أقوى .. من الكلام ! .. رسالة من بريد الجمعة سنة 1987
سأكتب مطالبا الآباء بألا يقفوا فى طريق سعادة أبنائهم .. لكنى سأطالب الأبناء أيضا بأن يستعينوا بحكمة الآباء فى اختيار طريق السعادة بلا عناد من جانب الطرفين لأن هدف كل منهما واحد وهو سعادة الأبناء كما يتصور الآباء لهم .. أو كما يتصورها الأبناء لأنفسهم.
عبد الوهاب مطاوع
أنا سيدة أبلغ من العمر 29 عاما .. عندما كنت طالبة فى المرحلة الثانوية اتجهت
مشاعري إلى ابن عمى الذى كان يكبرني بخمس سنوات .. وكانت مشاعر صامتة لا تعبر عن
نفسها إلا فى الاهتمام به .. والقلق عليه وبالرغم من أنى لم أفاتحه أبدا فلقد كان
ما بيننا أقوى من أي الكلام وقد بادلني هذه المشاعر الصامتة .. وتوثقت الروابط
بيننا بغير مصارحة وتقدمت فى دراستي والتحقت بالجامعة.. والشيء الذى احمله بداخلي
تجاهه ينمو ويتضخم..
حتى وصلت إلى السنة
النهائية .. ووجد ابن عمى انه قد أصبح من المناسب الآن أن يتقدم لخطبتي .. فقرر أن
يفاتح أبى ، فإذا بأبي يقع فى حرج شديد .. لأنه كان يحب عمي الراحل ويحب ابنه هذا
ويعجب بأخلاقه .. لكنه يحلم لى بزوج له مركز مرموق يباهى به الناس ويستطيع أن يفتح
بيتا لائقا .. وابن عمى هذا لم يستطع أن يكمل تعليمه بعد وفاة آبيه واكتفى بشهادة
متوسطة لكي يعمل بها ويساعد أسرته ، وبعد تردد رفض أبى طلبه وصدم ابن عمى صدمة
كبيرة .. لكنه لم يفقد احترامه لأبى .. وقال له انه يقدر مشاعره كأب .. ويرى من
حقه أن يطلب لابنته زوجا أفضل منه .. لكنه يحبني منذ 6 سنوات وأنا أحبه .. وهو يضع
مصيرنا بين يديه.
وتأثر أبى لكنه لم يتزحزح
عن موقفه .. أما أنا فقد ظلمت الدنيا فى وجهي .. وفقدت اقبالى على الحياة، خاصة أن
ابن عمى قد وفى بوعده لأبى بألا يراني .. وألا يزورنا لكيلا تتضاعف آلامنا بلا فائدة
وابتعد عن أسرتنا فعلا لمدة سنة .. واستراح أبى متصورا أنى نسيته لكنى لم انسه ..
إذ كيف يتلاشى حب ست سنوات طويلة هى زهرة الشباب فى سنة واحدة.
ثم مضت الشهور وتقدم لى شاب
تتوافر فيه كل المواصفات المطلوبة .. فهو مهندس ناجح له عمل خاص وشقة جميلة وسيارة
.. ومقبول شكلا .. ومن أسرة طيبة فرفضته بالطبع .. لأن مشاعري مع غيره وغضب أبى
وغضبت أمي .. وحدثاني طويلا، لكنى لم أغير موقفي ، ثم فجأة تلقيت من ابن عمى خطابا
يطلب منى فيه قبول هذا الخطيب لكيلا أضيع شبابي انتظار لحلم مستحيل .. ولا اعرف هل
كتب إلى هذا الخطاب من نفسه أم أن أمي طلبت منه ذلك .. وعموما فقد حزنت كثيرا بعد
قراءتي لهذه الرسالة .. وعشت أياما تعيسة وحين فاتحني أبى مرة ثانية فى
الموضوع لم أتكلم فاعتبر صمتي موافقة وارتبط مع الخطيب على موعد لعقد القران
وتم القران.. وسعد أبى بهذا الخطيب المشرف.. وبمركزه وعائلته وخلال شهور تم الزفاف
وانتقلت إلى شقة الزوجية، وكانت شقة أنيقة واسعة فى عمارة يجاورنا فيها بعض
المشاهير!
وأقبلت على حياتي الجديدة
برغبة خالصة فى نجاحها.. ولأني اعرف ربى ومتدينة فلقد اعتبرت أن مجرد مرور طيف ابن
عمى بخاطري وأنا على ذمة رجل آخر "خيانة" لا أرضاها لنفسي..
وقلت لنفسي .. إن كثيرات هن
من تزوجن بغير حب ثم نجح زواجهن وأحببن أزواجهن وأنجبن البنين والبنات ثم سخرن
فيما بعد من حديث بناتهن عن الحب.. والحب الأول.. وحب العمر.. الخ..
