أكتب إليك لأروي لك قصتي عسى أن يستفيد بها
بعض قراء بريد الجمعة،
وأبدأ بأن أعرفك بنفسي .. فأقول لك أنني سيدة في منتصف العمر..
نشأت في أسرة متوسطة مستورة، وكان أبي رحمه الله أستاذا بأحد المعاهد الأزهرية, وأمي مدرسة ثم ناظرة بالتعليم الإعدادي, ولي أخوان يصغرانني, وقد عشت طفولة سعيدة إلى حد كبير بالرغم من تشدد والدي
في تربيتنا,
حيث كان يؤمن بأن الشدة مع
الأبناء تزيدهم صلابة وتعدهم لمواجهة الحياة, وأنهيت مراحل تعليمي كلها بتفوق وكذلك فعل شقيقاي, وقبل تخرجي بشهور تقدم لي شاب يمت بصلة قرابة بعيدة لأبي, ويعمل محاسبا بهيئة كبرى, وعرضت علي أمي الأمر فلم أستطع أن أبدي فيه رأيا محددا
لأني لا أعرف هذا الشاب ولم ألتق به,
وعلى عكس تشدد أبي معنا فقد كان
لا يفرض علينا شيئا في اختيارنا لنوع الدراسة أو في اختياراتنا لحياتنا, فصارحني بأنه يوافق كأب على هذا الشاب من الناحية
العائلية والأخلاقية,
لكنه يدع لي حق الاختيار بحرية..
ثم نصحني بأن أعطي نفسي الفرصة
لأتعرف عليه من خلال زياراته لنا قبل اتخاذ أي إجراءات رسمية, وبالفعل تردد علينا هذا الشاب عدة مرات وجلست معه في
الصالون تحت أنظار أبي وأمي,
وانتهيت إلى الارتياح إليه..
بل والإعجاب به أيضا, فلقد بدا أمامي إنسانا جادا وصادقا وراغبا في السعادة, وصارحني في أول أو ثاني لقاء بأنه يفضل أن تتفرغ زوجته
لحياتها العائلية وبيتها وألا
تعمل, وصادف ذلك هوى قديما في نفسي فوافقته على رأيه, وخطبت إليه..
وتزوجنا بعد عام من الخطبة, وجهزني أبي للزواج ولم يبخل علي بشيء في حدود قدرته..
وبدأت حياتي الزوجية مع زوجي ..
ووجدت فيه إنسانا طيبا إلى أقصى
حد,
ويبحث عن الأمان والاستقرار..
ويساوره دائما شيء من الخوف من
المستقبل,
وفهمت منه أن ذلك يرجع إلى
نشأته كطفل يتيم حيث رحل عنه أبوه وهو في الخامسة من عمره.. وعانت أمه كثيرا لتربيته وحماية ميراثه عن أبيه من أطماع
أعمامه..
وزادني ذلك حبا له وعطفا عليه. ووضعت حملي الأول, فكان طفلة جميلة سعد بها زوجي سعادة تفوق الوصف, وأصبح لا يكاد يغادر البيت بعد عودته من العمل لكي يقضي
معها أطول وقت ممكن.
وبعد عامين وضعت حملي الثاني
فكان بنتا أيضا وبقدر فرحتي بها فلقد ساورني شيء من القلق أن يكون زوجي قد خاب
أمله في أن ينجب ولدا,
لكنه لم يشعرني لحظة واحدة
بذلك,
وبالغ في إظهار فرحته بالطفلة
الجديدة.
وقال لي إنه يريد أن يكتفي
بهاتين الطفلتين..
ولا يريد الإنجاب ثانية لكي
يستطيع توفير أفضل الظروف لهما,
ووافقته على ذلك..
لكني في أعماقي تمنيت أن أنجب
ولدا يحمي أختيه ويحمل اسم أبيه,
وبعد عامين حملت من جديد ولم
يعترض زوجي على حملي إرضاء لي..
