عيون ساحرة .. رسالة من بريد الجمعة عام 1987

 عيون ساحرة .. رسالة من بريد الجمعة عام 1987

عيون ساحرة .. رسالة من بريد الجمعة عام 1987

من الذي أفتى بأن السعادة لها مواصفات جسمية لابد من توافرها في البشر لكي نسعد معهم .. أو نشقى بهم، إذا لم تتوافر فيهم؟ فالسعادة لا ترتبط بوسامة.. ولا بحواس الإنسان الخمس.. ولا بالمنصب أو المركز الاجتماعي.. ولا بأي شيء أخر سوى روح الإنسان وشخصيته وخلقه.. وما ينطوي عليه صدره من مشاعر وأحاسيس.

عبد الوهاب مطاوع


أكتب إليك لعلك تجد لي مخرجاً مما أنا فيه الآن، فأنا يا سيدي طالبة بالسنة النهائية في الجامعة الأمريكية، والابنة الوحيدة لأب يشغل مركزا خطيرا ولأم من سيدات المجتمع ذوات النشاطات المتعددة، ولك أن تتخيل ما أعيش فيه من حياة مرفهة سهلة يحلم بها البعض بأن يعيش إحدى صورها .. وقد حباني الله جمالا أضفى على حياتي الكثير.. ولم يدع لي مجالاً لأي شكوى..

وأنا طالبة مجتهدة أؤدي واجباتي.. واقرأ واسمع الموسيقى.. واذهب إلى النادي.. ومظهري دائما محترم.. لكني من هؤلاء الأشخاص الذين لا يمنحون صداقتهم للآخرين بسهولة.. مما قد يفسره البعض بأنه تكبر.. لكنه في الحقيقة ليس كذلك، وإنما هو عزوف عن التعرف إلى الآخرين حتى يثبت الآخرين جدارتهم بالصداقة.. وقد عشت حياتي كلها بلا مشاكل من أي نوع.. تربطني بأبي وأمي علاقة كلها حب واحترام وثقة، فهما يثقان في أخلاقي وحسن تصرفي.. وأنا أبادلهما حبا عميقا وإعجاباً بشخصيتيهما.

 

وذات يوم ذهبت إلى النادي.. فإذا بى أرى وأنا ادخل إليه وجها لم أر من قبل مثل وسامته وعينين تنظران إلي .. يشع منهما بريق أخاذ عجيب، لم استطيع وأنا المتحفظة النافرة من الغرباء أن أقاومه، فوجدتني اجلس إلى مائدة تواجه هذا الإنسان ذا العيون الساحرة .. ثم وبغير أن أقاوم.. ابتسمت له كأني ادعوه للتعرف علي واكتساب صداقتي، فإذا به لا يرد على ابتسامتي.. ولا يبدو عليه أي اهتمام بى.. فشعرت بشيء من الضيق والخجل.. وصرفت تفكيري عنه.. وتشاغلت عنه بالقراءة لكن.. وجدتني مرة أخرى انظر إليه مشدودة بوسامته وببريق عينيه الأخاذ.. ووجدتني بغير أن اشعر ابتسم له مرة أخرى ففوجئت به لا يرد ابتسامتي مرة أخرى.. وشعرت بالمهانة.. وكدت أغادر النادي غاضبة حين رأيت هذا الشاب الوسيم ينهض ثم يتحسس طريقه بعصاه إلى خارج النادي.. يا الهي إن عينيه الساحرتين اللتين أخرجتاني من تحفظي.. لا تريان!.. إنه محروم من نعمة البصر.. إن هذه الوسامة كلها ينقصها البصر ولم أتردد.. فسعيت للتعرف به.. وتعرفت به وأحببته حبا كما لم يحب أحد أحدا من قبل .. وقابل هو حبي له بحب عظيم واحترام كبير لي، وعرفت عنه كل شيء.

