القسط الأخير .. رسالة من بريد الجمعة عام 1988

 القسط الأخير .. رسالة من بريد الجمعة عام 1988

القسط الأخير .. رسالة من بريد الجمعة عام 1988

أنا شاب في السادسة والثلاثين من عمري ماتت أمي وأنا طفل في الخامسة من عمري وتركتنا ثلاثة أطفال أكبرنا في السابعة وأصغرنا طفلة في الثالثة في رعاية أبي الموظف بإدارة إحدى الجامعات بالقاهرة وبعد رحيل أمي رفض أبي الزواج واستعان بسيدة كانت تعمل لدينا على رعايتنا في فترة الصباح إلى أن يعود هو من عمله ليتفرغ لنا حتى نأوى إلى فراشنا مكدودين آخر الليل.

 ومضت السنوات وأبي يحنو علينا .. ويتولى شئوننا ويذهب معنا إلى المدرسة ليتابع تعليمنا .. ويسأل جاراتنا العون إذا عجز عن التصرف في بعض شئوننا خاصة شئون شقيقتي حين احتاجتا إلى مشورة السيدات في بعض أمورهما وكان أبي راضيا بقدره وقدرنا رغم ما كان ينتابه أحيانا من مسحة ألم في وقت الأصيل وهو يجلس في الشرفة يسمع بعض الأغاني الحزينة من الراديو وفي جلساته هذه كان يقول لي دائما أنت رجل الأسرة من بعدي الذي سيحمي شقيقتيه من غدر الدنيا .. فكن رجلا وتحمل مسئوليتك .

 

ورغم سني الصغيرة في هذا الوقت فلقد كنت أحس لكلماته معنى غامضا يدفعني لأن أترفع في أحيان كثيرة عن ألعاب الصغار واستشعر المسئولية دائما عن شقيقتي حتى عن الكبرى منهما ورغم تحسري الآن على سنوات طفولتي التي لم أستمتع بها إلا أني أدركت بعد نظر أبي . حين رحل عنا هو الآخر فجأة وأنا في سن الخامسة عشرة ووجدت نفسي كما كان يقول لي دائما "رجل الأسرة ".

وبعد رحيل أبي وانصراف المعزين قرر عمي أن يضمنا إلى بيته لنعيش مع أبنائه وأبلغني بأنه سينقل أوراقنا إلى مدارس قريبة من بيته .. فوجدت نفسي وبغير استشارة أحد أشكره وأرفض دعوته بحزم لأسباب محددة شرحتها له بثبات هي أن شقته ضيقة ولا تتسع لغير أهلها ولأن أبناءه أولاد في سن الشباب .. وليس في الشقة غرفة يمكن تخصيصها للبنات ومن غير المعقول أن ننام جميعا في غرفة واحدة في حين أن في شقتنا غرفة لهما وقلت له أننا اعتدنا على الحياة وحدنا منذ الصغر ولن يصعب علينا استكمال المشوار بنفس الطريقة ، واستمع عمي إلى كلامي وطفرت الدموع من عينيه وقال لى إنه مقتنع بما قلت لكنه يريد أن يسمع رأي شقيقتي فأيدتاني فما قلت .. فتركنا لما أردنا وهو مشفق علينا .. وتفرغ لإنهاء أوراق المعاش حتى تم صرفه وأصبح يأتي إلينا كل شهر حاملا لنا المعاش ويتردد علينا من حين إلى آخر ليطمئن علينا .

 

وعلمتنا الحياة دروسها الجديدة في كل يوم مر بنا .. فتعلمت شقيقتي الكبرى التفصيل عند إحدى جاراتنا لتفصل لنا ملابسنا المنزلية .. ثم فرضت علينا ظروف الحياة بعد قليل أن تفصل لنا ملابس الخروج ، حتى أصبحت تفصل لي قمصاني وبنطلونات وأصبحت واجبات البيت مقسمة بيننا نحن الثلاثة بالعدل .. وأصبحت ميزانية البيت من نصيبي فتحملتها ورغم تجلدنا وصبرنا فلقد كان يحدث أن يختل الميزان ، فنعجز عن سداد فاتورة الكهرباء وكانت أيامها بالقروش وليس بالجنيهات كما هي الآن . فيأتي المحصل فلا يجد نقودا فيترك الفاتورة للسداد خلال 15 يوما فلا تتوافر لنا النقود ، فيأتي العامل لقطع التيار وإعطائنا مهلة لمدة أسبوعين للسداد أو رفع العداد ولأن الحاجة هي أم الاختراع .. فلقد تعلمت أن أواجه كل هذه المواقف بثبات بل وتعلمت أن أقوم بعد قطع التيار وانصراف العامل ، بإعادة التيار بالصعود على سلم إلى مكان ، الكوفریه ، ووضع قطعة سلك جديدة فيه لكيلا نحرم من الإضاءة خلال فترة المهلة .. وتكررت الحكاية مرتين.. وفي الثانية نظر العامل وكان رجلا في الخمسين من عمره إلي وإلى شقيقتي وأدرك الموقف بلمحة فقال لي بأريحية : هذه أيام امتحانات لهذا لن أقطع الكهرباء عنكم .. وسأؤخر رفع العداد قدر استطاعتي لكن حاولوا أن تدفعوا قبل المهلة حتى لا تتحملوا غرامة رفع العداد .. وودعنا مبتسما وشكرناه ولم يقطع التيار عنا بعد ذلك مهما تأخرنا بل كان يأتي لينبهنا إلى قرب انتهاء المهلة لكي ندفع المتأخر علينا .