وأنجبت فإذا بي أنجب بنتا
ثالثة..
وبكيت حين علمت ذلك, فنهرني زوجي قائلا لي إن البنات يعمرن البيوت..
وأن من يربي ثلاث بنات ويحسن
تربيتهن ويعلمهن دينهن يدخل الجنة,
وتأكيدا لفرحته احتفل بسبوع
المولودة الثالثة احتفالا صاخبا دعا إليه أبي وأمي وشقيقي وكل أفراد العائلة..
ومضت بنا الحياة هادئة وجميلة..
والزهرات الثلاث يملأن حياتنا
بالبهجة والسرور والشواغل اللذيذة..
وترقي زوجي في عمله وانتدب للعمل في دولة عربية من هيئته لمدة عامين
فرافقناه خلالهما,
ورفض أن يتركنا وراءه, لأنه لا يطيق البعد عن زوجته وبناته..
وازدادت الحياة يسرا فاشترينا
سيارة مستعملة..
وشقة صغيرة بالإسكندرية نقضي
فيها أجازاتنا,
وبعد فترة أقامت الهيئة التي
يعمل بها زوجي مشروعا لبناء شاليهات تعاونية بالإسماعيلية فاشترينا واحدا منها
بالتقسيط على عشر سنوات,
وواصلت البنات التعليم حتى وصلت
الكبرى إلى نهاية المرحلة الابتدائية والوسطي إلى الثالثة الابتدائية, والصغرى إلى الصف الأول الابتدائي, ثم سقط زوجي فجأة مريضا بمرض مزمن, وخيم القلق والخوف علي حياتنا لأول مرة, ودخلنا دوامة العلاج والأزمات المرضية الحادة ودخول
المستشفيات لمدة عام طويل..
ثم رحل زوجي الحبيب عن الحياة
وعمره لا يتجاوز الرابعة والأربعين..
وأنا في السادسة والثلاثين من
العمر واسودت الدنيا أمام ناظري.
وبعد أن غادرنا الأهل والمعزون..
جلست لأفكر في المستقبل..
ووجدت معاش زوجي لا يكفي لنفقات
حياتنا,
فقررت أن أواجه الواقع بغير الاستعانة
بأحد..
وتذكرت شدة أبي رحمه الله معنا
ونحن أطفال,
وكيف كان يقول أنه يعدنا بها
لمواجهة الحياة,
واتخذت عدة قرارات أقسمت أن
ألزم نفسي بها في المرحلة المقبلة.
وألا أتهاون أبدا في تنفيذها..
أولها ألا أتزوج مرة أخرى بعد
زوجي وألا أمد يدي إلى أحد مهما كانت الظروف والأحوال, يستوي في ذلك شقيقاي وخالي وعما بناتي..
وثانيها بيع السيارة ووضع ثمنها
في البنك بنصيب البنات ونصيبي ليساعدني عائده على استكمال نفقات حياتي..
وثالثها إخراج بناتي من مدرسة
اللغات وإلحاقهن بمدرسة حكومية وتعويض فارق المستوى بالمذاكرة لهن في البيت.. ورابعهما الإبقاء على شقة الإسكندرية وشاليه الإسماعيلية
لكي يساعدني ثمن بيعهما مستقبلا في تجهيز البنات للزواج حين يجيء الأوان, مع محاولة الاستفادة منهما خلال ذلك بتأجيرهما من حين
لآخر لزيادة الدخل,
أما أهم القرارات فهو ألا يعلم أحد
من أهلي أو أهل زوجي بما يدور في حياتنا حتى ولو عشنا على
الخبز الحاف..
وأن نحرص دائما علي أن يكون
مظهرنا لائقا أمام الجميع.
