حادث الشاطئ ! .. رسالة من بريد الجمعة عام 1990
المحرمات محدودة في القرآن الكريم وليس من حق أحد أن يتوسع فيها أو يضيف
إليها، وأئمة المسلمين الأجلاء الذين أفنوا العمر في دراسة علوم القرآن الكريم لم
يعطوا لأنفسهم حق الفتوى بالتحريم لأن تحديد الحلال والحرام في الإسلام لله جل
شأنه وحده ، فكان هؤلاء الأئمة العظام يكرهون الإفتاء بأن هذا حرام إلا إذا كان
منصوصًا عليه في القرآن وواضحًا لا يحتاج إلى تفسير ، وكانوا يتحرجون من الإفتاء
بحرمة هذا وتحليل ذاك فيستخدمون عبارات من نوع هذا مكروه .. وهذا لا بأس به ..
وكان الإمام أحمد بن حنبل يرد على سائله في أمر من الأمور : هذا أكرهه .. أو لا
أستحسنه .. أو لا يعجبني تحرجًا من استخدام كلمة التحريم إلا فيما جاء به نص قطعي
من القرآن الكريم فمن أين جئنا نحن بالعلم الذي نتصدى به للإفتاء بالتحريم
والتحليل في كل شيء بهذا اليسر وبهذه السهولة ؟
عبد الوهاب مطاوع
مشكلتي تؤرقني
لكن أملي كبير في أن أجد لها حلاً .. فأنا يا سيدي زوجة في مقتبل العمر .. تزوجت
من زوجي عن حب واقتناع به وبشخصيته فقد كنا جيرانًا ومستوانا العلمي والاجتماعي
والديني واحد .. وكنت بطبيعتي معتدلة في كل أمور حياتي .. ومتدينة بلا تزمت فلم
أرتدِ يومًا ملابس لافتة للنظر أو خارجة عن المألوف، ولم أكن أضع المساحيق اللهم
إلا في مناسبات الخطبة والزواج العائلية وهي نادرة بطبيعتها فأضع قليلاً من
البودرة الهادئة .
ومنذ تزوجت
زوجي أصبحنا لا نفترق إلا فترة عمله وعملي فما أن ينهي كلانا عمله حتى يعود إلى
البيت وكله شوق إلى الآخر .. فنمضي الوقت نتناقش ونتحدث في ود واحترام .. ونتفق
دائمًا في كل شيء .. ومن أهمه أن علاقة الإنسان القوية بربه مع التربية السليمة في
رعاية أسرة متدينة كفيلان بأن يقودا الإنسان دائمًا إلى التصرف الذي يتقي به غضب
ربه .. لهذا لم يطلب مني زوجي أن أرتدي الحجاب .. وحرصت أنا على الاحتشام في مظهري
.. وكانت أسعد أوقاتنا دائمًا هي التي نمضيها على شاطئ البحر حيث نقيم في
الإسكندرية فنتحدث وموج البحر يهدر أمامنا .. ونستمتع بالتهام الأيس كريم الذي
أحبه .
ومضت حياتنا في هدوء وتفاهم ثم لاحظت منذ شهور
أن زوجي قد بدأ ينفرد بنفسه طويلاً ليقرأ بعض الكتب .. ثم بدأ يعتذر عن العودة
للبيت بعد انتهاء عمله ويمضي اليوم بعيدًا عني ولا يعود إلا متأخرًا ليلاً ،
وسألته عن سر هذا التغيير فأبلغني بأنه يقضي بعض الوقت مع أصحاب له ، فبدأت أحس
بالقلق .. واستبعدت أن تكون لزوجي علاقة نسائية ، لكن التغير استمر وطالت فترات
غيابه عن البيت .. فتملكني القلق تمامًا .. ومن شدة خوفي عليه سمحت لنفسي بأن أتصل
تليفونيًا بأحد أصدقائه الذي أعرف إخلاصه لزوجي لأستطلع منه سر تغيره .. وحرصت في
حديثي معه على ألا أشعره بشيء وإنما سألته فقط عن أسباب انقطاعه عن زيارتنا ،
ففوجئت به يقول لي أن زوجي قد أصبح له أصدقاء من نوع آخر .. وأنه حاول أن يلفت نظر
زوجي إلى عدم ارتياحه لهذه الصحبة الجديدة فبدأ منذ ذلك الحين يتجنبه ولم يعد يقبل
عليه كما كان يفعل قبل شهور ..
وازداد قلقي
واضطرابي .. وكعادتي مع زوجي في ألا أخفي عنه خواطري ناقشته فيما عرفت ففوجئت به
ينفعل وينهي المناقشة بأني سأعرف كل شيء في الوقت المناسب بعد أن يتخذ قراره !
