الصمت النبيل .. رسالة من بريد الجمعة عام 2000
لا يعيب الإنسان أن يغدر به الآخرون أو يتنكروا له أو يخذلوه .. وإنما يعيبه أن يقبل الخنا على نفسه أو يتغاضى عنه طلبا للسلامة .
عبد الوهاب مطاوع
أنا رجل في السابعة
والأربعين من عمري .. أقيم في مدينة كبيرة من مدن الأقاليم.. نشأت في أسرة
بسيطة متدينة.. وتشربت منها النفور من الحرام في الفعل والقول والإشارة..
وأنهيت تعليمي وعملت بإحدى الهيئات بمدينتي وساهمت مع أبي في إعداد صغري شقيقاتي
للزواج بعد أن ضعفت موارده في شيخوخته, وشعرت بالرضا عن نفسي لإعانتي لأبي في
تلك المشكلة التي أقضت مضجعة.. ونعمت برضاه ودعواته الصالحة لي ودعوات شقيقتي الصغرى
لي بالستر في الدنيا والآخرة كما سترتها أمام أسرة زوجها.. ودعوات أمي الطيبة
كذلك, وبسبب استدانتي لمساعدة شقيقتي ظللت 4 سنوات بعد عملي أعيش في تقشف شديد
وأحرم نفسي مما يستمتع به الشباب في مثل سني لكي أسدد أقساط الديون والجمعيات ولم
أندم يوما علي ذلك.. بل إنني كثيرا ما شعرت بالاعتزاز وأمي تقول لي إنني ولدت
رجلا من البداية.. وتصرفت دائما تصرف الرجال حتى وأنا طفل صغير.. ولسوف أظل
دائما رجل البيت إلي النهاية, ورحل أبي عن الحياة بعد عملي بخمس سنوات داعيا لي
بالستر والصحة وطول العمر.. واحتضنت أمي بعد رحيله وخففت عنها أحزانها ووحدتها
وأصبحت أبا لشقيقاتي المتزوجات حتى لمن يكبرنني منهن في السن.. وحرصت علي أن يظل
بيت أبي مفتوحا لهن يجدن فيه راحتهن.. ويجتمعن مع أبنائهن في الإجازات والأعياد, ونستمتع بالجو العائلي والحب
الصادق الذي يجمع بيننا, وفي هذه الجلسات العائلية واصلت شقيقاتي وأمي إلحاحهن
علي بالزواج وراحت كل منهن ترشح لي فتاة تراها مناسبة لي, إلي أن استقر الاختيار
علي فتاة شهد لها الجميع بالأخلاق والالتزام الديني والاحترام, ورفضت ان أتزوج
في مسكن أمي لكي يظل بيتها مفتوحا لشقيقاتي, ونجحت في الحصول علي شقة بالإيجار
قريبة من بيت الأسرة.
وبدأت حياتي الزوجية مع
زوجتي وكانت أول امرأة في حياتي فأحببتها بإخلاص وحرصت علي إسعادها وراحتها..
وأصبح يومي يبدأ في الصباح المبكر بتناول الإفطار مع زوجتي ثم نخرج معا فتذهب هي
إلى عملها.. وأذهب أنا إلي بيت أمي القريب لأحظى برؤية وجهها السمح.. وأفتتح
يومي بدعائها الصالح لي, فأجدها جالسة علي الكنبة القديمة في صالة الشقة وقد
نهضت من نومها في الفجر, واغتسلت وأدت صلاتها الطويلة وتلت أدعيتها المحفوظة
لأبنائها ودعت لزوجها وأبويها بالرحمة والمغفرة وتناولت كسرة من الخبز مع بعض
الجبن.. وانتظرت قدومي لأشرب معها القهوة فما أن أفتح الباب بالمفتاح الذي احتفظ
به حتى تتهلل لرؤيتي وتستقبلني بابتسامة الترحيب وتشعل موقد الكحول تحت كنكة
القهوة المعدة سلفا.. وأجلس إلي جانبها.. وأسألها عن صحتها وأحوالها واستمتع
بشرب القهوة والحديث معها لمدة نصف الساعة ثم اقبل جبينها ويدها وانصرف إلي عملي
وأنا منعم بإحساس التفاؤل والابتهاج.
وهكذا كل يوم طوال الأعوام
الماضية.. لم يغير من عادتي إلا بعض الظروف الطارئة كإنجاب زوجتي لطفلتنا الأولي
ثم الثانية.. أو سفري إلي خارج المدينة في عمل.
