الاتفاق الصامت .. رسالة من بريد الجمعة عام 1995
النبذ العاطفي من جانب
أحد الأبوين هو أفظع ما يتعرض له بعض الأبناء إذ يتلقى به وجدان الطفل رسالة مؤلمة
ترجمتها على النحو التالي: لا تزعجني بوجودك في الحياة.
عبد الوهاب مطاوع
فكرت منذ فترة
طويلة في الكتابة إليك، إلى أن وقعت في يدي بالمصادفة رسالة قديمة نشرت في هذا
الباب بعنوان "الفراش الخالي"، فتأثرت بقراءتها كثيرا وبكيت بكاء حارا
وتعجبت من أن تكرر الحياة قصتي مرة أخرى مع غيري من البشر ، فأنا أيضا يا سيدي
الفتاة التي تحملت وزر أبيها في نظر أمها ودفعت من أجل ذلك ثمنا باهظا من سعادتها.
فقد نشأت في
بيت آيل للسقوط ليس من الناحية المعمارية وإنما من الناحية الأسرية والإنسانية..
ووجدت نفسي أحيا بين أبوين متعلمين ويشغلان وظائف مرموقة، ويتبادلان البغض والكراهية بدلا من
المودة والرحمة، وكانت أمي تعطف على شقيقي الأكبر وتخصه بحبها وتدليلها، وكان أبي
يعطف علي ويدللني ولا يرفض لي طلبا، فما إن يخرج من البيت حتى تنفجر أمی وتنفس في
أنا كل مشاعرها العدائية تجاه أبي و تسبني وتنعتني بالكذب والتمثيل مثل عمتي !
وتهددني بالويل والثبور إذا شكوت لأبي أو أبلغته بشيء مما تقوله لي، وحين بلغت السادسة من عمری کنا قد
أصبحنا أربعة أبناء، وانضمت إلى قائمة السعداء المفضلين عند أمي أخت تصغرني وأخ
أخر أصغر، بالإضافة إلى الأخ الأكبر المميز منذ البداية، أما أنا فبقيت المنبوذة
والمكروهة من أمی بلا سبب واضح في ذهني كطفلة سوى أن أبي يحبني ويعطف علي ويدللني
وكأنه كان يستشعر نفور أمي مني ويحاول أن يعوضني بحبه عنه .
ولم يمض وقت
قليل حتى انهار البيت الآيل للسقوط منذ البداية، ووقع الطلاق ورحل أبي عن مسكننا
وعن مدينتنا أيضا إلى مكان آخر غير معلوم بالنسبة لي ، وبرحيله أدركت فيما بعد أنه
قد رحلت معه آخر حقوقي کابنة لم تبلغ العاشرة بعد من عمرها، فلقد راحت أمي تخصني
وحدي دون كل إخوتي بالشاق والمضني من أعمال البيت، وأصبح من حق أخي الأكبر أن
يجعلني في خدمته في أي وقت من الليل أو النهار وسواء أكنت نائمة أم مستيقظة، وإذا اعترضت
على ذلك أو تشکیت انهال علي ضربا وركلا وسبا وأمی تنظر إلينا في هدوء دون أن تردعه
أو تحميني منه .
وإذا مرضت فلا
عطف ولا حنان من جانب أمي وشقيقي.. بل ولا بأس أيضا بالتهكم علي واتهامی بادعاء
المرض لأنني قد ورثت الكذب والتمثيل من عمتي .. أما بين صديقاتي فلا تناديني
أمامهن إلا بیا بنت ....
وأذكر أنني قد
مرضت ذات يوم بالتهاب شديد في اللوزتين وارتفعت حرارتي و تورم جانب من وجهي، ومع
ذلك فقد طلب مني شقيقي أن أغسل له حذاءه الرياضي فرفضت وقلت إنني مريضة، فانهال علي
ضربا بالخرطوم وأنا أبكي وأتوجع وأستعطفه بلا فائدة حتى تحاملت على نفسي وغسلت
حذاءه الرياضي، وأمي جالسة تتفرج ولا تتدخل ولا تتكلم .