وتحقيقا لهذا الغرض اشتريت ماكينة خياطة وحصلت على عدة دروس في التفصيل ولم تمض شهور حتى كانت
كل ملابسنا المنزلية وبعض ملابس الخروج من تفصيلي.. وأصبحت مهمتي الأساسية في الحياة هي أن أوفر لبناتي أفضل
الظروف الممكنة في حدود قدرتي..
وأن أجعل أيامهن سعيدة بقدر
الإمكان لكيلا يشعرن بيتمهن وحرمانهن..
وكلما لاحظت ملامح الانكسار على
وجه إحداهن ضاعفت من محاولاتي لإرضائهن وتحقيق رغباتهن البسيطة, وفي الليل أخلو إلى نفسي في حجرة نومي وأنظر إلى صورة
زوجي الراحل وأستعيد ذكرياته..
ومداعباته..
ونظراته المتعلقة بي دائما وحبه
لي ولبناته وتسيل دموعي..
وتوالت الأيام..
بعضها حلو وأكثرها مر, ومرت بي مشاكل كثيرة, وفي احدى الفترات ضاقت علي الحياة فإذا بي أشعر بنقمة
مفاجئة على زوجي لأنه تركني لأحمل هذا الهم الثقيل وحدي.. وإذا بي أشعر أيضا "أستغفر الله العظيم" بما
يشبه السخط على أقداري وأتساءل لماذا كتب علي هذا العناء؟.. وفي قمة ضيقي وجدتني أتوقف عن الصلاة مع أني أواظب عليها
منذ نعومة أظافري,
وأنظر إلى المشوار الطويل الذي
ينتظرني لكي تصل البنات إلى بر الأمان ويتخرجن ويتزوجن وتنتهي أعبائي, فأجده مشوارا بعيدا يصعب على بعض الرجال أن يقطعوه فكيف
أقطعه أنا,
وأنا المرأة الضعيفة؟ ومتى أضع
حملي الثقيل عن كتفي وأستريح؟
وضاعف من حنقي أنني سافرت
بالقطار إلى الإسكندرية لأسلم مفتاح الشقة لمستأجر يشغلها شهور الصيف على أن أرجع
لبناتي على الفور,
فشاهدت الشواطيء مزدحمة
بالسيدات والفتيات الضاحكات اللاهيات,
ووجدت المستأجر عريسا سيقضي مع
عروسه 3
أشهر في الإسكندرية..
وتعجبت لنفسي حين كان يجيء وقت الصلاة فأجدني جالسة في جمود ولا أتحرك للوضوء, وشملت مشاعري السلبية كثيرين مع أن أهلي لم يقصروا معي
منذ وفاة زوجي,
وكانوا دائمي السؤال عني
وزيارتي,
وكثيرا ما عرض علي عما بناتي
خدماتهما..
بل ومساعدتهما المادية فشكرتهما
واعتذرت لهما,
وكذلك فعل مرارا خالي وشقيقاي..
واعتذرت لهم..
فلماذا إذن هذا السخط؟
وفي هذه الظروف زارتني فجأة عمتي
المقيمة بالأقاليم, وهي
سيدة طيبة ومباركة, وقد
جاءت محملة بخيرات الريف كعادتها, وقالت
لي إنها رأتني في الحلم مرتين وحول رقبتي حبل ضيق, فشعرت
بالقلق علي وقررت زيارتي, فما
أن قالت لي ذلك حتى انفجرت في البكاء وارتميت على صدرها. وراحت
هي تمسح على رأسي وظهري وتتمتم بآيات القرآن الكريم, حتى
هدأت نفسي, وحكيت لها عما أشعر به من اختناق وضيق وسخط.. فهدأتني
وطلبت مني إحضار منقد البخور لأنها أحضرت لي نوعا جيدا منه.. وأحضرته
فوضعت عليه البخور وفاح شذاه في الشقة, فشعرت
بشيء من الارتياح ثم أخذتني من يدي إلى الحمام وطلبت مني الوضوء ففعلت ورجعت بي إلى
الصالة وأقامت الصلاة وأنا إلى جوارها فقرأت بصوتها الخاشع:
فلم أشعر بدموعي وهي تنساب رغما عني طوال
الصلاة..
