النظرات المحرومة .. رسالة من بريد الجمعة سنة 2000

 النظرات المحرومة .. رسالة من بريد الجمعة سنة 2000

النظرات المحرومة .. رسالة من بريد الجمعة سنة 2000

ليس من الحكمة أن نتجاهل بعض مشاكلنا تحرجا من حساسيتها‏، ولا أن ندفن رؤسنا في الرمال ظنا منا أن من لا نراه لا يرانا كما يتعامل البعض مع مشاكلهم‏.‏

عبد الوهاب مطاوع


أتابع قراءة بريد الجمعة باهتمام‏ ..‏ ليس فقط لمجرد الاستفادة بتجارب الآخرين وخبرتهم‏,‏ وإنما أيضا على أمل أن أقرأ فيه مشكلة مشابهة لمشكلتي ‏..‏ فأستفيد بردك عليها في حل مشكلتي بغير أن أضطر للكتابة عما يحرجني الإشارة إليه وأتكتمه عن الجميع‏ ..‏ لكني لم أجد للأسف حالة مشابهة لحالتي‏,‏ ولم يعد أمامي مفر من الكتابة ومعاناة الحرج‏,‏ فأنا سيدة أبلغ من العمر 27 عاما,‏ حباني الله سبحانه وتعالى بنعمة الجمال والذكاء‏,‏ وتفوقت في دراستي والتحقت بإحدى كليات القمة‏..‏ وتلقيت خلال دراستي الجامعية عروضا كثيرة بالزواج من زملاء يكبرونني في السن ومن معيدين بالكلية‏..‏ ولم استجب لأي منها‏..‏ ولاحظت خلال مرحلة الدراسة أن هناك زميلا منطويا على نفسه وقليل الأصدقاء يلاحقني بنظراته المحرومة الصامتة دون أن يقترب مني أو يحاول الحديث معي‏,‏ وظل هذا الزميل يركز علي نظراته هذه حتى بدأت أشعر بأنها تراقبني طوال الوقت‏,‏ وفي السنة النهائية تشجع زميلي وصارحني بحبه وقال لي إنه لن يقوى على مواصلة الحياة بدوني‏,‏ وبلا تردد وجدتني أنجذب إليه وأشعر بأهميتي بالنسبة له‏..‏ واستشعر صدق مشاعره‏,‏ وبدأ ارتباطنا في السنة الأخيرة من دراستنا الجامعية‏,‏ وبالرغم من ظروفنا المادية الصعبة عقب التخرج فلقد تزوجنا على الفور‏..‏ ولم تؤثر بساطة الشقة التي أقمنا بها ولا صعوبة الحالة المعيشية في البداية على إحساسنا بالسعادة واجتماع الشمل‏.‏

 


شيء واحد فقط أثار قلقي وتساؤلاتي ‏..‏ هو أن زوجي راح ومنذ الليلة  الأولى لنا معا كزوجين يبيت وحيدا على الأريكة الموضوعة في الصالة‏,‏ وبعد يوم طويل نتبادل فيه الحب والاحترام والمعاملة الطيبة الرقيقة والاهتمام يعانقني زوجي معانقة أخوية ويتركني لأنام ثم أستيقظ في الصباح فأجده نائما فوق الأريكة‏..‏ ولا أدري ما السبب‏..‏ ولا أجرؤ على سؤاله عنه ويمنعني حيائي من معاتبته بهذا الشأن‏,‏ وبعد عدة شهور استجمعت شجاعتي وافتعلت معه مشكلة تافهة‏,‏ ثم تعاتبنا بعدها فواجهته بما يحيرني فيه‏,‏ وفوجئت به يرتبك ويتضرج وجهه بالاحمرار حتى ندمت على إحراجه وأشفقت عليه‏..‏ ثم راح يعتذر لي عما أزعجني‏..‏ ويعدني بأن يتجنبه‏ ..‏ وسعدت بذلك واعتبرت معاناتي قد انتهت وبدأ زوجي بالفعل يهجر الأريكة وينام إلى جواري‏,‏ ولكن كما ينام الصغير بين أحضان أمه‏..‏ في وداعة وبراءة وإحساس بالأمان ولا شيء آخر‏.‏