 

أما الإيجار فلقد كنت أحرص على دفعه كل شهر عندما أتسلم المعاش من عمي .. لكن ذلك لم يمنع من أن أعجز عن دفعه في الموعد المحدد في بعض الحالات الطارئة خاصة حين دخلت شقيقتي معهد التربية البدنية واحتاجت إلى شراء بعض الملابس الرياضية وبعض النفقات ، أو حين دخلت أنا الجامعة وزادت نفقات الكتب والدراسة أو حين احتاجت أختي الصغيرة إلى بعض الدروس وهي في الثانوية العامة . والحق أن صاحب البيت الذي يسكن معنا فيه كان كريما ، إلى أقصى الحدود معنا رغم أنه كان حريصا على إرسال الإيصالات لباقي الشقق أول كل شهر مع البواب .. أما نحن فكان لا يرسل لنا الإيصال حتى أطرق باب شقته وأدفع إليه قيمة الإيجار مها تأخرت في ذلك وتقدمنا في دراستنا الجامعية .. وقبيل تخرجي جاءني شاب مدرس بالمعهد الذي تدرس به شقیقتي بطلب يدها مني ، فاستمهلته حتى أستطلع رأيها ووجدتها ميالة إليه ، فأبلغته بموافقتها وطلبت منه احتراما لعمي أن يخطبها منه ، وصارحته بحالتنا المادية فوجدته يعرف عنا كل شيء واسترحت إليه واتخذته صديقا وتمت الخطبة وتخرجت شقيقتي وعينت مدرسة .. وتخرجت أنا وحصلت على عمل في إحدى المؤسسات بما يشبه المعجزة ووضعنا خطة ثلاثية لتجهيز شقيقتي فخصصت لها ثلث مرتبي وخصصت هي نصف مرتبها للجهاز وبدأنا نشتري ما تحتاج إليه بالتقسيط ، وخلال 3 سنوات تم إعداد كل شيء في حدود طاقتنا . وكان ستر الله علينا عميقا ، كما كان طوال سنوات وحدتنا .. فحافظنا على مظهرنا بغير أن نطلب من أحد شيئا وفرشنا شقة العروس الصغيرة بالأثاث البسيط الجميل الذي اشتريناه .. وعلقنا فيها نسخة من الصورة العائلية الوحيدة التي تجمع بين أبي وأمي وأطفالها الثلاثة .. والتي نعلقها في صالة مسكننا ويوم الزفاف حملنا صاحب البيت في سيارته إلى بيت العريس ، فدخلنا إلى صالة الفرح ، وذراعي في ذراع شقيقتي وهي في فستان الزفاف وشقيقتنا من خلفها ترفع ذيل فستانها حتى اقتربنا من الكوشة فأمسكت بيد أختي ووضعتها على يد عريسها وقلت له : هذه أمانة تسلمتها من أبي وعمري 19 سنة وحافظت عليها .. وأسلمها إليك الآن فأحفظها كما حفظتها وحاول أن تسعدها فهي يتيمة وعانت الكثير في حياتها فدمعت عيناه وقبل يدها وعانقني وقبلني وعاهدني على أن يرعاها ، وانتهت الليلة وعدت مع شقيقتي إلى بيتنا ونحن سعيدان رغم حزننا لفراق أختنا .

 

وصدق زوج شقيقتي في عهده فعاش معها حياة سعيدة هادئة يسودها الحب والتعاطف المتبادل وتقشفنا عامين آخرين حتى انتهى سداد آخر الأقساط ، وتخرجت شقيقتي وعملت أيضا مدرسة وقبل أن التقط أنفاسي جاءني زميل لها يطلب يدها فتكررت نفس القصة بنفس مشاهدها وبدأنا خطة ثلاثية جديدة لتجهيزها وشاركت شقيقتي الكبرى معنا بتشجيع من زوجها في نفقات الجهاز .