وبدأت أخرج من حالتي السيئة على
يدي عمتي الطيبة التي ألححت عليها ألا تسافر في اليوم التالي كما أرادت وأن تقضي
معنا بضعة أيام,
وعدت إلى الصلاة بانتظام وقراءة
القرآن كل ليلة قبل النوم,
وإلى حب زوجي
بلا سخط عليه لأنه لا ذنب له في شيء..
وتقبلت أقداري واستغفرت الله
العظيم فيما سلف..
وقد تسألني ولماذا لم يفكر أحد
من أهلك في ترشيحك للزواج من رجل يشاركك تحمل مسئولية بناتك وحياتك..
وجوابي هو أنني قد حسمت هذه
المسألة منذ البداية بألا أستطيع أن أتخيل نفسي زوجة لرجل آخر عدا زوجي الراحل, ولا أستطيع أن أضع بناتي تحت رحمة أحد غيري ومع ذلك فإن
أهلي لم يكفوا طوال السنوات التالية لرحيل زوجي عن ترشيح الأزواج لي..
ولا عن تدبير لقاءات الصدفة
بيني وبين بعض المرشحين إلا بعد أن تيقنوا من أنني لا أرغب بالفعل في الزواج.
وكان عزائي دائما هو أن بناتي
متفوقات في الدراسة ومهذبات وجادات لا يعرفن العبث ولا يخرجن إلا معي في زيارات
للأهل أو للشراء,
كما أنهن جميعا يجدن أعمال
المنزل..
ويشاركنني في شئون البيت. وقد أسعدني كثيرا أن أسمع من جاراتي وأقاربي ثناءهن علي
حسن تربيتهن وأدبهن والتزامهن الديني والخلقي.
ويوما بعد يوم, وشهرا بعد شهر تقدمت البنات في العمر والدراسة ودخلت
كبراهن كلية البنات,
ولحقت بها الابنة الوسطي بعد
عامين ووصلت الصغرى إلى الثانوية العامة, وفي هذه الفترة كشرت ظروف الحياة عن أنيابها وكثرت
المطالب والنفقات,
فحملت كل ما أملكه من مصاغ وبعته
واستعنت بثمنه على مطالب الفتيات.
وتحملنا شظف الحياة عدة سنوات
أخرى حتى تخرجت الكبرى وعملت,
والوسطى وعملت, وبلغت الصغرى السنة الثالثة في كليتها, وجاء دور الكبرى للزواج فجاءني زميل لها يطلب يدها..
وتأكدت من ترحيبها به فصارحته
بأنني قد خصصت لكل بنت مبلغا من المال للمساعدة في زواجها, ولن أستطيع أن أقدم لها ما هو أكثر منه..
فأكد لي أنه يتمسك بها لأخلاقها
وتربيتها وليس لأي شيء آخر,
وجاءت اللحظة المنتظرة فسعيت إلى
بيع الشاليه وشقة الإسكندرية وجهزت ابنتي بنصيبها, وزفت إلى زوجها في ليلة سعيدة, وتنهدت بارتياح وهي تمضي إلى جوار عريسها إلي عشها
الجديد,
ولم يمض أكثر من عام حتى كنت
أقضي ليلتي في المستشفى لأستقبل مولودها الأول وحفيدي, ولم تمض شهور أخرى حتى تكررت نفس القصة مع ابنتي الوسطي
وتزوجت زميلا آخر لها وانتقلت إلي بيتها معززة مكرمة.
وفي الصيف الماضي تخرجت ابنتي
الصغرى,
وكانت فرحتي بتخرجها وانتهاء
مشوار الدراسة في حياتي غامرة وعصيبة واختلطت فيها الدموع بالضحكات, وقبل أن تعمل جاءني خاطب لها علمت أنها تريده وأسعدني
أنه جاهز للزواج في أقرب فرصة,
فلم أضيع الوقت وسحبت المبلغ
المخصص لها وجهزتها..