وأما زوجتي فقد أحبت أمي
وشقيقاتي كما أحبهن.. وغبطتني علي علاقة الحب الصادق التي تجمع بيننا.. وأسفت
كثيرا لأنها لم تستمتع بمثل هذه العلاقة العائلية الدافئة.. حيث ساد التباعد
والفتور علاقات أخوتها ببعضهم البعض وعلاقاتهم بأبويهم ومضت بنا الأيام وأنا سعيد
بحياتي وزوجتي وأسرتي وتقدمت الابنتان في مراحل العمر والدراسة.. ولم تشهد علاقتي بزوجتي أية مشاكل
حقيقية.. ولم يتجاوز أي خلاف عابر بيني وبينها حدود الخلافات العادية التي تحدث
بين الأزواج والزوجات, وسرعان ما تجد حلها خلال ساعات أو أيام علي الأكثر,
وكثيرا ما كنت أنا الباديء بالصلح حتى ولو لم أكن مخطئا لحبي لها ولكرهي للجفاء
والخصام بصفة عامة.. وفي كل مناسبة أشيد بزوجتي ورعايتها لابنتيها ولي, وفي كل
حين تشيد هي بي, وبحسن معاملتي لها وحناني معها وحرصي علي بيتي وبناتي, وتفسر
ذلك بنشأتي في بيت متراحم متحاب على عكس نشأتها هي في بيت تسوده الخلافات الحادة
بين الأبوين.
وتحسنت أحوالنا المادية إلى
حد كبير خلال رحلة العمر.. فازداد دخلي وارتفع مرتبها وبدأنا ندخر القليل
لمواجهة نفقات بنتينا الطارئة ومدرستيهما وزواجهما في المستقبل.. وأصبحت حياتنا
أنشودة من الحب والتعاون والتفاهم الزوجي.. وظل الحال على هذا النحو حتى بدأت
ألاحظ علي زوجتي منذ حوالي عام بعض التغيرات في شخصيتها وتصرفاتها, وكانت
البداية أن لاحظت اهتمامها الزائد بنفسها.. كما لاحظت أيضا أنها قد بدأت تتخفف
من بعض احتشامها المعتاد كما بدأت تضع الماكياج الخفيف عند خروجها ولم تكن تستعمله
من قبل إلا في البيت.. وأخيرا بدأت ألاحظ جفاءها العاطفي معي وتهربها مني
وسرحانها الطويل والتزامها الصمت معظم فترات وجودها بالبيت.. وفي جلستها
الصباحية مع أمي شكوت لها من تغير أحوال زوجتي معي فخففت عني ونصحتني بزيادة
الاهتمام بها وتخصيص وقت أكبر لها.. وفعلت ما نصحتني به.. ولم يتغير الحال إلا
قليلا وعلمت أن أمي قد استدعتها ونصحتها بالاهتمام بي ووعدتها زوجتي خيرا.
وكان قد لفت نظري كذلك أنها
قد أصبحت تذهب إلى العمل مبكرة عن موعده الطبيعي بحوالي الساعة ولم تعد تنتظرني
لكي نخرج معا كما كنا نفعل من قبل .. فقررت ولا أدري لماذا أن أراقبها ذات يوم
لأعرف إلى أين تذهب في هذا الوقت المبكر وتتبعتها عن بعد فوجدتها تتجه إلى عملها.. ولم تكن الساعة قد جاوزت السابعة
صباحا, وتبعتها إلى العمل فوجدت بابه مفتوحا ودخلت الإدارة التي تعمل بها فلم
أجد أحدا. وفتحت مكتب مدير الإدارة لعلي أجد الساعي يقوم بتنظيفه وأسأله عن
زوجتي فإذا بي أراها مع مدير الإدارة في موقف غرامي يتبادلان فيه فيما يبدو تحية
الصباح بالقبلات !
ولا أدري كم لحظة مرت علي
وأنا ذاهل عن كل ما حولي.. ولأنني استوعبت ما حدث فانقضضت عليهما وهما يرجوانني
ألا أسيء فهم ما رأيت, ولولا أن تمالكت نفسي بعض الشيء لحدث ما لا تحمد عقباه ثم
دفعت الخائنة أمامي وغادرت الإدارة ولم يكن قد أتي أحد أو شهد ما شهدته.. وفي
البيت أجلستها أمامي وسألتها سؤالا واحدا هو: لماذا ؟ ماذا فعلت لك لكي تفعلي بي
ذلك.. فيم أسأت إليك لكي تطعنيني هذه الطعنة القاتلة .. لقد عاملتك بالحسنى طوال
زواجنا.. ولم أقصر في حقك يوما ما ولم أخنك.. ولم أر في الدنيا كلها امرأة
سواك.. فلماذا ؟ ولماذا لم تطلبي مني الطلاق إذا كنت لا تحبينني ولا ترغبين في
مواصلة الحياة معي ؟
ولم تجد ما تقوله سوى أنها
مرت بحالة ضعف استغلها مديرها.. واقترب منها فيها فضعفت أمامه, وأنها كانت
تأمل أن تقاوم هذا الضعف وتسترد نفسها وترجع لسابق مسيرتها معي..