وحين أغلق الباب عليها وعلى زوجها تنفست الصعداء صعدت لشقتي ونظرت إلى الصورة العائلية المعلقة في الصالة براحة شديدة كأني أقول لأبوي فيها لقد أديت الأمانة وأن لي أن أستريح ودخلت فراشي سعيدا رغم أني قد أصبحت بعد زفافها وحيدا تماما . واستعدت وأنا في " وسن " النوم كلمات أختي الكبيرة لى ونحن في الفرح : لقد زوجتنا وأنهيت مسئوليتك فكر في الزواج ، وإذا لم تكن قد فكرت في بعض زميلاتك فعندي من زميلاتي أكثر من واحدة تتمناك زوجا لها . وفي اليوم التالي تذكرت کلمات شقيقتي وأنا في مكتبي بالمؤسسة ألمح زميلاتي في المكتب وأتذكر هذه حاولت أن تقترب مني منذ 8 أعوام ولم تجد مني تشجيعا فتزوجت وأنجبت وهذه أعادت نفس المحاولة منذ 4 سنوات وانتهت نفس النهاية .. وهذه عينت منذ عام فقط ولكنها لم تحاول الاقتراب مني أبدا ولعلها مرتبطة بأخر وهذه .. وتلك وساءلت نفسي أين هي من تقبل الانتظار عامين حتى أنتهي من سداد الأقساط ثم ثلاثة أعوام أخرى حتى استعد ماديا .. فتزوج کهلا يودع سن الشباب وقررت أن أدع الأمر للخالق و ألا أشغل بالي بالزواج وتناوبت شقيقتای زیارتی وتنظيف شقتي وإعداد طعام الأسبوع إلي وكلما لمست سعادتهما اطمأن قلبي وأحسست بالراحة تغمر قلبي. ..

ومضت الشهور وكلما اقتربت الأقساط من نهايتها وجدت لدي بعض الجرأة للتفكير في الزواج وفي هذه الأيام وجدت نفسي مهتما بمراقبة تلك الزميلة العازفة عن الاقتراب مني ، فلاحظت عليها البساطة والهدوء والاحترام .. ثم دعاني رئيسي إلى مكتبه ذات يوم وهو رجل فاضل في الخمسين من عمره متدين ومثقف أستريح له وأروي له بعض ظروف حياتي وكثيرا ما عرض علي المساعدة بإقراضي بعض النقود في زواج شقيقتي فرفضت شاكرا ، وبعد حديث قصير نصحني بضرورة الزواج قبل أن يفوتني القطار وقال : بعضهن يريدنك ويرضينك فأين لماحيتك يا صديقي .. إن زميلتك الجديدة مهتمة بأمرك لكنك غارق في ذاتك ولا ترى من حولك فدهشت وصارحته بأنها لم تعرني اهتماما منذ عينت بالعمل ، فصارحني بأنها فتاة جادة وقد تم تحذيرها مني بحجة أنك غارق في مشاكلك ولا تفكر في الزواج فاحترمت نفسها وانتظرت أن تأتي الخطوة الأولى منك وغادرته سعيدا و مذهولا في نفس الوقت وعدت إلى مكتبي ووجدت نفسي أنظر إليها بعين جديدة .. ووجدت نفسي بعد أيام شغوفا بها كأني اكتشف وجودها لأول مرة .. ونشأت بيني وبينها صداقة حميمة وصارحتها بكل ظروف حیاتی وصارحتني أيضا بكل ظروفها وكنت قد أوشكت على سداد القسط الأخير فطلبت منها أن تحدد لي موعدا مع أسرتها لزيارتها فرحبت بذلك سعيدة وذهبت إلى أختي الكبرى وأختي الصغرى وأسررت إليها بالنبأ وحددت لها موعد الزيارة لتصحباني مع زوجيهما وهم كل أسرتي بعد وفاة عمى وهجرة أبنائه وراء العمل والرزق .

 



 أم أنه كان قدرا مقدورا من البداية لكي أمضى العمر كله في عناء متواصل.. وهل محكوم على البعض أن يعيشوا حياتهم كلها في شقاء لقد قرأت في ردك على رسالة منذ فترة تعبيرا يتردد في ذهني كثيرا الآن هو " ما أحلى الراحة بعد العناء ".