وحاولت أن أبحث في طفولة زوجي الحبيب عن تفسير لذلك بالرغم من أنه قد نشأ في أسرة متماسكة مترابطة ومتحابة‏,‏ وبحذر شديد وحرص على ألا أجرح مشاعر زوجي أو كرامته‏,‏ بدأت أسأل والدته أمامه عن أحواله وهو طفل صغير لعلي أجد خيطا يمكن البدء به في طريق العلاج‏..‏ فلم أجد فيما سمعته منها أي شيء يسهم في حل المشكلة‏.‏
فكتمت سري عن الجميع وتعلقت بالأمل في المستقبل‏,‏ ورضيت من الحياة بالعشرة الطيبة والمعاملة الرقيقة وطوفان الحب الذي يغرقني به زوجي‏,‏ وبتعلقه الشديد بي كالطفل الذي يتعلق بأمه ولا يقوى على فراقها‏,‏ وشعرت بأنني أمه بالفعل ولست زوجته بالرغم من أنه يكبرني بثلاث سنوات .. ومضي العام الأول والثاني من الزواج ونحن على هذه الحالة‏..‏ وألححت على زوجي في عرض نفسه علي الطبيب النفسي عسى أن يساعدنا علي تجاوز المشكلة‏,‏ فرفض هو في البداية إلى أن هددته بالانفصال عنه‏,‏ وذهبنا معا إلى الطبيب‏..‏ ولم يتوصل الطبيب بعد جلسات عديدة للسبب الحقيقي لمشكلة زوجي‏..‏ حتى سلمت أنا شخصيا باليأس‏,‏ وبدأت  أحاول التكيف مع حياتي على ما هي عليه وفكرت كوسيلة للتشاغل عن أفكاري وأحزاني في أن أعمل‏,‏ وعملت بإحدى الشركات فوجدت نظرات الإعجاب تلاحقني‏..‏ ثم ظهر مدير الشركة في الصورة وأبدى اهتماما خاصا بي‏,‏ وراح يشعرني برغبته في الارتباط بي‏ ويبدي إعجابه بالقدر الكبير من الحنان الذي يستشعره في شخصيتي‏..‏ وأزعجتني كلمة الحنان هذه أكثر مما أزعجتني محاولاته معي لأنني أثق في نفسي بالرغم من معاناتي‏,‏ وتساءلت‏:‏ ماذا في شخصيتي يشعر الآخرين بالحنان الأمومي هذا مع أنني لم أنجب ولم أعرف الأمومة ؟

ولولا نشأتي في بيت أقيم على دعائم الإيمان والتقوى وخشية الله لضعفت واستجبت لمحاولات من حولي‏,‏ في النهاية اضطررت إلى ترك العمل بهذه الشركة‏,‏ لكي أسد على الآخرين الطريق الخاطيء‏,‏ وانتقلت للعمل في شركة أخرى فلم يتغير الحال كثيرا‏.‏
والآن يا سيدي فقد مضت ست سنوات على زواجي ومازلت أعيش حياتي الزوجية البريئة‏..‏ منذ ليلتها الأولى ومازلت أحب زوجي للغاية‏,‏ وأحب حبه لي‏,‏ وفي كثير من الأحيان يتعلق زوجي برقبتي ويبكي كالأطفال ويقول لي إنني لو ابتعدت عنه أو تركته فإنه سيموت لا محالة‏,‏ وأنه لا يفكر في شيء وهو في عمله سوى في العودة لأحضاني الدافئة‏..‏ وأنا لا أرغب في هجره ولا في تركه لأنني أحبه‏,‏ لكني بت أخشى على نفسي من الفتنة ولم أعد قادرة على مواصلة الاحتمال وأريد أن أصبح أما حقيقية لطفل من لحمي ودمي‏..‏ فهل أتركه وأطلب الطلاق مع ما سيكون لذلك من عواقب وخيمة على زوجي الحبيب‏..‏ أم هل أترك نفسي للتيار يجرفني إلى ما يغضب ربي وأنا التي حرصت العمر كله على إرضائه‏,‏ أم هل أصبر إلى نهاية العمر واسلم أمري إلى الله‏.‏
إنني أرغب في الاختيار الأخير لكن كيف السبيل إليه‏..‏ وماذا تقول لي وهل هناك حل آخر لمشكلتي ؟