وجاءت إحدى
الجارات لزيارتنا وأنا مازلت أبکي فسألت أمي عما يبكيني، فأجابتها ساخرة كالعادة :
لا شيء سوى أنها مدمنة كذب وتمثيل كعمتها ! فلم أتمالك نفسي ووجدتني أنفجر في أمي
بعد طول صبر وأمسك بكفها وأضعها على وجهي لتجس حرارتی وأقول لها : نعم أنا كاذبة
وممثلة كعمتي .. لكن كيف يرفع التمثيل حرارتي ویورم وجهي هكذا ! ثم غبت عن الوعي،
لا أدري هل من شدة الانفعال.. أم من شدة الحمى والضعف ؟ وكان آخر ما سمعت قبل أن
أفقد الوعي هو صوت جارتنا وهي تقول لأمي بصوت باك : حرام عليك إنها ابنتك .. ما
ذنبها؟!. إلخ.
ولم تجد أمي
مفرا من اصطحابي إلى مستشفى عام لعلاجي، وليس إلى طبيب خاص في عيادة کما تفعل مع
إخوتي، ومع ذلك فلم يحدث مرة أن أعطتني الدواء الذي وصفه لي طبيب المستشفى، وإنما
كنت أنا
ابنة العاشرة من عمري التي
أتناوله في مواعيده بانتظام لأني إن لم أفعل فلن يهتم بأمري أحد، ومع استمراري في
نفس الوقت في أعمال السخرة المنزلية لأن أختي الصغرى رفضت أن تقوم بنصيبي في أعمال
البيت خلال فترة مرضي .
ومضت بنا
الأيام واستقر وضعي على هذا النحو فنشأ أختي وأخی الصغيران على معاملتي أيضا
كخادمة للأسرة، ولا غرابة في ذلك فأنا الوحيدة من بينهم التي تقوم بمعظم الأعمال
المنزلية ولا يحق لها شراء أية ملابس جديدة، وإنما ترتدي ملابس أمها المستهلكة أو
ملابس ابنة خالتها القديمة حتى أصبح مظهری کمظهر شغالة صغيرة بين ثلاثة أبناء
أصحاء مدللين ويرتدون الجديد والغالي من الثياب !
أما أبي فلم
يظهر في حياتنا مرة أخرى إلا بعد سنوات و حين بلغت الرابعة عشرة من عمري، وقد تألم
كثيرا لمظهري وحالتي الصحية وسألني : لماذا لا تهتمين بنفسك كما تفعل الفتيات في
مثل سنك ؟ واحتضنني بحنان فشعرت بإنسانيتی وبكيت حتى ارتویت، وحدثنی برفق عن
التغيرات الفسيولوجية التي تحدث للفتاة في مثل عمری، والتي لم تحدثني عنها أمي،
ولا اهتمت بذلك فتركتني فريسة للخوف والقلق بسببها، وحدثني عن ضرورة اهتمام الفتاة
في مثل عمري بمظهرها وبما يتلاءم مع سنها.. ونفذت نصائح أبي الغالية في سرية وفي حدود المتاح لي حتى لا
أتعرض لسخرية أمي التي لا تنفك أن تقول لى أمام الجميع إن الله قد حرمني من كل
الصفات الجميلة في الشكل والجوهر ووهبها لأختي الصغرى . ومع أن كل زميلاتي كن
يشهدن لى بأني أجمل منها، ولم يظهر أبي بعد ذلك في حياتنا سوى 4 أو 5 مرات، كنت
أتعرض بعد كل مرة منها لسخط أشد وسوء معاملة أفظع من أمي بلا سبب واضح، وقد استقر
بيني وبينها اتفاق صامت غير مکتوب هو أنني وحدي من بين إخوتي ليس من حقي أن أطلب لنفسي
شيئا، وإذا مرضت فلا ينبغي أن أزعج أحدا بمرضي وتأوهاتي، وإذا نوديت لأداء أي عمل
لأحد من إخوتي فعلي أن أترك ما بیدی من دراسة أو مذاکرة وأهب لتلبية النداء مهما
كان نوعه بما فيه مسح حذاء أخي الأكبر ووضعه تحت قدميه.
وقد علمتني
الحياة يا سيدي أن أتعامل مع واقعی بصبر و كتمان للمشاعر، بل وادعاء عکسها أيضا
عند الضرورة حتى أتجنب المزيد من المتاعب، فلا أفصح عن مشاعري الحقيقية إلا حين
يرجع أبي من سفره لزيارتنا لأيام قليلة وقد حصلت على الثانوية العامة بمجموع كبير
رغم كل شيء.. وكالعادة اختارت لى أمي بالاشتراك مع شقيقي الأكبر الكلية التي ألتحق
بها دون أي تشاور معي ولا عجب في ذلك لأنه ليس لي الحق في إبداء رأيي في أي شيء،
وكانت إحدى الكليات القليلة المتاحة في مدينتنا توفيرا للنفقات .
