الموعد النهائي .. رسالة من بريد الجمعة عام 1994
الإنسان يختار حياته بإرادته واختياره، وليس بعقول الآخرين ولا تمنياتهم .
عبد الوهاب مطاوع
لا أريد الخوض في تفاصيل
كثيرة عن شخصي وحیاتي، وإنما أريد أن أروي لك قصتي باختصار، وأطلب منك عونك
ومشورتك فيها، فأنا طبيب في الخمسين من عمري، في مرحلة منتصف العمر التي يكون
الإنسان فيها قد انتهى، أو كاد من مرحلة الكفاح وبناء حياته، وبدأ يستمتع بثمرة
شقائه طوال السنين مع زوجته وأولاده.
وحين كنت في الثلاثين من
عمري تزوجت من فتاة تصغرني بثماني سنوات، وجدت فيها كل ما حلمت به في شريكة حياتي ، وكانت حين تزوجتها لم تنه
بعد دراستها الثانوية ، فتزوجنا وسعدنا بحياتنا معا، والتحقت بإحدى
كليات القمة وتخرجت فيها، وجاء الأبناء واحدا بعد الآخر، فاكتملت سعادتنا بهم
وعشنا حياة هادئة ، يسودها التفاهم، واستمتعنا فيها بكل الحب والإخلاص من الطرفين
، نحو عشرين عاما، وساعدنا على ذلك أن كلينا متدین ویرعی حقوق ربه في جميع تصرفاته
، كما حرصت من جانبي خلال رحلة السنين على ألا أرفض لزوجتي طلبا، وعلى أن ألبي لها
رغباتها وأن أعاملها بالحسنى والاحترام.
ثم فجأة تغيرت
أحوال زوجتي منذ عامين فقط ، خصوصا بعد أن كبر الأبناء الثلاثة وقل اعتمادهم
عليها، فبدأت تكثر الخروج
من البيت، وتلح علي في
مرافقتها إلى جميع الحفلات والمناسبات الاجتماعية والعائلية، واجتماعات الأصدقاء،
برغم علمها بطبيعة عملي و اضطراري للصحو مبكرا للذهاب إليه.
ونتيجة لإلحاحها بدأت
استجيب لها، وأوافق على الخروج معها أحيانا، وأرفض في أحيان أخرى بسبب إجهادي في
العمل من ناحية، وبسبب اعتراضي على بعض الأصدقاء الذين يحضرون هذه المناسبات من
ناحية أخرى، فراحت ترجوني السماح لها بالذهاب إلى هذه المناسبات بمفردها، بحجة
الملل من البيت وحاجتها إلى الترويح عن نفسها، ووافقت على ذلك على مضض، مشترطا
عليها ألا تتأخر في العودة للبيت عن الحادية عشرة مساء، كموعد نهائی ، فكانت تخرج
وتلتزم بهذا الموعد أحيانا .. وتتأخر عنه في معظم الأحيان، وبدأت بيننا بعض
الخلافات بسبب الخروج وعدم الخروج، لكنها كانت تنتهي دائما بعد قليل بالصلح والود
والاحترام المتبادل .
ومنذ شهرين طلبت مني زوجتي
أيضا السماح لها بالعمل، بحجة الفراغ وانشغال الأبناء بدراستهم الثانوية، وعدم
حاجتهم إلى أمهم طوال الوقت، كما كانت الحال
في مرحلة الطفولة . إلخ، وترددت قليلا في الموافقة على نزولها إلى العمل، ثم وافقت
بعد قليل، أملا في أن يشغلها العمل عن الرغبة المستمرة في الخروج من البيت، وأن
تشغل فراغها بشيء مفيد، فتعود كسابق عهدها في سنوات الزواج الأولى : زوجة ملتزمة
تحافظ على زوجها وأولادها، وترعى حقوقهم التي لم تفرط في واجباتها تجاههم قط قبل
هذه الفترة.