وزفت إليه وفي ليلتي الأولى
التي أقضيها وحدي في شقتي بعد زواج آخر البنات.. تذكرت يوم رحل عني زوجي وكبرى بناتي في الحادية عشرة من
عمرها وصغراهن في الخامسة وكيف تساءلت متى ينتهي مشوار تربية هؤلاء البنات
وتعليمهن وتزويجهن؟..
وكيف أقدر عليه وأنا امرأة
وحيدة بلا زوج ولا سند؟..,
وتذكرت كل لحظة عناء مرت بي, وكل ضائقة بكيت لها من القهر وأنا أشعر بالعجز عن تلبية
بعض طلبات البنات الضرورية كشراء بعض كتب الدراسة, أو شراء حذاء جديد أو حقيبة يد أو ساعة, ناهيك عن حلق ذهبي أو انسيال أو ملابس العيد, أو رسوم رحلة ليوم واحد مع الكلية.. الخ.
وبالرغم من أنني أعيش وحدي الآن
إلا أنني لا أشعر بالوحدة ولا بالملل,
فلقد ملكت وقتي وحياتي أخيرا
بعد طول انشغالي بمعركة الحياة,
وأعيش حاليا بنصيبي من معاش
زوجي بعد انقطاع نصيب البنات لزواجهن,
ونصيبي الشرعي من ثمن الشقة والشاليه, ويومي يبدأ بثلاثة اتصالات تليفونية من بناتي نتحدث
خلالها عن كل شيء وقد تستشيرني إحداهن فيما تقدمه لزوجها على مائدة الغداء..
أو في شراء بعض الملابس أو
إصلاح أحد الأجهزة
المنزلية, أو أي شأن من شئون الحياة, وقد يتكرر الاتصال عدة مرات في اليوم, ثم أعد طعامي وأرتب شقتي وأخرج في العصر للمشي والفرجة
على الفاترينات وشراء احتياجاتي,
وبعض احتياجات البنات نيابة
عنهن,
وأعود قبل الظلام, فإذا بقي وقت قضيته في القراءة والصلاة ومشاهدة
التليفزيون أو في طهو شيء للبنات يحببنه لإرساله إليهن.. ولا أنام إلا بعد تلقي اتصال المساء من بناتي وتتمنى كل
منا للأخرى أن تصبح على خير,
وكلما وقعت عيني علي صورة زوجي
الراحل أقول له في سري:
اطمئن لقد قمت بواجبي تجاه
بناتك وبناتي!
وفي يوم الجمعة يجتمع الأحباب
كلهم في بيتي وحول مائدتي..
ويملأ حفيدي الدنيا علينا بهجة
وصخبا,
وقد أصبح لي أنا المحرومة من
إنجاب الذكور ثلاثة أبناء شباب يحبونني وأحبهم, يعرضون علي دائما خدماتهم.
وفي النهاية أقول لكل من تضيق عليه الحياة, ويستصعب ظروفه الآن أن الفرج لابد أن يأتي ذات يوم لمن
صبر وكافح بإخلاص في الحياة,
وأن طول المشوار ينبغي له ألا
يزرع اليأس في نفوسنا..
ويجب ألا نفقد أبدا إيماننا
بالله سبحانه وتعالى,
وأن نستعين به على تخطي الصعاب
وتحمل الظروف القاسية إلى أن تتحسن الأحوال, ولقد كنت قد فكرت أن أكتب إليك هذه الرسالة تعليقا علي
بعض قصص الكفاح في الحياة التي قرأتها في بريد الجمعة عقب زواج ابنتي الصغرى
مباشرة,
لكني شغلت بإعادة ترتيب حياتي
بعد زواج البنات إلي أن جاءت اللحظة المناسبة لأكتب لك فيها هذه الرسالة..