وتضاعف قلقي وخوفي ، وبعد فترة لاحظت أن زوجي لم يحلق ذقنه لعدة أيام فلفت نظره
إلى ذلك فأخرسني بنظرة لائمة .. وبكلمات مقتضبة بأن عليَّ أن أتعود على ذلك لأنه
سيلتحي، ثم بدأ زوجي يرتدي الجلباب والطاقية ويخرج بهما بعد الظهر لمقابلة أصحابه
الجدد ويقضي معهم أغلب الليل ثم يعود حاملاً بعض الكتب الدينية ، ثم امتنع عن
الخروج بصحبتي نهائيًا إلا إذا تحجبت فلم أعارضه في هذه الرغبة وارتديت الحجاب
وظللت أرقبه بصبر اعتقادًا مني أنه سيعود إلى طبيعته بعد فترة .. لكنه أبلغني ذات
يوم أننا سنستقبل ضيوفًا أعزاء عليه .. وجاء الضيوف فكانوا مجموعة من السيدات
المنقبات والرجال الملتحين الذين يرتدون الجلباب والطاقية البيضاء ، وانقسمنا على
الفور إلى مجموعتين .. فريق من النساء في حجرة وفريق من الرجال في حجرة أخرى ..
واستمرت الزيارة إلى ما بعد منتصف الليل في أحاديث وأفكار غريبة لم أسمعها من قبل
ولا أدري من أية مصادر دينية أتين بها ، واستمرت هذه اللقاءات وأصبحت أصاحب زوجي
إلى هذه الزيارات وفرض عليَّ زوجي أن أرتدي النقاب مع أني لست صاحبة فتنة وجمالي
متوسط بحجة أن أصدقاءه يعترضون على وجودي بينهم بدون نقاب ، فتنقبت وأنا غير
مقتنعة بذلك ولا راضية .. وإنما مرغمة إرضاءً لزوجي وطاعةً له .
وبعد فترة طلب مني أن أستقيل من عملي وألح في
ذلك فقدمت استقالتي منه وأنا أعيش على أمل ألا تطول هذه الحالة الطارئة .. وأن
نعود قريبًا إلى حياتنا الطبيعية ، وأصبحت حبيسة جدران البيت لا أفتح الباب لأحد
ولا أخرج إلا للاجتماعات مع نفس المجموعة ، ولا أسير في الشارع بجانبه كما تفعل كل
الزوجات وإنما خلفه ولا حديث بيننا إلا عن الحرام والحلال فقط .. ولا حديث عن
المشاعر ، ولا الذكريات التي تربطنا .. ولا أي شيء آخر ..
وذات يوم من
أيام الخريف التي ارتفعت فيها الحرارة فجأة ضاقت نفسي بالحر والرطوبة فتوسلت إليه
أن نخرج لنجلس على البلاج كما كنا نفعل في أيامنا الجميلة .. فوافق بصعوبة شديدة
وعلى شرط أن يتم ذلك في المساء وسعدت بذلك وطلبت إليه أن نذهب إلى نفس المكان الذي
شهد أجمل ذكرياتنا وكلي أمل في أن تحرك الذكريات القديمة مشاعره التي ماتت تجاهي ،
وذهبنا إلى نفس المكان في سيدي بشر ولم يكن على الشاطئ سوى أسرة واحدة مكونة من أب
وأم وطفلتين صغيرتين .. وجلسنا نتحدث وأنا بالنقاب الأسود الذي لا تظهر منه سوى
عيني وسط ظلام الليل .. وأردت أن أستعيد ذكرياتنا الجميلة فطلبت منه أيس كريم ،
وغادر البلاج ليشتريه من أحد محلات الشاطئ ورفعت رأسي إلى السماء واستغرقت في
الدعاء إلى الله أن يساعدني على استعادة زوجي الذي أحس بأني فقدته .. وفي هذه
الأثناء كانت الطفلتان تجريان أمامي وما إن اقتربتا مني حتى انتابهما فزع شديد
وصرختا خائفتين فنهض إليهما أبوهما وأمهما فارتمت الطفلتان عليهما وهما ترددان في
خوف ورعب .. عفريت يا ماما .. وبدون أن أشعر وجدت نفسي أنهض إليهما وأرفع النقاب
الأسود وأقول لهما أني إنسانة مثل ماما تمامًا .. وأنه لا داعي لخوفهما ..
واستغرقت تهدئة الطفلتين بضع دقائق عادا بعدها مع أبويهما إلى مجلسهم .. وعدت أنا
إلى مجلسي فإذا بزوجي واقف في جمود يرقب الموقف صامتًا وفي يديه الأيس كريم ويسألني
عن هؤلاء الناس وكيف سمحت لنفسي أن أكشف وجهي أمامهم .. ثم استدار وغادر الشاطئ
دون أن يسمع جوابي وتفسيري لما حدث وأسرعت وراءه وهو لا يتكلم ولا يسمع إلى أن
وصلنا إلى البيت ، وبصعوبة شديدة سمح لي بدخول بيتي ، وحاولت بكل الطرق أن أشرح له
الظروف التي وضعتني في هذا الموقف الحرج لكنه أنهى المناقشة بأني ما دمت قد سمحت
لنفسي بأن أكشف وجهي أمام غرباء فقد أصبحت محرمة عليه وأنه سوف يستشير
"الإخوة" غدًا في ذلك عسى أن يكون لديهم حل لهذه المعصية الكبيرة التي
ارتكبتها .
