طاحونة الحياة .. رسالة من بريد الجمعة
أكتب إليك بعد
منتصف الليل وبعد حديث جرى بيني وبين زوجتي أطار النوم من عيني .. وهو ليس حديثا
خاصا بنا وحدنا وإنما بمعظم الأسر في أوساطنا التي كانت تسمى حتى وقت قصير بالطبقة
المتوسطة..
فأنا زوج في منتصف الأربعينيات من العمر أعمل مهندسا ميكانيكيا .. وأعمل من
الساعة السابعة صباحا حتى السادسة مساء لأوفر لقمة العيش الكريمة والحلال لزوجتي
وأبنائي, وأجتهد لأرعى حقوق الله في أسرتي الصغيرة, وعائلتي الكبيرة المفعمة
بالمشاكل, وزوجتي في منتصف الثلاثينيات من العمر وحاصلة على مؤهل عال ولم أرغب
في أن تعمل لاقتناعي الكامل بأن وجود الأم في البيت لا يعادله مال ولا جاه, وهي
أيضا تستيقظ في السادسة صباحا ولا تنام إلا في منتصف الليل.. ويومها الطويل يبدأ
بتجهيز الأطفال للمدرسة ثم إعداد الطعام والبيت للعائدين من العمل والمدرسة, ثم
متابعة دروس الأبناء, فإن بقي بعد ذلك جزء من وقتها فقد يكون للزوج, ونتيجة
لهذه الأعباء التي أحمد الله عليها بالرغم من ذلك لأني أعلم أنها غير متاحة
لكثيرين فإننا لا نكاد نلتقي أنا وزوجتي أبدا لكي نتحدث حديثا خاصا أو نتبادل
الآراء في شئوننا أو نتبادل أية لمسة عاطفية بيننا.
فأنا أرجع إلى
البيت منهك القوى البدنية والذهنية وأحتاج للراحة, فأجد زوجتي تستذكر للأبناء
دروسهم, وحين تنتهي هي من متابعة مذاكرة الأبناء تجدني في سبات عميق بعد يوم شاق
في العمل, حتى يوم الإجازة فهو إما للأبناء وإما الذهاب للعمل لكي استطيع
تغطية نفقات المعيشة, وهذا ليس حالي وحدي وإنما هو أيضا حال أخي المتزوج وأختي
وأصدقائي, حتى الأصدقاء ما عادوا أصدقاء كسابق عهدهم, وكما كنا نرى بين أهلنا
وأصدقائهم فالجميع مشغولون حتى آذانهم في أعباء الحياة.. ولا مجال للزيارات ولا
حتى لتبادل المكالمات التليفونية.
وسؤالي وسؤال زوجتي معي هو كيف نلتقي وسط هذه الدوامة وأين الأحاسيس والمشاعر ..
هل ندعها تموت؟ إننا قد نستطيع أن نأكل رغيفا واحدا بدلا من ثلاثة, لكن كيف نحيى
الروح التي خلقها الله لتعلو وتسمو بالأحاسيس والمشاعر الطيبة.. وكيف نغرس في
أبنائنا مشاعر نفتقدها نحن؟
إنك لو اقتربت من طبقتنا لفزعت من عظم التفكك الأسري داخل الأسرة الواحدة بسبب
انشغال الجميع بأمورهم.
فكيف نعيد الترابط الأسري والمعنوي والحسي الجميل بيننا الذي شاهدته في أبي وعمي
وخالي وأهلنا وأصدقائهم, بالرغم مما كان من ضيق ذات اليد.. وهل هناك أمل في العودة
إلى روعة وجمال وأصالة الزمن الجميل؟
ولكاتب هذه الرسالة أقول:
أنت تثير قضية مهمة بالفعل في حياة الأسرة المصرية والعربية.. وهي انشغال الأبوين بملاطمة الحياة ومواجهة ضغوطها المتعددة إلى الحد الذي يفقدهما أحيانا الروح ويحولهما إلى ترسين يدوران على الدوام دون لحظة توقف أو تأمل, ودون استشعار للملذات الروحية والمعنوية والعاطفية مما ينعكس في النهاية عليهما في جفاف الروح داخل الأسرة.. وانكفاء أفرادها على أنفسهم وشواغلهم دون مساحة مشتركة تجمع بينهم.