والسلام عليكم ورحمة الله
وبركاته.
ولكاتبة
هذه الرسالة أقول:
يقول بعض الحكماء انك إذا ضللت
الطريق في الصحراء فلا تستسلم لليأس والقنوط, لأنك إن فعلت ذلك فلقد قضيت على نفسك بالهلاك, وإنما واصل السير في خط مستقيم, فان لم تصل إلى الغاية المنشودة فلسوف تصل على الأقل إلى
نقطة أفضل من تلك التي توقفت عندها حين اكتشفت انك قد ضللت الطريق!
وهكذا الحال مع الإنسان في كل
ظروف الحياة إن توقف وسلم بالعجز واليأس لم يبلغ الغاية, وإن واصل السير برغم المشقة بلغ واحته المرجوة ولو بعد
حين,
وإذا استهول الطريق شك في قدرته
علي قطعه واستسلم للقنوط ونكص عن مواصلة المشوار.
لهذا فمن الأفضل دائما أن نواصل
السير على الدرب المؤدي إلي أهدافنا في الحياة مهما عانينا من أشواك الطريق
وعثراته وصخوره,
وأن نؤمن دائما بأن عناية الله
ترعانا وسوف تهدينا إلي غايتنا ذات يوم جزاء وفاقا لصبرنا وكفاحنا الشريف وسعينا
لتحقيق غايات نبيلة في الحياة كتربية الأبناء وتعليمهم وتنشئتهم علي الدين والخلق
والفضيلة..
إذ من أحق بعون الله سبحانه
وتعالي له ممن يسعى بلا معين لتربية أبنائه وتقديمهم للحياة مثلا حيا للقيم
الأخلاقية والدينية.
كما أن واجبنا ألا نركز أنظارنا
على نهاية الدرب فنراها بعيدة عنا بعد الأرض عن السماء, ويدفعنا ذلك لليأس من الحياة, وإنما علينا أن نحدد لأنفسنا أهدافا قصيرة المدى كعلامات
الطريق بالنسبة للمسافر كلما بلغ احدها ازداد حماسا للوصول إلي ما بعدها..
وهكذا حتى يصل في النهاية إلي
آخر الدرب,
فالاهتمام بالنهاية البعيدة
خلال الرحلة الطويلة لا يحفزنا علي مواصلة السير والعطاء وإنما يفت في عضدنا ويغرس
الإحباط في نفوسنا,
ولقد كان السير بادن باول مؤسس
حركة الكشافة العالمية يقول:
حين نفكر في المستقبل يزداد
إحساسنا بهموم الحياة,
وكتب الفقيه الدستوري الكبير
عبد الرزاق السنهوري ذات يوم قائلا:
ما تعبت لشيء في الحياة كما
أتعب حين أفكر في المستقبل!
ولقد ذكرني تساؤلك الحسير حين
اشتد بك الضيق فتساءلت متى ينتهي مشوار تربية هؤلاء البنات الثلاث وتعليمهن
وتزويجهن بقصة جميلة لكاتب إنجليزي معاصر عن ثلاثة أشخاص يائسين من الحياة التقوا
علي غير موعد فوق جسر لندن الشهير في ظلام الليل, وقد جاء كل منهم مهموما بمشاكله ووقف فوق الجسر ينتظر
خلوه من المارة لكي يلقي بنفسه في مياه النهر, ويرقب بحذر شرطي الحراسة لكيلا ينتبه إلي غرضه فيلقي
القبض عليه ويفسد خطته,
وفي انتظار خلو الجسر من
المارة,
أشعل كل منهم سيجارة وانتظر حتى
خلا المكان من المارة لكن الضوء الخافت المنبعث من سيجارة الرفيقين الآخرين أزعج
كلا منهم لإشارته إلي وجود شخصين في المكان ينتظر انصرافهما.. ولما طال الانتظار تنبه كل منهم فجأة إلى أن الآخرين
ربما يكونان قد جاءا إلى الجسر لنفس الغرض, ويضيق الجميع بالانتظار ويقرر كل منهم أن يطلب من رفيقيه
الابتعاد لكي يستطيع تنفيذ خطته,
ويقترب الثلاثة من بعضهم بعضا, ويسأل كل منهم الآخر عن سبب وجوده في هذا المكان في ظلام
الليل؟!