وخرجت زوجتي
للعمل، وبعد فترة قصيرة عدت إلى بيتي بعد يوم شاق وطويل في عملي فلم أجدها في
البيت، وبعد فترة مرت علي کدهر رجعت زوجتي متأخرة، فقلت لها متعجبا إنها تبدو كما
لو كانت تتعمد الهرب من زوجها وبيتها، فإذا بها بدلا من أن تنفي ذلك عن نفسها
تجيبني بالإيجاب ، وأخذت بإجابتها غير المتوقعة وسألتها بغضب: هل ترغبين في
الانفصال؟ فإذا بها تجيبني أيضا بالإيجاب! وفي هدوء شديدا وشلت الصدمة عقلي عن
التفكير ولم أحر جوابا، وأحسست بانکسار لم أشعر به من قبل في حياتي ، تجاهها، أو
تجاه أي إنسان آخر، ووعدتها بالتفكير في مطلبها، ووضع حل لمشكلتنا خلال فترة قصيرة
، وتعجبت من أن تفصح زوجتي عن رغبتها في الانفصال عنى بهذه البساطة، ونحن الزوجين
اللذين لم تشهد حياتهما الزوجية خلال عشرين سنة ، أية أزمة حادة ترددت فيها من قبل
كلمة الانفصال، ودون التوقف لحظة عند أثر هذا الانفصال على أبنائنا الثلاثة، وعلى
حياتي و شخصي ، وذهبت إلى عملی مهموما بما سمعت وما لمست . وبعد أيام عرفت أن
زوجتي كانت قد اعترفت لشقيقتها، قبل مواجهتي بطلب الانفصال بيومين، بأنها قد تعرفت
منذ شهر ونصف الشهر فقط على شخص مطلق في نفس عمري، وأنها سوف تطلب منی الانفصال لكي تتزوج هذا الشخص الغريب، الذي لم تعرفه
إلا منذ ستة أسابيع، فوبختها شقيقتها على ذلك ونهرتها وطردتها من بيتها، وقامت
بإبلاغ والديها بما سمعت من زوجتي، فاستنكرا بشدة هذا التصرف الغريب من ابنتهما،
ونصحاها بألا تطلب الانفصال عن زوجها، الذي عاشرها بالحسنى والحب والاحترام، ولم يرفض لها
طلبا كل هذه السنين، ولم تستجب زوجتي للنصيحة، فكان ما بيني وبينها، وواجهت زوجتي
بما علمت، وأنا أتمنى في أعماقي ألا يكون صحيحا أو أن تنكره حياء وخجلا مني ، فإذا
بها لا تنكره وتقول لي : إنها ترغب في الانفصال فعلا، وإن هذا الشخص الذي تعرفت
إليه أخيرا هو فعلا أحد أسباب الانفصال، لكنه ليس كل أسبابها.
وبإحساس مرير
بهواني على شريكة عمري، سألتها عن الأسباب الأخرى لرغبتها في الانفصال، فلم تجبني
سوى بعبارة "النصيب کده" وبأنها تشعر بأنها لم تستطع إسعادي خلال
السنتين الأخيرتين من زواجنا.
ولكاتب هذه الرسالة أقول:
من يعرض صدره للتيارات
الهوائية والعواصف، تصيبه نزلات البرد، وتزداد فرص إصابته بها، وتتضاعف خطورتها
عليه كلما كانت مناعة الجسم ضعيفة، وزوجتك السابقة يا سیدی عرضت نفسها منذ عامين
لتيارات هوائية شديدة، بانقلابها على أسلوب حياتها العائلي الهادي والأمن، وخروجها
المتكرر منفردة بإذنك وبغير إذنك، وتأخرها خارج بيتها إلى ما بعد الموعد النهائي،
وانضمامها إلى اجتماعات
الأصدقاء، ومن بينهم من لا ترتاح أنت إليه خلقيا، وصادف ذلك ضعفا عابرا في المناعة
لديها، يرتبط غالبا بأزمة منتصف العمر، التي يساور فيها البعض إحساس مرضی، بأن
العمر قد تسرب من بين يديه ، بغير أن يعرف لسع "الحب الحقيقي" ونشوة
السعادة الخالصة، وأن ما مضي من العمر كان لحساب الغير، ولحساب الأبناء والمسئوليات
العائلية والاعتبارات الاجتماعية، وأن ما بقي منه ينبغي أن يكون للسعادة الذاتية
وحدها، دون التوقف أمام أي اعتبار آخر، وبلا تنازل ولا تضحيات من أجل أحد، ولو
كانوا الأبناء أنفسهم، وهو
تفكير ذاتی أناني إذا تسلط على إنسان ما فإنه قد يقدم فجأة على غير المتوقع منه،
فيضرب عرض الحائط بكل الاعتبارات ، وينطلق وراء ما يتوهم أنه سعادته الحقيقية، غير
عابئ باستنكار الآخرين ورفضهم، بل واحتقارهم أيضا.