· ولكاتبة هذه الرسالة أقول :
النقاب ليس
أمرًا واجبًا وهذا هو الرأي المعمول به في الفُتيا .. ولهذا فلن أطيل في هذه
النقطة .. وإنما أقول لكِ إنك لم ترتكبي جرمًا يحرمك على زوجك باضطرارك إلى كشف
وجهك أمام غرباء لتهدئي من روع طفلتين مذعورتين لأن وجه المرأة ليس عورة بإجماع
جمهور الفقهاء .. ولست أريد أن أبتعد عن مشكلتك الخاصة لأغرق في جدل لا طائل تحته
حول ما استقر عليه الرأي وجئنا نحن الآن لنعيد فتح باب النقاش فيه كأنه لم يعد
لدينا من مشكلات الحياة ما يستحق أن نبذل فيه الجهد والوقت سواه أو كأنه لم يبق
لنا من كل شئون الحياة المتعددة والمتشابكة سوى حديث الحلال والحرام وحده مع أن
المحرمات محدودة في القرآن الكريم وليس من حق أحد أن يتوسع فيها أو يضيف إليها ، ومع
أن أئمة المسلمين الأجلاء الذين أفنوا العمر في دراسة علوم القرآن الكريم لم يعطوا
لأنفسهم حق الفتوى بالتحريم لأن تحديد الحلال والحرام في الإسلام لله جل شأنه وحده
، فكان هؤلاء الأئمة العظام يكرهون الإفتاء بأن هذا حرام إلا إذا كان منصوصًا عليه
في القرآن وواضحًا لا يحتاج إلى تفسير ، وكانوا يتحرجون من الإفتاء بحرمة هذا
وتحليل ذاك فيستخدمون عبارات من نوع هذا مكروه .. وهذا لا بأس به .. وكان الإمام
أحمد بن حنبل يرد على سائله في أمر من الأمور : هذا أكرهه .. أو لا أستحسنه .. أو
لا يعجبني تحرجًا من استخدام كلمة التحريم إلا فيما جاء به نص قطعي من القرآن
الكريم فمن أين جئنا نحن بالعلم الذي نتصدى به للإفتاء بالتحريم والتحليل في كل
شيء بهذا اليسر وبهذه السهولة ؟
ثم من يبني
إذًا ويعمر ويكافح الفقر والجهل والتخلف ونحن لا يشغلنا سوى حديث الحلال والحرام
وحده وسوى الإفتاء بغير علم في مثل هذه الأمور وترى كيف انتشر الإسلام من حدود
الصين إلى شواطئ الأطلسي ؟ أبقوم يعملون ويجاهدون ويكافحون ويتحدون الصعاب إلى
جانب عنايتهم بالحلال والحرام أم بقوم متكئين على الأرائك لا يشغلهم سوى هذا
الحديث ؟
لا يا سيدتي لم ترتكبي جرمًا ولقد بالغ زوجك في تزمته حين اعتبرك محرمة عليه لهذا السبب العجيب ، لكنك أخطأت بكل تأكيد حين استقلت من عملك بلا ضرورة من رعاية أطفال أو قيام بأعباء منزلية يعوقك عملك عن الوفاء بها ففقدت بذلك موردًا للرزق الشريف كان يمكن أن تعتمدي عليه في ظروفك الحالية أو في المستقبل وأغلب ظني أن "الإخوة" لم يوافقوه على حرمتك عليه بدليل أنه لم يطلقك حتى الآن .. وهذه كارثة أخرى أن يستفتي زوج كامل الأهلية والإرادة جماعة مهما كان شأنها في أمر زوجته ثم يلتزم بما تشير عليه به كأن مشورتهم حكم واجب النفاذ .. كما أنها كارثة أشد أن يصبح استمرارك معه أو انفصالك عنه رهنًا بمشورتهم بغير أي دور لرأي الزوج وتفكيره المستقل ناهيك عن روابطك الخاصة به وتاريخكما الطويل . على أية حال فإني أتصور أن زوجك غاضب عليك الآن لهجرك بيتك قبل أن يعود إليك "بالبراءة" ولعله يتوقع منك الآن أن تعودي إلى بيتك تكفيرًا عن خروجك منه بغير إذنه فإذا كنت ما زلت تأملين فيه خيرًا فأوفدي إليه من يتفاهم معه على شروط مقبولة منك ومنه للحياة معًا في المستقبل أهمها أن يكون أمره في يده هو وليس في يد أحد غيره مهما بلغ شأنه .. وأن يكون من حقك ألا تفعلي إلا ما تقتنعين بصوابه وابتغاء مرضاة الله وحده .. ثم رضا زوجك من بعده ، وليس التزامًا بتعاليم أحد أو طلبًا للقبول منه ، فإن قبل بذلك فلا بأس باستمرار الحياة معه لأنه سيكون علامة على بداية استرداده لزمام نفسه .
![]() |
بتارخ 1 فبرار 1991 |
راجعها وأعدها للنشر / نيفين علي
برجاء عدم النسخ احتراما لمجهود فريق العمل في المدونة وكل من ينسخ يعرض صفحته للحذف بموجب حقوق النشر