 

إنه شاب من أسرة بسيطة يحمل مؤهلا جامعيا ويعمل بأحد مراكز المكفوفين ويعد رسالته للماجستير.. وأسرتني شخصيته الساحرة التي لم أصادف مثلها من قبل.. إنه إنسان عظيم بكل معنى الكلمة.. مريح وهادئ وعطوف ومعه اشعر بالأمان وبالراحة وبأن للحياة قيمة ومعنى.

وكان طبيعيا أن يعرض علي الزواج ووجدتني أوافق بكل كياني ويومها طرت بعد هذا الحديث إلى البيت بجناحين من السعادة لأقص على أمي كل شيء.. لم أكن اخش معارضتها أو معارضة أبي للزواج من شاب من أسرة بسيطة لأنهما متفتحان ويحترمان البشر ويقدران ظروف الآخرين.. ولا يعطيان للمال قيمة كبيرة في الحياة، لذلك تدفقت في الحديث لأروي لأمي كل التفاصيل منذ اللحظة الأولى التي رايته فيها جالسا على مائدة قريبة من مدخل النادي، وهى تسمع لي مبتسمة وراضية وسعيدة..إلى أن وصلت إلى اللحظة الحرجة.. فإذا بها تصرخ صرخة هائلة.. (اعمااااا) (اعمااااا) وتردد هذه الكلمة الكريهة (أعمى) بهسترية ودون أن تشعر أكثر من مرة، فجاء أبي منزعجا على صوت أمي وجاء ضيوفه متوقعين حدوث مصيبة بسبب صرخات أمي.


 


 

 
ولكاتبة هذه الرسالة أقول:

 

إن مشكلتك هي إحدى المشاكل القليلة التي يصعب على المرء أن يحكم فيها بسهولة بخطأ موقف طرف فيها وصواب موقف طرف آخر!

لأن أطراف المشكلة على حق في مواقفهم.. ولكن من منظور كل منهم الخاص للمشكلة! فأنت على حق في أن تحلمي بالزواج ممن اختاره قلبك وكان بالمصادفة محروما من نعمة البصر، وهو على حق في أن يحلم بالزواج منك بعد أن بادلك حبا بحب.. ووضعتك الأقدار في طريقه بلا إرادة من جانبه.

وأبواك على حق أيضا في أن يطلبا لك الأكمل والأمثل بالمقاييس المتعارف عليها.

وهكذا فأنتم جميعا على حق.. وآنا حائر حقا بينكم!

لقد ذكرتني كلماتك التي حذفتها من رسالتك عن (أعجاب) أبويك بآرائي وأملك في أن يغيرا موقفهما إذا اقتنعا برأيي، بالاختيار الصعب الذي أجد نفسي أمامه دائما في مثل هذه المواقف بين (الإعجاب) وبين (المصادمة) بما يتناقض معه من أراء! لكني لا أتردد عادة في الاختيار.. متذكرا دائما كلمة أرسطو الشهيرة (أفلاطون صديقي وأستاذي لكن الحق أولى بصداقتي من أفلاطون) .. ولأن الأمر كذلك فأنى أقول إنني  أقدر لأبويك مشاعرهما ورغبتهما المخلصة في إسعادك.. واحترم بشدة موقفهما الاجتماعي المتنور الذي لا يعطي للمال أهمية كبيرة في تقييم الآخرين.. لكني أجد نفسي رغم ذلك مضطرا إلى سؤالهما نفس السؤال (المحرج) الذي أساله دائما لمن يستشرونني في ظروف مماثلة لهذه القصة وهو : أننا نقبل ونرفض الأشياء من موقفنا نحن إزاءها.. لكن ترى كيف يكون تصرفنا لو وضعتنا الأقدار في الجانب الأخر من نفس المشكلة، ترى أيكون موقفنا هو نفسه الآن؟ أم أن اعتبارات سوف تطرأ عليه: إذن ترى ماذا يكون موقفكما لو كان هذا الشاب الوسيم الذي حرمته الأقدار من نعمة البصر هو ابنكما الذي يرفضه الآخرون رغم جدارته لهذا السبب وحده؟ وكم من المرارة والظلم سوف تشعران بهما.. وابنكما (يحاسب) على شيء لا يتمناه لنفسه.. ولم يرده لها؟