أما أختي
الصغرى فقد حصلت على الثانوية العامة بعدي بعام واختارت بنفسها دراستها الجامعية،
فكان التحاقها بالجامعة رحمة من السماء لي، لأنه قد أتاح لي أن أرتدي من ورائها
بعض الملابس اللائقة، وظل أملي يتركز في أن أتخرج في كليتي وأن أذهب لأبي لأرتمي
في أحضانه وأقبل يديه وأبلغه بنجاحي وأطلب منه ضمي إليه، ليس لأنه أب عظيم وإنما
لأنه أبي ويحبني.. ويشعرني وهو الأهم بحبه لي، لكن القدر لم يحقق لي هذه الأمنية
الغالية للأسف، وتوفي أبي - رحمه الله - وأنا مازلت طالبة بالجامعة ودون أن أخبره
بالسبب الحقيقي لامتناعي عن مراسلته في البلد الذي كان يعيش فيه، وهو أنني خشيت أن
أطلب عنوانه من أمي فأجدد لديها ذكرى لجريمتي عندها، وهو أنه يحبني فيزداد العقاب
ويتضاعف سوء المعاملة.
ولقد عوقبت على أية حال من أمي
وأخي الأكبر لأني بكيت أبي عند وفاته، وفشلت في إقناعها بأن الابن لا يحتاج إلى
سبب معين لكي يحزن على رحيل أبيه عن الحياة إذ يكفي أنه أبوه، ولولا أنني كنت قد
تعلمت أن ألجم لسانی اتقاء للأذى لذكرت أمي بما فعلت بی طوال السنوات الماضية
وسألتها: هل يدعوني ذلك إلى ألا أحزن عليك إذا رحلت عن الحياة بعد عمر طويل ؟ لکنی
کما قلت لك كنت قد تدربت على اتقاء الأذى فلم أصارحها بما في خاطري، بل واضطررت أيضا
أن أدعي أمامها أنني ما بكيت على أبي إلا من تأثير المفاجأة !
وتعودت بعد ذلك على ألا أبكيه
إلا وحدي، ومع ذلك فلقد فرح أخي الأكبر بميراثه عن أبيه وكذلك فرحت أمي.. وكعادة
أخي الأكبر في الاستهتار، فقد أنفق نصيبه في لا شيء، وعندما أراد أن يبدأ عملا
خاصا به بعد التخرج كان حتما علي أن أتنازل له "راضية" عما يخصني في
الميراث وإلا تنازلت له عنه راغمة ومع مزيد من المشاكل، فآثرت أن أتظاهر بتصديق
حكاية القرض الحسن هذه وأنه سوف يرده لي عند زواجي، وفعلت ذلك حتى أستطيع أن أنهي
دراستي الجامعية بلا مشاكل وما إن أنهيتها حتى توفيت أمي هي الأخرى، ولن تصدقني
إذا قلت لك إنني قد حزنت عليها أيضا وبنفس القدر الذي تألمت به لما أصابني منها
غفر الله لها.
فتركت هذه
المعركة آثارا غائرة في نفسي، ووجدتني أصرخ فيه : ألا تذكر لي يوما واحدا سهرت فيه
بجوارك وأنت تذاكر دروسك أو يوما فرحت فيه بنجاحك؟!.. ألا تذكر لي يوما حرمت نفسي
من شيء أريده لأعطيك وأوفر لك احتياجاتك ؟!
وأقسمت لنفسي
وللجميع أنه لابد سوف يجيء يوم أهجر فيه هذا البيت وأستقل بحياتي عنهما وأشعر
بإنسانیتی وكیاني ولجأت إلى أقاربي شاكية، وأكدت لهم أن صبري قد نفد ولم يعد في طاقتی مزيد ..
وفي هذه الأثناء اختارني رؤسائي في العمل لأمثل محافظتي في دورة تدريبية بإحدى
المحافظات الساحلية تختار لها العناصر المتميزة في اللغة، وقبلت هذه الدورة هربا
من بیتي وحالتي النفسية السيئة بعد ضرب أخي الأصغر لى وأبلغت بها إحدى قريباتي
وأكدت لها أنني سأسافر إليها سواء وافق إخوتي أم اعترضوا.. ووافقوا ربما لإزالة
أثر المعركة الأخيرة عن نفسي ..