إنها مشكلة حقيقية ينبغي التنبه لها.. لكنها ليست مستعصية على الحل بالرغم من
هذه الطاحونة الهادرة.. إذ أن هذه الشواغل الشريفة نفسها إنما هي تعبير من نوع
آخر عن الحب العائلي والمسئولية العائلية.. وان لم يكن بالكلمات, وقيام الزوج
بمسئولياته عن زوجته وأبنائه ونهوض الزوجة بمسئولياتها عن أسرتها هو في حد ذاته
ابلغ تعبير عن الحب وإن بدا للبعض غير ذلك.. وكل المطلوب هو المزيد من تنظيم
الوقت بحيث يتسع للتعبير عن الحب باللفتات العاطفية والإشارات والكلمات..
والتواصل الإنساني مع المحبوب مع إعادة ترتيب الأولويات بحيث يكون للمشاعر مساحتها
الكافية وسط هذه الدوامة.. وفي هذا المجال ينبغي دائما ومهما تكن الأعباء
والشواغل الحرص على قضاء الإجازات مع الزوجة والأسرة.. وتجديد الحياة من حين
لآخر برحلة قصيرة إلى أي مكان.. والاحتفال ولو في أضيق الحدود بالمناسبات
العاطفية كعيد الزواج وأعياد ميلاد الأبناء وذكرى أول لقاء إلخ, والقيام
بالزيارات العائلية وزيارة الأصدقاء في مناسباتهم العائلية والاجتماعية, وتخصيص
وقت كاف للعلاقة الشخصية بين الزوج وزوجته.. والخروج في نزهة من حين لآخر
منفردين, وتبادل الكلمات العاطفية بينهما ولو للحظات كل حين لأننا نحتاج دائما
لأن نذكر من نحبهم بمشاعرنا تجاههم.. ويسعدنا بنفس القدر أن يذكرونا من حين لآخر
بمشاعرهم تجاهنا.
وكل ذلك ليس بمستحيل.. ونحتاج إليه بشدة لكيلا نفقد أرواحنا والقدرة علي التعبير
عن المشاعر الإنسانية..
أما الشواغل العائلية والكفاح الشريف في الحياة لإعالة الزوجة والأبناء وتوفير
الحياة الكريمة لهم.. فهو نوع من الجهاد قال عنه بعض الصالحين إنه أفضل من الغزو
في سبيل الله.. وروي الرواة أن ابن المبارك قد قال لإخوانه وهم في الغزو:
أتعلمون عملا أفضل مما نحن فيه ؟ فقالوا ما نعلم ذلك, قال: أنا أعلم, قالوا
فما هو ؟ فقال: رجل متعفف على فقره ذو عائلة قد قام من الليل فنظر إلى صبيانه
ينامون متكشفين فسترهم وغطاهم بثوبه, فعمله أفضل مما نحن فيه!
وهكذا تفعل أنت وغيرك ممن يسعون في الأرض ليوفروا الحياة الكريمة لأسرهم
وأبنائهم.
وهكذا تفعل أيضا زوجتك وهي تنهض بأعبائها المنزلية الأسرية من السادسة صباحا وحتى
منتصف الليل!
ولابد أن يثمر كفاحكما الشريف ثماره المرجوة ذات يوم قريب.. وتتسع أمامكما أوقات
الفراغ من المسئوليات والأعباء, وتزداد مساحات التلاقي والوصال بينكما بإذن
الله, فاستعن بإرادتك على تنظيم وقتك وإعادة ترتيب أولوياتك.. إلى أن تحقق
أهدافك في الحياة العملية.. وتجني ثمار كفاحك الطويل إن شاء الله.
راجعها وأعدها للنشر / نيفين علي
برجاء عدم النسخ احتراما لمجهود فريق العمل في المدونة وكل من ينسخ يعرض صفحته للحذف بموجب حقوق النشر