وأحسب أن هذا هو ما حدث بشكل أو بآخر لزوجتك السابقة، التي لم تشهد حياتك معها خلال عشرين عاما أي مؤشرات تنذر بمثل هذه النهاية الفاجعة، ولهذا فإن أي كلام معها الآن لا يجدي فتيلا، وهي تعيش ذروة تجربتها الرومانسية، وتصم أذنيها عن كل نداء سوی نداء السعادة الشخصية، خصوصا أنها قد تغلبت في سبيل المضي إلى هدفها على كل التحديات، الكفيلة بأن تردع أية امرأة أخرى عن الاستجابة النداء مثل هذه المغامرة، كالأبناء، ونظرة المجتمع والأهل والأقارب، وإحساس الرفض والاستنكار من الجميع، وإنما يجد الكلام سبيله إلى أذنيها وعقلها حين يخفت هدير الأنغام الرومانسية ، الذي يفح الآن في أذنيها، ويحجب عنها نداء الواجب والضمير، وحين تختفي الأنغام و تنكشف لها التجربة "الوردية"، عن حياة واقعية أخرى، ككل حياة قد لا تختلف عن حياتها السابقة في شيء، وقد زالت غشاوة حب النظرة الأولى وهو «قرين الجنون»، كما يقولون فرأت في الأخر كل ما حجبته عن عينيها من قبل مؤثرات التجربة العاطفية في عنفوانها من مثالب و عيوب، ووجدت بين يديها قبض الريح، وعرفت بالمقارنة كم كانت ظالمة لك حين تنكرت لك، وأنكرت عليك فضائلك، وعميت عن حسن معاشرتك لها، وتسامحك المغالي فيه معها ، فتبدأ التساؤلات الأخرى، المعتادة أيضا في وجدانها فتتساءل:
- هل كان
ما تصورت أنه "الحب الحقيقي"، الذي عثرت عليه بعد طول انتظار، يستحق ما ضحيت به من أجله؟ وما فقدته في
الطريق إليه؟ .. - هل كان يستحق التضحية بزوج فاضل محب متسامح، طيب القلب والعشرة، يحرص على إرضائی و تلبية رغباتي؟
- هل كان يستحق أن يحمل لي
الأبناء بسببه هذه المشاعر العدائية، وأن تنطوي صدورهم لي على الكراهية بديلا
لمشاعر الحب التي طالما استمتعت بها؟
- هل كان يستحق أن أفقد من
أجله اعتباری و احترامي السابقين، في أعين الأهل والأقارب والأصدقاء؟ وأن أبدو أمامهم في صورة الأم التي
ضحت ببیتها وسمعتها، وسمعة عائلتها جريا وراء أهوائها؟ وتنكرت لأبيهم بعد عشرة
هادئة لمدة عشرين سنة؟ وتزوجت كالمراهقات من تصورت أنها قد وقعت في حبه من النظرة
الأولى ، عقب معرفة لم تطل أكثر من ستة أسابيع؟
ولن يكون الجواب عن كل هذه
التساؤلات غالبا سوی: "لا" مريرة مدوية ، تجعل من التجربة كلها عبئا
كالعبث، وخطأ من أخطاء العمر التي لا يغسلها موج البحر، في هذه المرحلة فقط من
تجربتها يمكن الحديث إلى زوجتك السابقة، ويجد الكلام طريقه إلى عقلها وقلبها، أما
فيما قبل ذلك، فأصدق تصوير لحالتها الآن، هو ما أبدعه الأديب الفرنسي "دی لاكلوا" في قصته
الوحيدة «العلاقات الخطرة»، على لسان کونت مولع بالإيقاع بالفضليات من النساء، وهو
يتحدث عن زوجة متدينة فاضلة ينسج حولها شباكه فيقول:
نعم يلذ لي أن أرى هذه
المرأة المتدينة، تتورط بغير أن تشعر شيئا فشيئا في طريق لا رجعة لها منه، وتهبط
منحدراته درجة بعد درجة ورائي، ومن حين إلى آخر قد تتوقف برهة حين تتبين حجم الخطر
الذي يهددها، وتتباطأ خطواتها
قليلا، لكنها تواصل الهبوط ثم يدفعها الخوف القاتل من الحضيض الذي ينتظرها أسفل
المنحدر، لأن تبذل محاولة أخيرة للرجوع للخلف، فلا تلبث قوة سحرية غامضة أن تجذبها
إلى نقطة أبعد من تلك النقطة التي توقفت عندها، وهي تحاول إنقاذ نفسها من الهبوط
للمرة الأخيرة، فالانزلاق يبدأ عادة بخطوة واحدة على المنحدر ، وحين يبدأ وتساعده
عوامل أخرى، يرجع عنه دون أن يصل إلى هاوية القاع، حتى ولو حاول ذلك.
ولقد بدأ الانزلاق
منذ عامين یا سیدی ، وليس منذ شهرين كما تتصور، وساعدها عليه تسامحك الزائد معها
في الخروج بإذنك وبغير إذنك، وفي السماح لها بالانضمام إلى اجتماعات الأصدقاء ،
لما بعد الموعد النهائي للعودة أو ما قبله، وفي قبولك لانضمامها إلى هذه
الاجتماعات، وبين الأصدقاء من لا ترتاح إليهم ولا تثق في التزامهم الأخلاقي.
فهيأ كل ذلك - مع عوامل
أخرى - زوجتك السابقة للاستجابة إلى نداء «القوة السحرية » الغامضة، التي تجذب من
وضع أقدامه على أول المنحدر، وتشده إلى أسفل فيواصل الهبوط حتى لو توقف في منتصف
الطريق محاولا الرجوع إلى الخلف!