وسافرت وأنا
يساورني إحساس غريب بأن هذا السفر سيكون بداية لمرحلة جديدة في حياتي أشعر فيها
بحقوقی كإنسانة ولا يمتهن فيها أحد كرامتي .. ورافقني هذا الإحساس الغريب طوال
رحلتي إلى المدينة الساحلية وخرجت من المحطة ووقفت أنتظر سيارة أجرة لأذهب إلى
العنوان الذي سيقيم فيه المشاركون بالدورة، وجاءت سيارة وقبل أن أركبها سبقني
إليها راكب، لكن سائق السيارة لم يتحرك بها رغم ذلك وإنما سألني عن وجهتي وطلب مني
الركوب معه ليوصلني بعد توصيل الراكب الأول، ونزل الراكب في مقصده، وبدأ سائق
السيارة بحثه عن العنوان الذي أحمله، فطال سيره في شوارع المدينة دون أن نصل إلى
بغيتنا .
وأخيرا قال
إنه يشك في وجود خطأ ما في العنوان الذي احمله وأنه سوف ينزل ليتصل بصديق له
ويتحرى منه العنوان
الصحيح،
واتصل بالصديق بالفعل ورجع إلي مبتهجا، وتوجه إلى العنوان المطلوب، وساعدني في
إنزال الحقيبة وفوجئت به يرفض أن يتقاضى مني أي أجر ويطالبني بأن أعتبره أخا لي في
هذه المدينة يسعده أن يؤدي إلي أية خدمة ولم أستطع إلا أن أشكره، بل ووجدت نفسي
أيضا لا أعترض حين أبلغني أنه سيجيء إلي في الصباح ليحملني بسيارته إلى مقر الدورة
لأني لن أجد طريقي إليه بسهولة .
وفي الصباح
جاء.. وبدأت الدورة وخرجت منها عند الظهر فوجدته في انتظاري، وتكرر ذلك يومين
آخرين، وفي اليوم الثالث صارحني برغبته في أن يتزوجني، ووجدتني أوافق بلا تردد
وأنا أشعر أن الله قد أراد إلي المجيء إلى هذه المدينة في هذا الوقت بالذات لکي
أجده وأجد لديه تعويض السماء لي عن كل معاناتي الأسرية السابقة، وكنت خلال ذلك قد
عرفت أنه شاب طيب ومهذب ويحمل مؤهلا متوسطا، وقد فضل العمل على سيارة الأجرة لأنه
يدر عليه دخلا أفضل من أية وظيفة . وانتهت الدورة وحانت ساعة الرحيل فافترقنا عند
المحطة ودموع كل منا تسيل على وجهه، ورجعت إلى مدينتي وأعلنت للجميع أنني أنتظر
هذا الشاب الذي سيتقدم لخطبتي وأنني سأتزوجه وافق على ذلك إخوتي أو رفضوا ، مع
تحمل لمسئوليتي الكاملة عن اختیاری، فاعترض إخوتي على الفور وفرض أخي علي ضروبا
مشددة من الرقابة، لكني صارحت الكل بأنه بعد وفاة أبي وأمي لن يغضب الله علي لاختلافي
مع إخوتی حول من أتزوجه وأنا في الثامنة والعشرين من عمري و مسئولة عن نفسي ولجأت
إلى أقاربي مرة أخرى وتدخلوا بيني وبينهم، فوافقوا مضطرين مع تحميل مسئولية هذا
الزواج وتخليهم عن مساعدتي فيه .
وكان أخي
الأكبر خارج مصر ولم يكن لدي أمل كبير في مساعدتهم لي في زواجي من البداية فلم آبه
كثيرا بتخليهم عن مساعدتي، ومضيت في طريقي فتمت الخطبة وعقد القران و تحمل خطیبي
كل وسائل التطفيش التي مارسها معه إخوتي بصبر وفهم وتسامح.. حتى إهانة أختي الصغرى
لي وله تحملها وتحملتها لثقتي في صحة اختياري .. وساعدنا والد خطیبي فوفر لنا شقة
صغيرة وبدأنا الاستعداد للزواج وأثثناها بأثاث بسيط؛ لكنه في نظري أفخم من أثاث
القصور.
