نظرة الاحتقار .. رسالة من بريد الجمعة عام 1992

 

نظرة الاحتقار .. رسالة من بريد الجمعة عام 1992

نظرة الاحتقار .. رسالة من بريد الجمعة عام 1992


أرجو ألا تتصور أني اروي لك قصة فيلم قديم .. فإن ما أرويه لك هو الواقع الذي أعيشه ، والذي يتكرر كثيرا في صور مختلفة.

 فأنا فتاة في الثامنة والعشرين من عمري ، منذ سنوات كنت طالبة في كليتي المرموقة ، وعندما وصلت إلى السنوات النهائية فيها تقدم لى خطاب كثيرون ، فكان أبي يلتقي بهم ويسمع منهم ويتحرى عن إمكاناتهم المادية ، ثم يعدهم بالاتصال بهم بعد انتهائي من الدراسة ، ولم يكن دافع أبي إلى ذلك هو الحرص على تفرغي للدراسة ، وإنما انتظار العريس الأفضل والأقدر ماديا . فأنا من أسرة مكافحة ولم يكن أبی قادرا على مساعدتي في تكاليف الزواج ولا أمل له إلا في زوج يعفيه من كل مسئولية مادية . وكنت مقتنعة بذلك أيضا . لكن حدث ما غير بعض أفکاري، فلقد تعرفت على شاب وسيم مهذب لفت نظري فيه أنه سعى للتعرف علي بجرأة وأدب في نفس الوقت ، وعرفت منه أنه يعمل محاسبا ، وتحدثت معه عدة مرات في إطار الكلية ثم أبدى رغبته في أن يرتبط بي فرحبت به وشجعته على التقدم لأبي .

 

 ورحب به أبي كثيرا وأعطاه "كلمة شرف" أن تتم خطبتنا بعد عام عقب تخرجي، واتفق معه على المهر والشبكة وكل تفاصيل الزواج بها فيها أننا سنتزوج في مدينة أخرى غير المدينة التي تقيم فيها أسرتي ، وصارحه أبي بأنه لا يملك شيئا يساعدني به في إعداد الجهاز . فازداد تمسكه بي على عكس ما يفعل بعض الشباب الآن حين يصدمون بعجز أسرة الفتاة عن المشاركة في الأعباء .

وقضينا الفترة الباقية على دخولي الامتحان بغير أي خطوة رسمية اعتمادا على كلمة أبي للمحاسب الشاب . وفي هذه الأثناء تسلل حبه إلى قلبی رغم تباعد فترات لقائنا وانشغلت به وأسعدني أن الجميع يشيدون بخلقه وأصله الطيب . ومع أنه كأي شاب كان يأمل في مساعدة أبي له في أثاث الشقة إلا أنه تقبل الأمر الواقع بسماحة حين تأكد له عجز أبي عن ذلك ، وقال إن الأثاث ، مهما كان ثمنه لا يعمر البيوت .. وإنما يعمرها الوفاق والإخلاص ، واتفق مع أبي على أن يقوم هو بالتأثيث في حدود إمكاناته على أن نستكمل حياتنا فيما بعد. ومضى عام على الانتظار وهو يعد الأيام على قرب موعد الخطبة ، وفجأة تقدم لي طبيب ثرى من أسرة ميسورة طالبا يدي ، ورحب به أبي بشدة ولم يشر معه إلى مشروع الخطبة المتفق عليها ، وبدأ يقارن بين مميزاته ومميزات المحاسب الشاب فيجده يرجحه في كل شيء بلا منافسة ، فهو سوف يعفيه أيضا من المشاركة في الجهاز لكنه سيؤثث بيت الزوجية بما يتفق مع إمكاناته المادية التي لا تقارن بها إمكانات المحاسب الشاب ، وهو طبيب دخله كبير وله إيراد خارجی وأسرته میسورة ، كما أنه من أهل المدينة التي نقيم فيها وبالتالي فسوف يكون عش الزوجية بالقرب من أسرتي وليس في مدينة أخرى .

 

وبعد تفكير قصير وضغط هین بسيط من أبي وأمي وجدت نفسي بعد قليل أؤيد رأيهما وأقبل الطبيب بل "وأفرح به" .. ولا تسألني .. وماذا عن الحب الذي تسلل إلى قلبي تجاه المحاسب لأنني تنكرت لهذا الحب في غمار فرحتي بالإمكانات المادية والأسرة الكبيرة والجهاز الفاخر بل وفي غمار سعادتی بإثارة حسد وغيرة زميلاتي منى حين أفوز بهذه الزيجة الممتازة .. وبقيت مشكلة "كلمة شرف"  التي ارتبط بها أبي مع المحاسب وقد تخلص منها بغير عناء كبير بأن طالبه بمهر وشبكة أكبر مما اتفقا عليه وما يقدر عليه بكثير ، وتمسك بمطلبه فأدرك الشاب نية الغدر وأحس بانقلابنا عليه دون سبب مفهوم فغادر بيتنا محسورا وأنا أسمعه يردد "حسبي الله ونعم الوكيل" بصوت عال أرادني أن أسمعه ، ولم أتوقف عند ذلك بل شغلت عنه بالشبكة الذهبية الثمينة التي أهداها لي خطيبي الجديد وتفاخرت بها أمام زميلاتي وأثرت حقدهن مع أني لم أرتد ذهبا في حياتي قبل ذلك ، وتمت الخطبة وجرى إعداد الأثاث الفاخر والزواج سريعا وسعد الجميع ماعدا الخطيب المغدور به وفاز أبي بالإعفاء الكامل من مسئولية زواجي وفزت أنا بالشبكة والمهر والأثاث الفاخر والشقة اللائقة ، وفاز زوجي بالفتاة الجميلة التي أرادها لنفسه.