 

وكلما تذكرته سألت نفسي وأين هي الراحة يا سيدي لمن كانت حياته عناء في الماضي وستكون كذلك في المستقبل .

.لقد أخفيت نبأ مرضى عن شقيقتي وعن فتاتي .. وموعد قراءة الفاتحة يقترب بعد أيام .. وأجد نفسي في موقف عصيب لا أعرف كيف أتصرف فيه .. أفكر في النكوص وأشفق مما سيصيب فتاتي منه في سمعتها وموقفها و حرجها أمام أسرتها وزملائها لقد عجزت عن التفكير الصائب فماذا تشير على ؟.

 

 

ولكاتب هذه الرسالة أقول :

لن تفعل ذلك بإذن الله لأنك إنسان جاد أمين تحملت المسئولية عن شقيقتيك وأنت في سن الصبا وأديت الأمانة خير الأداء .. ولقد جاء الوقت الآن لكي تؤدي نفس الأمانة عن نفسك .. وعليك أن تؤديها خير الأداء أيضا .. وألا تقصر في حق نفسك باستسلامك لهذه الهواجس المريرة ..

لقد اعتدت أن تكون دائما المضحي من أجل الآخرين .. وبوحي من هذا الإحساس النبيل المرهف تفكر في النكوص عن مشروع الزواج متصورا بذلك أنك تجنب فتاتك الشقاء و تضحي بسعادتك من أجلها .. لكنك هذه المرة بالذات لا تملك حق التضحية .. لأن الأمر لا يتعلق بك وحدك وإنما بإنسانة أخرى رأت فيك عن حق فتى أحلامها وشريك مستقبلها ولا يجوز أن تنفرد في قرارك بشأنها وإنما ينبغي عليك أن تبلغها بأي شيء عادی من شئون الحياة ، فالأمر أهون كثيرا مما تتصور ولا أشك في أنك سوف تجدها أكثر رعاية لك مما تعتقد و تتصور ، فالطيور على أشكالها تقع يا صديقي ونحن كثيرا ما نلتقي في طريق الحياة بأنفسنا فإن قدمنا للحياة الشر والأنانية قابلناهما عند الآخرين في كثير من الأحيان وأنت إنسان أمين ومن العدل أن تكون فتاتك جادة وأمينة مثلك وأكثر فهما للحياة مما تتصور والعارض الصحي الذي تشكو منه ليس في النهاية سوى عارض بسيط يمكن أن يلم بأي إنسان في أي مرحلة من العمر ، وهو عارض رفيق لا يحرم الإنسان من حقه في السعادة والزواج ولا يقف حائلا دون ممارسته لحياته العادية طوال العمر ومن السهل السيطرة عليه ، وترويضه ومصادقته والحياة الزوجية عموما ليست دائما نزهة بحرية في بحيرة البجع .. وإنما هي رفقة عمر في السراء والضراء وفي الصحة وفي المرض وفي الرخاء وفي الشدة ولا يكاد إنسان يخلو من مرض على الأقل في عالمنا الثالث البائس والصحة والمرض من أمر الله وعلينا أن نتقبل دائما ما تأتينا به المقادير .. والرسول الكريم كان يسأل ربه قلبا خاشعا وعلما نافعا ولسانا ذاکرا ثم بدنا على البلاء صابرا ، إذن فلتصبر ولتقبل ما جاءتك به الحياة .. وهو أهون كثيرا من أي بلاء آخر ولست وحدك في ذلك ، فكلنا يؤدي أقساطنا في مواعيدها للحياة ومها اختلفت نوعية الأقساط أو حجمها فهي في النهاية أقساط واجبة السداد وسوف تؤديها سواء تقبلنا ذلك وصبرنا عليه أو رفضناه وأنكرناه .

 

فثق بالله وبنفسك وانظر لما حققته في حياتك من أداء الواجب الإنساني لترضى عن نفسك وتعرف أن من حقك فعلا أن تسعد وأن تستريح بعد العناء وأن ما حدث لن يغير من قدرتك على الاستمتاع بالراحة بعد المشوار الطويل ولا يجوز أن يحرم فتاتك منك ، فأنت هدية الحياة لها وهي هدية قيمة حقا فلماذا تريد أن تبخل بها عليها وأنت القادر على العطاء دائما ؟..!

 ·       نشرت في جريدة الأهرام "باب بريد الجمعة" عام 1988

شارك في إعداد النص / محمد عايدين

راجعها وأعدها للنشر / نيفين علي


Neveen Ali
Neveen Ali
كل ما تقدمه يعود إليك فاملأ كأسك اليوم بما تريد أن تشربه غداً
تعليقات