ولكاتبة هذه الرسالة أقول :
أسوأ ما يفعله
بعض الآباء والأمهات بأبنائهم هو أن يحرموهم من حقهم الإنساني العادل في أن تكون
لهم طفولة سعيدة !.. فكل الآباء والأمهات يستطيعون إذا كانوا حقا من أصحاب الضمائر
والقلوب الحكيمة، أن يهبوا أبناءهم طفولة سعيدة، مهما كانت درجة تعاسة أو
شقاء هؤلاء
الآباء والأمهات في حياتهم الزوجية، ومهما كانت إمكانياتهم المادية وظروفهم
الاجتماعية، فحتى في أسوأ الظروف يستطيع الآباء والأمهات أن يقدموا لأبنائهم الحب
والرعاية والعطف والحماية النفسية، وأن يعينوهم على الاستمتاع بطفولتهم وبراءة
مشاعرهم واكتمال نموهم النفسي بغير أن تفسد عليهم طفولتهم مخاوف الهجر أو النبذ أو
الإحساس الداخلي بالذنب عن وجودهم بين أبوين غير متوافقين .
بل إنه حتى
الآباء والأمهات الذين تضطرهم الظروف القاهرة للفشل كأزواج وزوجات، يستطيعون أن
يكونوا آباء وأمهات ناجحين إلى حد كبير لأبنائهم سواء اجتمعوا تحت سقف واحد أو
تفرقت بهم السبل، إذا التزموا برعاية أبنائهم وأداء حقوقهم عليهم، وجنبوهم مرارة
الاختبار العاطفي بينهم وبين شركائهم السابقين، وأعفوهم من إشعارهم بتعاستهم
الشخصية، وتعففوا عن استخدام هؤلاء الأطفال كسلاح للانتقام الدنيء من البعض الآخر!
والنبذ العاطفي من جانب أحد
الأبوين هو أفظع ما يتعرض له بعض الأبناء إذ يتلقی به وجدان الطفل رسالة مؤلمة
ترجمتها على النحو
التالى :
- لا تزعجني
بوجودك في الحياة !
وقد ينقل بعض
الآباء والأمهات هذه الرسالة اللا إنسانية لبعض أبنائهم في بعض الأحيان، إما لأن
الأب أو الأم مشغولان بذاتها عن كل شيء آخر في الوجود، وإما - كما في قصتك يا
سيدتي - لأن الأم ترى في هذا الطفل المنبوذ الرمز الذي تستطيع أن تفرغ فيه
لاشعوريا كراهيتها المريرة للأب المسئول في نظرها عن تعاستها، ولا يرشح الابن
البريء لأن يكون هذا المتنفس غير المنطقي سوى أن الأب كان يحبه ويميزه عن غيره من
الأبناء !
والنفس
البشرية مازالت غابة لم نكتشف من أحراشها و مجاهلها إلا أقل القليل، ومن هذه
الأسرار التي تستعصي على الفهم أن تكره أم أو أب أحد الأبناء لارتباطه عاطفيا
بالطرف الآخر الذي يتحامل عليه ويكرهه، مع أنه أبن للطرفين معا، ولم ينفرد أحدهما
بإنجابه.
ولأننا نرفض
دائما الاعتراف بهذه الحقيقة التي تفزعنا، فإننا نتستر لاشعوريا على دوافعنا
النفسية لنبذ هذا الابن أو الابنة بالتماس الأسباب والمبررات لذلك من سلوكيات
الطفل البريء نفسه وليس من عمى بصيرتنا وقلوبنا وسوء طويتنا وافتقادنا للرحمة
والعدل والمنطق في معاملة أبنائنا، ونستريح نفسيا لتبرير نبذنا العاطفي لأحد هؤلاء
الأبناء واضطهادنا له وتفرقتنا بينه وبين إخوته، باتهامنا له باعتياد الكذب والادعاء
واللؤم وارتكاب التصرفات الشريرة... إلخ، بغير أن
نعي في نفس الوقت أننا حين ننبذ
طفلا ونميز إخوته عليه إنما نحكم عليه بالاضطراب النفسي والاحتشاد الدائم للدفاع
عن نفسه وتبرير أخطائه فيلجأ إلى الحيل الدفاعية النفسية اتقاء لأذى أبيه أو أمه
فيكثر من الكذب والإنكار، وادعاء الضعف والمرض لاستجداء العطف والاهتمام .. وقد يصل به الأمر في بعض الأحيان إلى حد
السرقة الصغيرة لجذب الاهتمام إليه وإشعار الأبوين أو أحدهما بوجوده في الحياة،
وبحقه في العطف والتدليل والرعاية كغيره من الأطفال.