 

 وانتقلت إلى عش الزوجية ونسيت تماما مشروع خطبتي الأولى ، وبدأت شهور الزواج الأولى في قمة السعادة ، ثم ظهرت بوادر الحمل علي لكنه لم يتم للأسف لأني تعرضت لعارض صحي بسيط أدى لنزول الجنين وتجاوزنا الأزمة نفسيا بعد فترة قصيرة

.. وأملنا أن نعوض ما فقدناه سريعا لكن الحمل لم يثبت مرة ثانية رغم كل المحاولات، وحاول زوجي علاجي بكل الوسائل الممكنة فلم أفز بالحمل وإنما تأكد من أنني لن أحمل مرة أخرى فبدأت معاملته لي تتغير .. وبدأت المشاكل بيننا حتى وصلت إلى حد الضرب والإهانة ، وراح يعايرني بأنني عاقر ويهددنی من حين لآخر بالطلاق ، وبأنه يستطيع أن يتزوج غيري في أية لحظة ، وبلغ الأمر بأسرته أن كاد بعض أفرادها يعتدون بالضرب على أبي حين تدخل للدفاع عنى في أحد خلافاتنا ، وتكشفت إلي السعادة التي حلمت بها عن بيت صامت بارد موحش .. لا مكان فيه لدفء الأنس والعاطفة والعشرة الطيبة ولا مكان لراحة البال والإحساس بالأمان والاطمئنان للغد فيه ، وأصبحت أرى قطع الأثاث الكبيرة الثمينة وكأنها أشباح تخيفني وتقض مضجعي وتذكرني بخيبتي وتعاستي ، حتى أصبحت أقضي في بيت أبي البسيط من الزمن أكثر مما أقضيه في بيت الزوجية الذي حلمت به .

 

فنحن في خلافات ونزاعات دائمة .. وكلما استقررت في مسکنی أسبوعين أو ثلاثة سمعت من الأشياء الصبيانية شيئا جديدا عن خيانة زوجي فأواجهه بما سمعت وينفجر الخلاف بيننا وأغادر البيت وهكذا ، ومضت على هذا الحال ست سنوات .



 


 وشكرا لك.


ولكاتبة هذه الرسالة أقول :

 لن أقسو عليك يا سيدتي لأنك قد عرفت فعلا بتجربة الألم كل ما كنت أريد أن أقوله لك ، فأدركت قيمة ما عبر عنه بفطرته السليمة خطيبك السابق من أن البيوت لا تبنى بالمتاع الفاخر أو الشبكة الثمينة .. وإنما تبنى بما هو أهم وأبقى كالوفاق والإخلاص والرغبة الصادقة في مشاركة إنسان أفراح الحياة وأحزانها ، وعرفت أن السعادة الحقيقية لا ينالها الإنسان صافية إذا اهتدى إليها ببوصلة الحسابات المادية وحدها أو إذا كان دافعه إليها إغاظة الآخرين وإثارة أحقادهم أو إذا وطأ في طريقه إليها قلوب الآخرين .. وعرفت الكثير والكثير ، لكن هناك شيئا واحدا يبدو لي أنك لم تعرفيه حق معرفته بعد وهو أنك لم تحمل حبا حقيقيا لخطيبك السابق وإنما خيل إليك أو توهمت أنك قد أحببته ، لأنك لو كنت قد عرفت الحب حقا معه لما غدرت به بهذه السهولة العجيبة .. ولما ضحيت به أبدا على مذبح الأشياء الصغيرة التي لا قيمة لها ولا أثر في السعادة الحقيقية ، كما فعلت أنت مع خطيبك السابق.

 

 وعلى أية حال فإن ما يعنينا الآن هو تعاستك الحالية ومستقبل علاقتك الزوجية ، وفي رأيي أنه لا معنى أبدا للمعاناة ومكابدة الآلام حتى نهاية العمر .. إذا لم يكن للاحتمال هدف نبيل يبرر للإنسان مقاساة ما يعانيه .. وليس من بين أهداف الحياة هدف واحد يمكن قبوله لتبرير شقاء الإنسان سوى حرصه على سعادة الأبناء فإذا كانت حياتك خالية من هذا المبرر النبيل .. فبأي هدف آخر يمكن تبرير هذه الحياة القلقة المضطربة التي لا تعرف السعادة ولا الأمان !.