وقلت لنفسي.. ما ذنب زوجي
فى أن أبى قد حال بيني وبين شريك طفولتي وصباي وشبابي بسبب اعتبارات اجتماعية رآها
مهمة من وجه نظره.. وهكذا أقبلت على حياتي معه بإخلاص.. وساعدني على ذلك انه شاب
على خلق وطيب.
لكن .. وآه من لكن التى لا
تخلو منها حياة كما قرأت لك أكثر من مرة .. فلقد وجدت نفسي بعد أسابيع فقط ..
مصابة بحالة اكتئاب لا أطيق أي شىء حتى تنظيف الشقة أو طهي الطعام ، ورغم محاولتي
لامساك أعصابي فقد أصبحت أثور لأتفه الأسباب وبدأت المشاكل الشجار .. وبدأت أتحين
أي فرصة لأغضب واذهب إلى بيت أبى بعيدا عن البيت والزوج، ثم يأتي زوجي بعد أيام
ويصالحني وتحت ضغط الأسرة أعود معه محاولة أن ابدأ من جديد ، ثم تفاقمت بيننا
المشاكل فطلقني بعد خمسة شهور فقط من زواجنا وعدت إلى بيت أبى سعيدة بحريتي ، لكن
بعد أيام شعرت بتعب مفاجئ واكتشفت أنى حامل .. وعندما علم زوجي بذلك جاء إلى وردني
لكى ينشأ الطفل القادم بين أبويه ، ومرت بيننا فترة هادئة وأنا أحاول بكل طاقتي
تحمله وهو يحاول أن يتفاهم معى معتقدا أن قصر فترة الخطوبة هى السبب فى عدم
تفاهمنا بالقدر الكافي , إلى أن جاء يوم عرف فيه زوجي بقصة ابن عمى.. ولا اعرف حتى
الآن كيف عرف بها .. لكن حياتي بعدها تحولت إلى جحيم .. فمنعني من الخروج ومن
زيارة بيت أبى إلا فى صحبته .. ومن زيارة أسرة عمى لأي سبب من الأسباب مع أنى لم
أكن أزورها تجنبا لرؤيته ولكيلا أحس بالذنب حتى لو بادلته نظرة واحدة، لكن زوجي لم
يقتنع .. وهو معذور فى ذلك فالشك جحيم .. وقد دفعت أنا ثمنه .. وساءت صحتي وساءت
حالتي النفسية وأصبحت أصاب بإغماءات متكررة كل عدة أيام وفى إحدى الإغماءات نقلوني
إلى المستشفى .. وافقت بعد فترة فإذا بى قد فقدت جنيني.
ومرت أيام وصحتي تتدهور وفترات الإغماء تتوالى
ثم فتحت عيني ذات مرة فوجدت أمامي ابن عمى يقف بالقرب منى والدموع تنساب من عينيه
.. فلم اكلمه .. وإنما أطلقت لدموعي العنان .. ومضت لحظات وهو صامت يبكى .. وأنا
صامتة أبكى لم يستطع أن يلمس يدي لأني زوجة رجل آخر، وفجأة دخل زوجي ورأى هذا
المشهد الصامت .. فنظر إلى بدهشة وألم .. وتوقعت صاعقة تنهى ما بقى لى من حياة ..
لكنى فوجئت به هادئا هدوءا غريبا وبعد لحظات نظر لابن عمى وقال له : إذن فأنت
غريمي .. ثم استدار إلى وقال لقد أردت أن أسعدك .. لكن سعادتك ليست معى كما عرفت
الآن..يا فلانة إني أعطيك حريتك .. أنت طالق بالثلاثة لكيلا تكون لنا رجعة أخرى ..
وأتمنى لك حياة سعيدة .. ثم خرج من الحجرة بخطوات ثقيلة حزينة.
ومرت أسابيع بعد هذا اليوم
الرهيب استعدت خلالها صحتي بسرعة .. وخرجت من المستشفى إلى بيت أبى .. وتقدم ابن
عمى إلى أبى يطلب يدي مرة أخرى ولم يستطع أبى الرفض هذه المرة بعد أن عرف إن
النقود أو المركز لا يصنعان السعادة.
وانتقلت إلى بيت فتى أحلامي
بعد احتفال بسيط.. وبدأت أيامي الحقيقية.. لقد كنت أعيش فى شقة من 4 غرف فى عمارة
راقية .. فأصبحت أعيش فى شقة من غرفتين فى حي شعبي وبيت قديم سلالمه متسخة
باستمرار .. لكنني سعيدة واشعر أن هذه الشقة الصغيرة هى قصر فاخر!