وهكذا ندور معه في حلقة مفرغة صنعناها بأيدينا وشكونا منها،
فنعفي أنفسنا من الإحساس بالذنب تجاهه لتمييزنا لإخوته عليه.. لأنه "يستحق"
ذلك بالفعل بدلیل اختلاف سلوكه عن سلوك باقي إخوته، ويواصل هو ارتكاب الأخطاء
دفاعا عن نفسه أو اتقاء للأذى أو تعبيرا عن رغبته الخفية في الانتقام.. هكذا بلا
نهاية .
أما مسئوليتنا نحن عن دفعه لارتكاب هذه
الأخطاء فنحن نتناساهاويزعجنا أن يذكرنا بها أحد.. مع أن الروائي الأمریکی جون
شتاينبك يقول لنا: "إن الفزع الأكبر الذي يخيف أي طفل هو أن يشعر بأنه غير
محبوب، فإذا أحس بذلك تفجر الغضب المكتوم بداخله، وعبر عنه بارتكاب الأخطاء التي
قد تصل أحيانا إلى حد الجريمة الصغيرة كنوع من الانتقام" .. وهو حين يفعل ذلك فإنه
يستهدف به الانتقام اللاشعوری محن نبذوه وحرموه من حقه الطبيعي في الحب والرعاية
والمعاملة الإنسانية العادلة، والشعور بعزة الانتماء لأبوين يحبانه ويهتمان بأمره،
وننحى نحن باللائمة عليه، مع أننا نحن الذين قتلنا فيه براءة المشاعر وحاسبناه على
ما اضطررناه إليه ، وكرهنا فيه من كرهناهم من شرکاء الحياة وأهدرنا حقوقه ولم نرع
حدود الله في معاملتنا له والمساواة بينه وبين إخوته .
لقد كان من
أقدارك يا سيدتي أنت هذا الرمز الذي كرهت فيه والدتك أباك غفر الله لها، وكان
الاتفاق الصامت بينك وبينها هو الترجمة الفعلية لهذا النبذ العاطفي الذي نفست به
عن أحقادها على أبيك فيك بلا ذنب لك.
ومع تقدير
لقسوة ظروفك العائلية ووطأة ما تعرضت له من قهر نفسي وإحساس مرير بالنبذ والدونية
وعدم الجدارة بين إخوتك حتى اعتادوا جميعا معاملتك كتابع وليس كأخت لهم، لها كامل
الحقوق الأخوية عليهم، إلا أني لم أفهم رغم ذلك كيف استسلمت أنت لهذه التفرقة
العنصرية في بيتك وأسرتك بلا أدنى مقاومة من جانبك.. ولا محاولة لانتزاع حقك في
المساواة مع إخوتك في كل الحقوق والواجبات دون معارك وصدامات عائلية ؟!
نعم..
إنني أسلم بأنك كنت الطائر الضعيف مهيض الجناح ومقهور الإرادة بين إخوة يستشعرون
عزة مساندة أمهم وتفضيلها لهم عليك، واعتادوا ممارسة إحساس «السيادة» والقيادة
عليك بلا مبرر مفهوم، وبعضهم أصغر منك سنا، نعم.. أسلم بكل ذلك، بل وألتمس لك بعض
العذر في اضطرارك إلى إتباع أسلوب «التقية» وکتمان مشاعرك الحقيقية والتظاهر
بغيرها دفعا للأذى ، لكن الإنسان مطالب أيضا يا سيدتي بأن يدافع عن حقه العادل في
الحياة، وأن يرفض القهر بغير أن يعني ذلك تنكره لأبويه أو إخوته، فإذا حرمه
الآخرون من حقوقه فمن واجبه الديني والأخلاقي والإنساني أن يطالب بأدب بهذه
الحقوق، وأن يتمسك بها ويدافع عنها بغير إساءة
.
· نشرت في جريدة الأهرام "باب بريد الجمعة" عام 1995
راجعها وأعدها للنشر / نيفين علي
برجاء عدم النسخ احتراما لمجهود فريق العمل في المدونة وكل من ينسخ يعرض صفحته للحذف بموجب حقوق النشر