 

ولكاتبة هذه الرسالة أقول :

أشاركك الحرج يا سيدتي في الحديث عن هذه المشكلة الشائكة‏,‏ لكنه ليس من الحكمة أن نتجاهل بعض مشاكلنا تحرجا من حساسيتها‏,‏ ولا أن ندفن رءوسنا في الرمال ظنا منا أن من لا نراه لا يرانا كما يتعامل البعض مع مشاكلهم‏.‏

 والحق أن المشكلة التي تثيرينها من أعقد المشاكل الإنسانية وأكثرها تأثيرا على الأسرة والعلاقات العائلية‏..‏ ولهذا فإني أعتقد أنك وزوجك لم تتعاملا معها بالجدية الكافية حتى الآن‏,‏ فإذا كنت ألتمس لك بعض العذر في ذلك من حياتك وتحرجك من الإلحاح عليه بالتعامل الجاد معها‏,‏ فإن زوجك لا عذر له .. بالرغم من إشفاقي على ظروفه المؤلمة‏..‏ في ألا يتعامل مع مشكلته بالاهتمام الكافي وهو الرجل الذي لا يعيبه طلب العلاج لمشكلة يعانيها وإنما يعيبه بالتأكيد أن يتراخى في ذلك أو يتقاعس عنه‏.‏


وعلى أية حال فإن الأمر يتطلب أن تبدآ من جديد البداية السليمة لطلب العلاج لهذه المشكلة‏..‏ على أن تكون الخطوة الأولى على طريقه هي استشارة طبيب متخصص في أمراض الذكورة‏,‏ فإذا أثبتت الفحوص أنه ليست هناك أسباب عضوية لحالة زوجك فإن الخطوة الثانية هي استشارة الطبيب النفسي من جديد والصبر على طول العلاج وجلسات التحليل النفسي مهما تعددت‏,‏ ذلك أن لانعدام الرغبة الحسية أو نقصها أسبابا نفسية عديدة‏..‏ منها وقد يكون ما يراه عالم النفس الشهير فرويد من أن الرجل قد يفشل أحيانا في الجمع بين مشاعر الحب ومشاعر الرغبة تجاه نفس المرأة‏,‏ ومنها في حالات أخرى القلق المزمن والاكتئاب وشعور المرء بالدونية تجاه شريكته أو شعوره بأنه غير مرغوب منها‏..‏ وفي بعض الحالات الأخرى قد يكون انعدام الرغبة تعبيرا عن العداء النفسي للشريك‏,‏ أو الخوف منه‏,‏ أو العجز عن حل الصراع الأوديبي حسب تعبير فرويد بين تقديس المرأة التي تمثل للرجل رمز الأم‏..‏ وبين الرغبة الحسية فيها‏..‏ وفي كل الأحوال فلابد من الصبر على العلاج النفسي الطويل إلى أن يؤتي ثماره المرجوة‏,‏ فإذا استعصت  الحالة بعد ذلك على العلاج فلا مفر من مواجهة الحقيقة في النهاية مهما تكن مرارة العواقب والقاعدة الشرعية هي دفع الضرر الأكبر بالضرر الأصغر‏,‏ والضرر الأكبر هنا هو خطر تعرضك للفتنة وانهيار مقاومتك وسقوطك لا قدر الله في بئر الخطيئة‏..‏ أما الضرر الأصغر فهو تكبد زوجك لألم فراقك ومعاناتك أنت آلام هذا الفراق بعض الوقت‏.‏

 