ويعترف كل منهم للآخر بالسبب
الحقيقي لوجوده ويرجو صاحبيه الانصراف بهدوء ليستطيع الانتحار, ونكتشف أن الأول شاب عاطل طالت فترة بطالته وتأخر في دفع
إيجار شقته وفواتير الكهرباء والماء,
ويئس من تحسن الأحوال فقرر
الانتحار,
وأن الثاني مريض بمرض مزمن ويئس
من الحياة,
وأن الثالث كهل متزوج من زوجة
شابة تخونه مع شاب مثلها ولا يجرؤ على مواجهتها بالخيانة ولا على الانفصال عنها
فيقرر الانتحار,
ويتعاطف الثلاثة مع بعضهم بعضا..
ويكتشف كل منهم أنه قادر على
مناقشة مشاكل رفيقيه بمنطق مختلف عن منطق اليأس الذي ناقش هو نفسه مشاكله به, فيتفقون على تأجيل الانتحار يوما واحدا يعيدون خلاله
التفكير في مشاكلهم بروح جديدة,
وأن يعطوا للصباح فرصة أن يطلع
عليهم فلربما حمل إليهم بصيصا من الأمل في حل مشاكلهم.. وينصرف الثلاثة على موعد للالتقاء فوق الجسر في العاشرة
مساء الغد,
ويلتقي الشاب العاطل مع الكهل
المخدوع في اليوم الثاني في نفس المكان, ويصارح الشاب رفيقه أنه اكتشف أن صاحب البيت الذي يشكو
منه ليس بالقسوة التي كان يتصوره عليها, فلقد تفهم ظروفه ووافق على إمهاله فترة طويلة لدفع
الإيجار المتأخر,
وصارح الكهل الشاب بأنه قد نظر إلي مشكلته نظرة جديدة وأدرك أن الغدر هو عار الغادر
وليس عار المغدور به,
وأن حبه المذل لزوجته الخائنة
ليس بالقوة التي كان يظنه عليها,
ولهذا فهو يستطيع التخلص منها
ولسوف يفعل ذلك في أقرب فرصة,
ويتنبه الاثنان فجأة إلى أن
رفيقهما الثالث لم يأت إلي موعده..
ويطول انتظارهما له دون جدوى
فيدركان أنه لابد قد رجع بعد انصرافهما وألقي بنفسه في النهر..
ومات, أما هما فلقد نجوا من الموت لأنهما قد أعطيا الصباح
فرصته لكي يحمل لهما شيئا من الأمل في تغير الأحوال إلي الأفضل ذات يوم..
وهكذا مات من استمسك بظلام
الليل ونجا من تطلع إلي نور الصباح,
كما نجوت أنت من ظلام اليأس
والسخط حين استرددت إيمانك بنفسك وعدت إلي ربك, وانتظمت من جديد في الصلاة وتخلصت مما ألم بك في إحدى
مراحل العناء من سخط علي أقدارك وظروفك, فأعانك الله سبحانه وتعالى علي أداء رسالتك علي أكمل
وجه..
وحقق لك كل ما تمنيت لزهراتك
الثلاث من نجاح في الدراسة وسعادة في الحياة بإذن الله.
· نشرت في جريدة الأهرام "باب بريد
الجمعة" عام 2004
راجعها وأعدها للنشر / نيفين علي
برجاء عدم النسخ احتراما لمجهود فريق العمل في المدونة وكل من ينسخ يعرض صفحته للحذف بموجب حقوق النشر