها الأولى وتصورت أني أمام قصة رومانسية جميلة .. ثم صدمتني سطورها الأخيرة
فاكتشفت أنى أمام قصة مأساوية من قصص الحياة اللانهائية .. والحق أنى لا أعرف ماذا
أقول لكاتب هذه الرسالة أو ماذا على الأصح تجدي الكلمات أمام لغز الحياة؟
لكن إذا كانت ثمة ضرورة
للكلام فإني أقول لك يا صديقي إن هذه هى الحياة..لا جديد فيها.. ولا نهاية له و أن
الحياة كانت وسوف تظل إلى الأبد فراقا وتلاقيا.. ولا نهاية لكل منهما، وأنه كما
يقول الشاعر:"ترقب زوالا إذا قيل تم" فلابد فيها يبدو غالبا من هذا الشئ
الناقص ..لعل ذلك هو ما يدفعنا لا شعوريا لأن نتوجس خيفة فى أعماقنا إذا أسرفنا فى
السعادة فى بعض الأحيان لكن العاقل من يتقبل حقائق الحياة بواقعية وصبر ويتفهمها، والعاقل
من يلتمس لنفسه السلوى والعزاء فى صور الحياة الأخرى ولو فى الذكريات الجميلة وطيف
الأيام السعيدة.
فهكذا يفعل الكثيرون من
جرحى الحياة.. والحياة كالحرب يا صديقي لها أيضا جرحى ومصابون وجراحها أضعاف أضعاف
جرحى الحروب ولقد نجوت من أهوال الحرب.. بإرادة الله، لكن أهوال الحياة لا ينجو
منها أحد يا صديقي فاصبر واحتسب.. واستعن بالصبر والصلاة على ما تلاقيه وتقبل
الأمر بواقعية رغم إيلامه ولا تسل أبدا لم؟..أو لماذا أنا وحدي؟
فلم تكن وحدك.. ثم إن
تساؤلك هذا جرم واجتراء على مقام من لا يسأل عما يفعل .. وحشاك أن تكون كذلك ولعل
كثيرين من المعذبين يغبطونك على ظروفك وأنت شاب وفى مقدورك أن تبدأ حياتك من
جديد.. ولن أنصحك بشئ محدد الآن لأنك أدرى بظروفك..لكنى أنصحك فقط بأن تستعيد
صلابتك .. وأن تجتاز هذه المحنة كما اجتزت من قبل الأيام العصيبة تحت النار
والبارود..أم هل نسيت أيها المقاتل؟
شارك في
إعداد النص / ياسمين عرابي
راجعها وأعدها للنشر / نيفين علي
برجاء عدم النسخ احتراما لمجهود فريق العمل في المدونة وكل من ينسخ يعرض صفحته للحذف بموجب حقوق النشر