واتصلت بوالدتها ودعوتها
للحضور وواجهتها أمامها وألقيت عليها يمين الطلاق وطلبت منها أن تصطحبها إلى بيتها
وتركت لها الفرصة لجمع ملابسها وحمدت الله أن الابنتين كان في مدرستيهما فلم تشهدا
هذا الموقف المخزي.. ورجعت الابنتان من المدرسة فوجدتاني مريضا في الفراش
وحرارتي مرتفعة والعرق يتفصد مني وسألتا عن أمهما فأجبتهما بأنها فاجأتها نوبة مرض
عصيبة ونفسية وتستريح لبعض الوقت في بيت أسرتها وأنهما سوف تذهبان لزيارتها كل يوم
جمعة إلى أن تشفى.
وانقلبت حياتي رأسا على عقب
بعد هذا اليوم.. وظللت مريضا سقيما لا أقوى على مغادرة البيت ثلاثة أيام ولاحظت أمي شرودي وحزني
حين زرتها بعد ذلك وسألتني مرارا عما ألم بي فلم استطع أن أنطق بكلمة واحدة وبعد إلحاح
منها ومن شقيقاتي صارحتهن بأنني قد طلقت زوجتي بسبب تغيرها معي وجفائها لي ولم أزد
على ذلك كلمة أخرى, وبعد ذلك بأيام كررت علي أمي السؤال عن سبب الطلاق فغلبتني
دموعي أمامها وأجبتها بعد أن تمالكت نفسي بعض الشيء.. لأنني رجل يا أمي.. كما
كنت تقولين دائما عني وأريد أن أظل كذلك إلى آخر عمري.
وأنا حائر وحزين ويملؤني
الإحساس بالخذلان وأتساءل عما جنيته في حياتي لكي أواجه مثل هذا الغدر الخسيس وأنا
الذي مات أبي راضيا عني وداعيا لي بالستر والسعادة في الدنيا وكنت ومازلت بارا بأمي وشقيقاتي وتدعو لي أمي كل يوم دعاءها
الصالح.. فلماذا انكشف عني غطاء الستر.. وتجرعت هذه الكأس المرة يا سيدي.
إنني أريد أن أتخطي هذه
المحنة وأواصل حياتي وأؤدي رسالتي مع بنتي فماذا أفعل معهما وهل استجيب لضغطهن علي
لكي أصارحهما بسبب الطلاق الحقيقي.. وهل يمكن أن أبدأ حياة جديدة حقا بعد هذا
الزلزال الذي هد كياني!
ولكاتب هذه الرسالة أقول :
من نكد الدنيا أن يكون الإنسان ضحية لغيره ثم يجد من بين أقرب الناس إليه من يظنون به القسوة على من جنى عليه أو أن يساء إليه أبلغ الإساءة فلا يقدر على التصريح بحقيقة ما تعرض له من أذي ويحاسبه الآخرون علي رد فعله لما يتكتمه هو في صدره حرجا منه أو رعاية لاعتبارات تربوية وإنسانية أهم لديه من اعتباراته الشخصية, وفي كل هذه الأحوال فلسوف يعقل المرء لسانه عن البوح بما يكابده لأنه إن لم يفعل ذلك آذي مشاعره الشخصية قبل أن يؤذي الآخرين وأساء إلي نفسه وأعزائه قبل أن يسيء لمن أخطأ في حقه.. فكأنما يكابد ذلك الظلم المضاعف الذي أشار إليه الشاعر العربي في قوله:ولم أر ظلما مثل ظلم ينالنا
يساء إلينا ثم نؤمر بالشكر
أو بالصمت وكلاهما مر, لكنه لا حيلة لأصحاب النفوس الكبيرة سوى تجرع الصمت في مثل هذه الظروف الشائكة ولا مفر أمامهم من الاعتصام به حفظا للحرمات ورعاية للمشاعر وحرصا على معنويات الأبناء ومثالياتهم.
فواصل التزامك بهذا الصمت
النبيل مع ابنتيك يا صديقي وقل لهما إن من الأسباب المشروعة للطلاق بالرغم من
كراهته استحالة العشرة بين الزوجين فإذا تعذر الإصلاح وفشلت كل الجهود ولم يعد في
طاقة أحدهما أو كليهما مواصلة احتمال الحياة مع الطرف الأخر فلهما أن يتفرقا بلا
ضغينة وبغير أن ينقص ذلك من كفاءة أحدهما أو حرصه على أبنائه مصداقا لقوله تعالي "وإن يتفرقا يغن الله كلا من سعته"
ولقد استحالت العشرة بينك
وبين أمهما ورأيتما بعد طول مجاهدة أن يستقل كل منكما بحياته عن الآخر.. ويواصل
رعايته لأبنائه بغير أن يسيء للطرف الآخر أو يذكره بسوء لديهم. والأيام كفيلة
بعد ذلك بمداواة الجراح وتفهم الأبناء لبعض حقائق الحياة القاسية بغير أن يهتز رمز
الأب أو الأم في مخيلتهما.