كنت اشعر بتعب الدنيا ينزل
على جسمي إذا أردت تنفيض الشقة واستعين بالبواب واختنق وأنا أشاركه فى تنفيضها
فأصبحت اكنس شقتي الصغيرة وامسح بلاطها كل يوم بنشاط عجيب .. وأصبحت الشقة تلمع
كالمراية ولا تستطيع أن تجد فيها ذرة تراب!
كنت اكره الطهي .. فأصبحت
أتفنن واصنع أكلات لذيذة نلتهمها بشراهة وتلذذ حتى زاد وزنى 8 كيلو جرامات خلال
سنة واحدة وحذرني حبيبي من السمنة لكيلا تضر بصحتي !
وأنعم الله علينا بطفل
وطفلة فى عامين متتالين فأصبحت مسئولة عن أسرة صغيرة أرعاها واغسل ملابس الأولاد
واحضر طعامهم .. وأمسح أحذيتهم ومعها حذاء زوجي كل يوم .. ولا اشعر بالتعب ولا
بالملل بل ووفرت نقود المكوى .. فأصبحت اكوي ملابس زوجي وملابس الأولاد حتى بدلة
زوجي اكويها مكوة لا يتسطيع المكوجى أن يصنع مثلها..
وكأي أسرة صغيرة تواجهنا
مشاكل .. لكن مشاكلنا مع الدنيا .. وليست مع بعضنا البعض نشكو من الغلاء .. ومن
قلة الدخل .. ومن ارتفاع أسعار ملابس الأطفال ولا نخرج إلا إلى بيت أسرتي أو أسرته
، لأن ميزانيتنا لا تسمح لنا بالفسحة .. لكننا سعداء .. نتغاضب أحيانا كما يفعل كل
الأزواج .. لكن غضبنا اقرب إلى المداعبة والإغاظة منه إلى الزعل .. ولا يتجاوز
لحظته .. ثم لابد ان يصالح احدنا الآخر ولا نبيت إلا أحباء متراضين
"نتبحبح" أول
الشهر فى المصاريف .. ونقتر على أنفسنا آخر الشهر لكى نصل إلى بداية الشهر التالي
بأمان لكننا سعداء..
وزوجي يكافح لإسعادي ..
ويحاول أن يوفر لى كل شىء لكيلا اشعر أنى نقصت شيئا عن حياتي السابقة فأضحك منه ..
لأن مثل هذا الكلام يمكن ان يقال لغيري وليس لى أنا التى عرفت ان السعادة ليست
بالنقود .. فان كانت حياتي قد نقصت شيئا.. فلقد نقصت الاكتئاب والمشاحنات والآلام
.. والغربة .. والجفاف ، كما أن ما حذرنى منه أهلي لم يحدث لأني لم أشعر لحظة
واحدة ولن اشعر أبدا أن زوجي اقل منى لأن مؤهلي جامعي .. ومؤهله متوسط ، فلقد منح
الحب زوجي شهادة الدكتوراه .. وأصبحت اشعر انه اعلي منى علما وثقافة.
لقد احتفلنا فى الأسبوع
الماضي بمرور خمس سنوات على زواجنا السعيد الذي أدعو الله أن يدوم حتى آخر العمر
وفكرت أن اكتب إليك فهل تعرف ماذا أريد منك ؟؟
إنني لا أريد منك عملا ..
ولا واسطة .. ولا جهاز تلفزيون ولا أي شىء من ذلك .. إنني أريد منك أن تكتب للآباء
بألا يقعوا فى الخطأ الذى وقع فيه أبى حين حرمني من زوجي لأن شهادته متوسطة .. أو
لأنه لم يكن جاهزا .. قل لهم يا سيدى إن أبى نفسه قد ندم على انه ضيع من عمري
عامين تقريبا فى تجربة الزواج- الفاشل معتقدا انه يحقق لى السعادة ولا أرى لأي
فتاة أخرى أن تتعرض لنفس التجربة فالحب الصادق يستطيع أن يذيب الكثير من الفوارق
ويستطيع أن يصمد للعواصف والصدمات .. فانصحهم يا سيدي قبل أن تتكرر قصتي مع فتاة
أخرى ولك الشكر من زوجين سعيدين.
ولكاتبة هذه الرسالة اقول :
نعم يا سيدتي .. سأكتب
مطالبا الآباء بألا يقفوا فى طريق سعادة أبنائهم .. لكنى سأطالب الأبناء أيضا بأن
يستعينوا بحكمة الآباء فى اختيار طريق السعادة بلا عناد من جانب الطرفين لأن
هدف كل منهما واحد وهو سعادة الأبناء كما يتصور الآباء لهم .. أو كما
يتصورها الأبناء لأنفسهم.