وأتحدى زوجتك التي
لا أعرفها، وليس يسعدني كثيرا إعجابها بآرائی ، أن يختلف إحساسها وهي تهبط خطوات
عدم الالتزام الدینی والخلقی بزوجها وأبنائها وبيتها، عن هذا الإحساس الذي صوره
ذلك الكونت الخليع عن مراحل تدهور المرأة الفاضلة .
ولو كانت آرائی قد وجدت صدى
حقيقيا لديها، لما أقدمت على التضحية بسعادة ثلاثة أبناء، وأمانهم واستقرارهم طلبا
للسعادة الشخصية وحدها، حقيقية كانت أم «موهومة».
فالحق إني لا أقر أبا ولا
أما على ذلك، إلا في حالات نادرة يكون فيها البديل الوحيد المؤكد، لاستمرار
العلاقة الزوجية هو الوقوع في هاوية الخطيئة، وبعد استنفاد كل محاولات الإصلاح،
ومجاهدة النفس وردعها عن التضحية بسعادة الآخرين طلبا لسعادتها.
فليس بمثل هذه الخفة يتعامل
الإنسان مع حياته ، ومع حياة الآخرين، الذين يرتبط أمانهم وسعادتهم به، ولا يكلف
الله نفسا إلا وسعها في النهاية ، فإذا كان لزوجتك السابقة ما يشفع لها عندي بعض
الشيء، فهو أنها لم تطل فترة عدم وفائها، لك أكثر من ذلك، ولو أنصفت لأنهتها
النهاية المثلى بقطعها للصلة الأخرى، والاحتماء بأبنائها ضد هوی نفسها، والندم
الصادق على هذه الفترة من عمرها، وليس بانفصالها عنك، وعن أبنائها، لاستكمال
أنشودة الحب الموهومة في منتصف العمر.
لكن الإنسان يختار حياته في
النهاية بإرادته واختباره، وليس بعقول الآخرين ولا تمنياتهم، ولقد أشعلت زوجتك
الشمعة من طرفيها، فاختصرت بذلك عمرها إلى النصف ، أو أكثر وسرعان ما سوف يذوب
الشمع .. وتنكشف الأوهام عن الواقع المرير، وعندها يكون لكل مقام مقال.
فإذا كنت يا صديقي أقدر
آلامك وأحزانك وأحس - بحق - جرحك الشخصي، وأنت تستشعر هوانك على من أخلصت لها الود
عشرين عاما وأكثر وترى عشك الآن ينهدم فجأة، وتضطرب حياتك وحياة أبنائك، وأنت في
السن التي يتأهل فيها الإنسان، لأن يمضي أيامه محتميا بدفء الأسرة وعواطفها
الصادقة، إذا كنت أشاركك كل هذه المشاعر، فلست أفهم - برغم ذلك - الحكمة في أن
تعدها بإعادتها إلى عصمتك حينما تطلب هي ذلك، كأنك تطمئنها بذلك على وجود البديل
الآمن، الذي ينتظرها بصبر وأمل إذا فشلت مغامرتها العاطفية، أو تكشفت لها عن نزوة
جامحة، لم تضمن لها السعادة المنشودة . والأقرب للإنصاف أن تعتبر زوجتك فترة العدة
التي تقضيها الآن، و تنتظر انتهاءها لترتبط بالآخر، فترة مراجعة للنفس تقوم
خلالها... وللمرة الأخيرة.. بتقويم تجربة السنوات العشرين معك ، ومسئولياتها تجاه
أبنائها وتجاه أسرتها و عائلتها، فإذا انتصر صوت الضمير والذكريات الطيبة و عرفت
لك قدرك، وعرفت لأبنائها حقهم عليها، واختارت العودة نادمة إليك قبل الزواج من
الآخر، فلا بأس بعودتها حرصا على مصلحة الأبناء، وسلامة بنيان الأسرة، أما إذا
خاضت التجربة حتى الثمالة وتزوجت الآخر فلا تنتظرها يا صديقي، ولا ترض لنفسك بأن
تكون الاحتياطي الاستراتيجي لها، في حالة فشل مغامرتها الهوجاء هذه ، وإنما ابدأ
حياة جديدة تعوضك عما لقيت من شريكة العمر ، من غدر ونكران ، أو كرس حياتك لأبنائك
إذا رغبت في ذلك، مفوضا أمرك فيمن اغتال سعادتك و أمانك إلى من لا يغفل ولا ينام.
رابط رسالة علامات الخطر تعقيبا على هذه الرسالة
راجعها وأعدها للنشر / نيفين علي
برجاء عدم النسخ احتراما لمجهود فريق العمل في المدونة وكل من ينسخ يعرض صفحته للحذف بموجب حقوق النشر