فأما الستر الذي تتساءل في
غمار همك بأمرك ورثائك لنفسك, لماذا انكشف عنك وأنت الابن البار لأبويه والأخ
العطوف لشقيقاته.. والزوج المخلص لزوجته فإن تساؤلك المؤلم له ما يبرره بالفعل
وأنت الذي التزمت بمثالياتك الأخلاقية والدينية في الحياة وتوقعت أن تجزيك عنها
الأيام بالسعادة والأمان.. لكن كل إنسان في الوجود معرض للإساءة من الآخرين ولو
كان من الصالحين.. ولقد تعرض الأنبياء جميعهم للتعذيب من أقوامهم وهم دعاة الحق
وهداة البشرية إلي الخير والصلاح.
والخطيئة في النهاية هي عار
المخطيء وليست عار ضحيتها.
وليس يعيب الإنسان أن يغدر
به الآخرون أو يتنكروا له أو يخذلوه وإنما يعيبه أن يقبل الخنا على نفسه أو يتغاضى
عنه طلبا للسلامة.. فارفع رأسك ولا تشعر بالانكسار والهوان لأن من أخلصت لها
العشرة والود لم تحفظ لك الود ولم تبادلك إخلاصا بإخلاص.
وثق في أن تجربتك معها لم
تذهب سدى في النهاية .. فمن عرف من لا يصلحون له فقد عرف بالتالي الصالح المنشود
.. وليس يصمد لاختبارات الحياة القاسية بغير ان ينهار أمامها سوى أصحاب
النفوس الكبيرة مثلك. والمثل البوذي القديم يقول لنا أن العظمة الحقيقية هي في
القدرة علي احتمال المكاره.
ولو راجعت ما جري لك في
محنتك لأدركت ان غطاء الستر لم ينكشف عنك في واقع الأمر على عكس ما يبدو لك,
فلقد اكتشفت ما تعرضت له من غدر في بدايته وقبل أن تفوح رائحته وتزكم الأنوف وتسيء
إلى كرامتك واعتبارك, كما تأكدت من ظنونك بغير أن تنفجر حولك فضيحة مدوية تشعرك
بالانكسار أمام شهودها.. ووقعت الواقعة
المؤلمة في أضيق حدود العلانية ولم يشهدها سواك ولم يعرف بحقيقة الأمر سوي والدة
زوجتك السابقة حين صرحت أنت لها بها وكل ذلك يخفف من الخسائر النفسية والمعنوية,
ويؤكد لك أن دعاء أبويك لك ومثالياتك الأخلاقية والدينية وتعاملك الأمين مع الحياة
لم يذهب هباء والإنسان قادر دائما علي أن يبدأ حياة جديدة في أية مرحلة من العمر
وأكثر الناس استحقاقا للسعادة هم الذين اختبرتهم الحياة بالشقاء واستوفوا كأسهم
المرة منه.
وسن السابعة والأربعين
مناسبة تماما لبدء حياة جديدة لك إذا رغبت في الزواج من جديد بشرط اختيار الزوجة
الملائمة لك في العمر والظروف العائلية والاجتماعية.. وتقبل ابنتيك مع الأيام
للفكرة.. وتشجيعهما لك عليها.. وما أظن إلا أنهما سوف تشفقان عليك من وحدتك
وتقبلان بها بعد حين. والشاعر الألماني شيللر يقول لنا إنه: حين يسقط البناء
ويتغير الزمن تزهر حياة جديدة من بين الحطام.
فلعل ما تستشعر مرارته الآن
يكون بشيرا لك بحياة جديدة تزهر ورودها من بين حطام التعاسة السابقة ولعل الله
سبحانه وتعالي يعوضك عمن تحرص عليك وترع لك حرماتك بمن هي خير منها.
ولاشك في أن حرصك علي ألا
تسيء إلي أم ابنتيك بالرغم من إساءتها لك وترفعك عن التشهير بها لدي ابنتيها والآخرين سيكون شفيعا لك لدي السماء لكي تمسح عنك
أحزانك وترشحك للسعادة الحقيقية في قادم الأيام بإذن الله.
راجعها وأعدها للنشر / نيفين علي
برجاء عدم النسخ احتراما لمجهود فريق العمل في المدونة وكل من ينسخ يعرض صفحته للحذف بموجب حقوق النشر