وآلام البتر في بعض الأحيان تنقذ بقية الجسم من الهلاك‏,‏ ومرارة الانفصال بالنسبة لزوجك العاشق‏,‏ أهون في النهاية من أن يكابد العذاب الأكبر إذا ضعفت مقاومتك ذات يوم وغلبك التيار علي أمرك‏..‏ وقديما قال أحد الحكماء إن من أعظم البلايا مصاحبة من لا يوافقك ولا يفارقك‏..‏ وعجز أحد طرفي العلاقة الزوجية عن تلبية احتياجات الطرف الآخر العاطفية والنفسية نوع من عدم الموافقة وضرب من العذاب المرير يذكرنا بعذاب فرانشيسكا وحبيبها في الكوميديا الإيطالية للشاعر الإيطالي العظيم دانتي‏,‏ فلقد صور دانتي في أحد منازل الجحيم فرنشيسكا العاشقة هذه وحبيها وقد تواجها وكل منهما يشتهي أن يقبل الآخر فتتلاعب بهما رياح الجحيم وتقربهما من بعضهما البعض‏,‏ فإذا خيل إليهما أنهما قد أوشكا في النهاية علي أن ينالا القبلة المحرمة باعدت بينهما الرياح‏.‏ ثم رجعت وقربت بينهما من جديد‏,‏ وتكرر الأمل في الارتواء وتكرر الحرمان منه في اللحظة الأخيرة وهكذا إلي ما لا نهاية ولا هما ينالان ما يشتهيان ولا هما ييأسان من الأمل المحروم أبدا‏.‏


أية حياة هذه يا سيدتي تستطيعين احتمالها إلى نهاية العمر وأنت في أوج شبابك وجمالك ونظرات الإعجاب ونداءات الإغراء تحيط بك من كل جانب‏.‏
وهبك استطعت الصبر علي نفسك بضعة شهور أخري‏,‏ فمن يضمن لك القدر علي الصبر علي مكابدة الحرمان بقية العمر‏..‏ والقدرة علي الصمود في وجه الإغراء والغواية إلي النهاية ؟ لقد شبه الرسول الكريم صلوات الله وسلامه عليه هذا الحال‏,‏ معلقا  على فارق السن الكبير بين الزوجين بقوله ما معناه‏:‏
ـ النار تندلع‏...‏ والماء ينقطع‏!‏
بمعني أن نار الرغبة تندلع عند الشباب‏..‏ فلا يسعفها المشيب بإطفاء الحريق بسبب انقطاع الماء عنده‏.‏ وكل ذلك مما يعرض المحروم للفتنة ويفتح أمامه أبواب الغواية‏.‏

إنني أقدر لك حبك لزوجك وإخلاصك له ومحافظتك على كرامته ومشاعره وتمسكك بقيمك الدينية والأخلاقية بالرغم من حرمانك المؤلم‏..‏ وأتفهم كذلك معاناة هذا الشاب الطيب أعانه الله علي ظروفه‏,‏ وحبه لك‏..‏ وتعلقه الأوديبي الشديد بك‏,‏ لكنه ليس من العدل أن تضعي نفسك بين خيارين كلاهما مر هما الحرمان أو تنكب الطريق القويم‏,‏ والانجراف إلي هاوية الخطيئة‏.‏
فابدئي على الفور العلاج بجدية وحماس من جديد لإبراء الذمة قبل اتخاذ القرار المصيري‏..‏ ثم اتخذي في حالة فشل العلاج وانقطاع الأمل فيه قرارك بشأن حياتك ومستقبلك بلا تردد مهما يكن هذا القرار مؤلما للطرفين أو قاسيا خاصة أنك لم تنجبي حتى الآن‏,‏ ولن يكون لهذا القرار من ضحايا إلا زوجك المحكوم بأقداره المحزنة للأسف‏..‏ فضلا عن أنه من حقك في النهاية ان تمارسي الأمومة الحقيقية ذات يوم إذا فشلت كل الجهود ولم يعد هناك مفر من آلام الجراحة‏.

·       نشرت في جريدة الأهرام "باب بريد الجمعة" عام 2000

راجعها وأعدها للنشر / نيفين علي


 


Neveen Ali
Neveen Ali
كل ما تقدمه يعود إليك فاملأ كأسك اليوم بما تريد أن تشربه غداً
تعليقات