إن هناك نوعا من العلاقة العاطفية يسميه علماء النفس علاقة "الحب – الكره" وهي علاقة معقدة تجتمع فيها أحيانا مشاعر الحب والكراهية معا في قلب إنسان تجاه إنسان آخر يحبه وينقم عليه بعض الأشياء والتصرفات ، ولا يستطيع الابتعاد عنه أو نزع حبه من قلبه ، ولا يستطيع في نفس الوقت التخلص من مشاعر الكراهية له بسبب ما ينقمه عليه من أعمال وتصرفات ، وهذه العلاقة قائمة بين كثيرين وإن لم يتنبهوا لحقيقتها ..

 

وكل ما أخشاه هو أن تكون علاقة كل منکما بالآخر من هذا النوع المعقد من العلاقات، ولهذا فأنت مطالبة أولا أن تتعرفي على حقيقة مشاعرك تجاه زوجك وأن تحددي بأمانة مع النفس على ضوئها رغباتك الحقيقية في الاستمرار معه مع ما يحمله لك ذلك من نذر استمرار المعاناة، أو في بتر هذه العلاقة وطي صفحتها مع ما يحمله لك ذلك من خيبة أمل ووحدة لبعض الوقت ، وحين تتوصلين مع نفسك إلى تحديد حقيقة المشاعر والرغبات فسوف تستطيعين تحديد الطريق الذي تسيرين فيه بلا ندم لأنك ستختارينه بملء إرادتك وبعد أن اكتسبت خبرة ثمينة بالحياة وبالأشياء والأهداف التي تستحق المعاناة من أجلها وتلك التي لا تساوی لحظة معاناة واحدة من عمر الإنسان ، ولو سألتني عن رأي في علاقتك بزوجك لقلت لك على ضوء ما قرأت من تفاصيل أخرى في رسالتك أنها ليست زواجا بقدر ما هي طلاق مؤجل ، فزوجك لن يتوقف فيما يبدو لي عن تصرفاته الصبيانية التي أدت به إلى مجازاته إداريا في عمله .. وأنت لست على استعداد للتغاضي عما يفعل ، والتسليم به كأمر لا حيلة لك فيه ، وعلاقة الاحترام وحسن المعاشرة والاقتناع والتراحم ليست قائمة بينكما .. وبنيان الزواج نفسه ، إلى جانب كل ذلك هش لا تسنده أية دعائم من الرغبة المشتركة في إسعاد الأبناء ، وتيسير رحلة الحياة عليهم ، وسفينتك هائمة تتقاذفها الأمواج باستمرار بين مرفأين هما بيتك وبيت أبيك .

 

 فماذا بقي لكما إذن من علاقة الزواج كما أرادها الله لنا ؟ يا سيدتي إذا كان الانفصال قدرا مؤجلا .. فالأفضل أن يتم وأنت في سن الشباب ، والحياة ممتدة أمامك لتعويض ما نلت من شقاء ومعاناة ، وفرصة أكبر للالتقاء بمن توافقه ظروفك ويأنس إليك وتأنسين إليه لكن بشرط واحد هو ألا تحاولي من قريب أو بعيد إفساد حياة خطيبك السابق أو التأثير على استقراره أو البحث عن حل لشقائك على حساب سعادة أسرته الصغيرة وأمانها ، فلقد انتهت صفحتك معه إلى غير رجعة ولا أمل في إعادتها مرة أخرى وإنما الأمل كل الأمل في أن تتخلصي أنت أولا من ضعفك مع زوجك .. ومن خوفك من المجهول .. ومن عجزك عن تحمل تبعات الاختيار المؤلم بشجاعة .. ولك بعد ذلك أن تنتظري تعويض السماء ومواساتها للتعساء ، وأن تسلمي بأن إطالة العناء لا تعني إلا مزيدا منه وأن تبديد العمر حرصا على بعض متاع الدنيا الذي لا قيمة له أو حرصا على مظهر بیت وأسرة لا وجود لها في الحقيقة لا يعني إلا تبديد الأيام بلا طائل .. وإنما الأحرى بك أن تراجعي الموقف كله بأمانة وموضوعية .. وأن تفكري في قول الشاعر حين قال :

إن كان منزلتي في الحب عندكم

ما قد علمت فقد ضيعت أيامي 

 وأظنك قد "علمت" فما معنى .. إضاعة الأيام ؟

 ·       نشرت في جريدة الأهرام "باب بريد الجمعة" نوفمبرعام 1992

راجعها وأعدها للنشر / نيفين علي

 


Neveen Ali
Neveen Ali
كل ما تقدمه يعود إليك فاملأ كأسك اليوم بما تريد أن تشربه غداً
تعليقات