 

ثم من الذي أفتى بأن السعادة لها مواصفات جسمية لابد من توافرها في البشر لكي نسعد معهم.. أو نشقى بهم، إذا لم تتوافر فيهم؟ إنكما تعرفان جيدا أن السعادة لا ترتبط بوسامة.. ولا بحواس الإنسان الخمس.. ولا بمنصبه أو مركزه الاجتماعي.. ولا بأي شيء أخر سوى روحه وشخصيته وخلقه.. وما ينطوي عليه صدره من مشاعر وأحاسيس.

ولست في حاجة لأن أردد عليكما عشرات الأمثلة الأزواج وزوجات كانوا نعم الشريك والرفيق للأخر، رغم الحرمان من إحدى الحواس.. لكني سأقول لكما فقط أنه لا احد يستطيع أن يجزم بأنه يعرف لابنه أو ابنته طريق السعادة الذي لا مدخل إليها سواه.. إن من حقنا بالفعل أن نطلب لأبنائنا السعادة كما نتصورها وأن نساعدهم بالرأي والمشورة على تجنب الشقاء، لكننا في النهاية لا نملك سوى النصيحة وسوى إضاءة الطريق لهم ليتبينوا المهالك والمخاطر فيه ويحاولوا تجنبها.. أما الاختيار فلسوف يبقى في النهاية لهم، فإن كنا نملك لهم شيئا.. فهو أن نسعى بكل جهدنا إلى أقناعهم بعدم ممارسة هذا الحق قبل أن يتوافر لهم النضج والخبرة التي يعينهما على حسن الاختيار.

 

إنني لا أطالب أبويك بتغيير موقفهما الآن .. لكني أطالبهما بألا يصدرا حكمهما النهائي إلا بعد الالتقاء بهذا الشاب والتعرف جيدا ودراسة شخصيته وأخلاقه، وأطالبهما بألا يغلقا باب مناقشة القضية نهائيا.. وأن يكونا مرنين وعلى الاستعداد لان يغيرا موقفهما إذا اقتنعا فيما بعد بأنه لا سعادة لك فعلا إلا مع هذا الشاب.

ولا أطالبك أنت أيضا بتغيير موقفك الآن.. لكني أطالبك بالصبر وبعدم التعجل، وبالتأكيد أولاً من صدق مشاعرك، ومن انك لا تعيشين تجربة عابرة استهوتك فيها، وسامة هذا الشاب أو عيونه الساحرة أو غرابة الظروف التي التقيتما فيها، وإنما تعيشين حب العمر الذي لن يكون للحياة معنى بغيره، والذي يستحق بالفعل أن يشقى الإنسان للدفاع عنه وحراسته!

وسوف تختبر الأيام عمق التجربة كلها لأنها هي الفيصل الوحيد في مثل هذه التجارب.. فإذا أكدت لك الأيام ثبات مشاعرك فثقي من أن أبويك سوف يغيران موقفهما لسبب بسيط هو أنهما أصلا منحازان إلى صفك في القصة كلها.

فواصلي الكفاح معهما لكي تصلوا معا إلى نقطة التقاء، ولا تفقدي الأمل أبدا في نيل رضاهما عن اختيارك مهما طالت الأيام فقديما قال المتنبي: (على قدر أهل العزم تأتى العزائم)

ولسوف تأتي بكل تأكيد.. بشرط أن نكافح للوصول إليها وأن نثبت جدارتنا بها!




·       نشرت في جريدة الأهرام "باب بريد الجمعة" عام 1987

شارك في إعداد النص / ياسمين عرابي

راجعها وأعدها للنشر / نيفين علي


Neveen Ali
Neveen Ali
كل ما تقدمه يعود إليك فاملأ كأسك اليوم بما تريد أن تشربه غداً
تعليقات