وفى مثل حالتك هذه فلقد
كانت هناك اعتبارات كثيرة كان على أبيك أن يراعيها فى قراره برفض ابن عمك ، منها
عمق ارتباطكما العاطفي وصعوبة تجاهل هذه العلاقة التي نمت بينكما على مر سنوات
طويلة ، وصلة الرحم بينه وبين ابن أخيه الذى لا جريرة له فى رحيل أبيه عنه واضطراره
لقطع تعليمه فضلا عن مميزاته الأخلاقية الأخرى ، ففى مثل هذه الظروف ، كان من
الحكمة فعلا التساهل قليلا فى اعتبارات الشهادة الجامعية .. والإمكانيات المادية
إذ متى كانت الشهادة والإمكانيات وحدهما طريقا للسعادة أو للزواج السعيد؟
لكننا للأسف لا نتعلم
الحكمة أحيانا إلا بعد أن نؤدي للحياة ضريبة الألم. وقد جنيتم خلال ذلك على إنسان
بريء سعى إلى سعادته بالطريقة المألوفة .. فتجرع تعاسة أن يعاشر من لا تحبه ..
ودفع ثمن تجاهل أبيك لارتباطك العاطفي المتين بفتى أحلامك.. إنها محنة قاسية ..
ومن نكد الدنيا أن البعض قد يطئون أحيانا بعض الضحايا فى سبيل الوصول إلى حقهم
المشروع فى السعادة .. لكنى لا ألومك فى ذلك بل ولا ألوم أباك وحده .. وإنما ألوم
أوضاعا كثيرة متشابكة فى حياتنا تجعل مقاييس الزواج فى كثير من الأحيان ظالمة
لأحلام الشباب ومثيرة لإحباطهم ولقد ذكرتني رسالتك هذه برسالة مريرة كتبها إلى شاب
تعليقا على مشكلة العريس الجاهز الذى يسطو غالبا على فتاة أحلام شاب ما زال يمشى
على الطريق الطويل لكى يبنى عش أحلامه مع فتاته.
فقال لى فى رسالته .. إننا
جيل محكوم عليه بالحرمان ممن يحب .. لأنه عاجز غالبا عن توفير إمكانيات الزواج
وخاصة الشقة قبل عشر أو خمسة عشرة سنة من تخرجه لذلك يسطو الجيل السابق له على
فتيات أحلامه .. أما نحن فليس أمامنا سوى أن نسير فى الطريق الطويل حتى نصبح
قادرين على الزواج .. ثم نسطو نحن بدورنا على فتيات أحلام الجيل الذى يلينا!!
وهكذا تدور عجلة التعاسة ..
لتطحن آخرين وآخرين ، ولأن القضية كبيرة فلن أطيل فيها لكنى سأقول لك فقط إن
السعادة هدف يستحق المعاناة من اجل الوصول إليه وان الإمكانيات المادية ليست وحدها
فعلا طريق السعادة وانه رغم ان التكافؤ العلمى مطلوب للنجاح فى الزواج فان مقاييسه
لا يمكن تطبيقها بحدة فى كل الحالات .. لأن هناك اعتبارات أخرى لابد من مراعاتها
منها أن الفروق ضيقة جدا بين الشهادة الجامعية والشهادة المتوسطة .. وان الفكرة
القديمة عن زواج الجامعية من غير الجامعي ليست صحيحة .. لأن الكل غالبا فى الضحالة
سواء لذلك فان عامل الارتباط العاطفي هنا أكثر أهمية .. وكلماتك الفريدة خير دليل
على ذلك .
فالشقة الضيقة فى الحي
الشعبي .. قد أصبحت قصرا فاخرا .. لأنها مفروشة بالحب!
وأعمال البيت التى كانت
مرهقة .. قد أصبحت أنغاما موسيقية تعزفينها على وتر السعادة..
.ومشاكل الحياة وارتفاع
الأسعار قد أصبحت موضوعات مسلية للدردشة والفضفضة وليست سببا للنكد والشجار ..
والطهي الذى كنت تكرهينه
أصبح هواية جميلة تخشين من نتائجها على وزنك !!
ولا غرابة فى ذلك يا سيدتى
.. لأن رائحة الحب فواحة لا تحجبها أبدا مصاعب الحياة .. وقد فاحت عبيرا أخاذا من
سطور رسالتك..
تماما كما إن رائحة التعاسة
ثقيلة ولا تحجبها معطرات الجو مهما حاولت إخفاءها !!
فهنيئا لكما سعادتكما ..
ولتعوض الحياة زوجك الأول عن تجربته المريرة بمن تحمل له كل او بعض هذا الحب الآسر!!
راجعها وأعدها للنشر / نيفين علي
برجاء عدم النسخ احتراما لمجهود فريق العمل في المدونة وكل من ينسخ يعرض صفحته للحذف بموجب حقوق النشر