الحقيبة .. رسالة من بريد الجمعة عام 1992
أكاد أصدق أحياناً أن جريمة بعض الأشخـاص لوحيدة التي يحاسبون عليها ويدفعون ثمنها فيمـا يلاقـون من عناء، هـي مجرد أنهـم قـد جـاءوا للحياة! .. وكل أبناء الطـلاق المتسـرع من هؤلاء الأشخـاص، الذين يسددون ديناً لم يقترضوه، ويعاقبـون على جريمـة لم يرتكبوها.
عبد الوهاب مطاوع
أنا آنسة في التاسعة والعشرين من عمري على قدر بسيط من الجمال، أحمد الله عليه، وأنا خريجة معهد عال، ومحجبة وهادئة وخجولة وحساسة جدا .. وأكتب لك هذه الرسالة لكي يقرأها كل أب وكل أم ويحاولا أن يجنبا أطفالها الصغار ما عانيته أنا في حياتي، ولكي يعرفا أن الزواج ليس لهوا ومتعة وإنما حياة مقدسة بكل ما فيها من فرح وحزن وألم وسعادة .. فلقد كان عمری شهرا واحدا حين انفصل أبي عن أمي ومضى كل منهما في طريق مختلف ... وبعد قليل تزوج أبي من أخرى وتزوجت أمي من آخر ، وعرفت فيما بعد أن زوج أمي قد رغب في أن يضمني لبيته ويربيني لكيلا يحرم أمي من طفلتها الوليدة ، فكان رد فعل أبي لهذه الرغبة الإنسانية هو إهانته والإساءة إليه .. ونشبت بعض المشاكل بينهما بسبب هذا الأمر، كان أبي دائما هو البادىء بها فكانت النتيجة أن کرهني زوج أمي وحرم عليها أن تراني أو تنفق علي کما حرم علي زيارتها في بيتها ، وامتثلت أمي لهذا الحكم القاسي منذ كان عمري شهورا .. ومازال الحكم ساريا حتى الآن !
وكانت أمي حين تغلب عليها عاطفة الأمومة وتشتاق لأن تراني ..
تتحايل على ذلك بحجة زيارة أمها وتراني سرا ، أما أبي فلقد انقطع عني نهائيا لا
أراه ولا یراني ولا يسأل عني .. حتى بلغت من العمر ۱۲ عاما وكأنه
بذلك لم يرحمني فيضمنی إليه ويربيني ولم يسمح لرحمة زوج أمي بأن تشملني حين أراد
ضمي إليه ، وكان كل ما يربطني به نفقة ضئيلة لا تكفي لإطعام دجاجة يرسلها لجدتي
بالبريد ، لأنه يقيم في مدينة وجدتي تقيم في مدينة أخرى ، ولن أحكي لك ما عانيته
في طفولتی من آلام ومتاعب ، إلى أن ضاقت جدتي المثقلة بأبناء صغار مات عنهم أبوهم
فاستمعت لنصيحة إحدى خالاتي بان تسلمني لأبي لعله يستشعر مسئوليته عني، وهكذا حملت
حقيبة ملابسي الصغيرة وأنا في الثانية عشرة من عمري وسافرت إلى المدينة التي يقيم فيها
أبي وأمي وكانت هذه هي المرة الأولى التي أرى فيها أبي وأتأكد من ملامحه .
ورحبت بی زوجة
أبي في اليومين الأول والثاني .. وفي اليوم الثالث تراجع الترحيب وأطل الفتور وفي
الأيام التالية ظهر الضيق بي واضحا حين عرفت أني جئت للإقامة الدائمة وليس في
إجازة صيفية قصيرة كما كانت تتصور، فلقد أثارت المشاكل مع أبي وحسمت الأمر بقرار
صارم بألا أبقى في البيت يوما آخر ورضخ أبي على الفور . وحملت حقيبتي مرة أخرى
وانتقلت إلى بيت صديقة لأمي إلى حين البت في أمري وكانت سيدة طيبة ولديها بنتان ..
وجاءت أمي وتمت مناقشة مشكلة وجودي في الحياة وتبودلت الآراء .. ثم استقر الرأي
على أن الحل المناسب هو إلحاقي بمدرسة داخلية .. واستمعت للقرار صاغرة وأنا أسأل
نفسي .. لماذا يا ربي
وأبي وأمي على قيد الحياة وتقدمت بأوراقي للمدرسة ، وانتقلت إليها فعلا ، فإذا
برحمة ربي تهبط علي من حيث لا أدري ولا احتسب ، وإذا بالسيدة الطيبة التي
استضافتنی ترفض هذا الوضع لي .. وتأخذني من المدرسة لأقيم عندها وأنشأ مع بنتيها ،
وفرحت بهذا الحل الذي لم أحلم به وانتقلت إلى بيتها مرة أخرى .. وعاملتني هذه
السيدة بأفضل مما تعامل به بنتيها لأن الرحمة طبع أصيل فيها .. وكانت لي نعم الأم
ونعم السيدة الفاضلة الحنون التي سأحمل لها في قلبي ووجداني کل عرفان وتقدير إلى
أن أموت .
وفي بيت هذه السيدة الطيبة واصلت تعلیمي ..
ووقفت هي إلى جانبي تحثني على النجاح والحصول على الشهادة لكي أحمي نفسي من تقلبات
الأيام ، ومضت السنوات بحلوها ومرها .. وحقيبتي إلى جواری دائما أحملها وأذهب إلى
جدتي في الأجازات لأخفف عن السيدة الطيبة مئونتي بعض الوقت وأنتقل أحيانا بين بيوت
الصديقات في استضافة قصيرة لنفس الغرض .. وأنعم الله علي بصديقات وهبهن الله
الحنان والعطف على من كان في مثل ظروفي فكن يقدرن مشاعري ويوجهن إلي الدعوات من
حين لآخر لقضاء العطلات أو الأعياد أو بعض الأيام عندهن ويرحب بی آباؤهن وأمهاتهن
، وظللت على هذا الحال حتى حصلت على شهادتي العليا فكان أول ما فعله أبي عافاه
الله هو أن قطع عني النفقة الشهرية .. كأنما يقول لي اذهبی وابحثي لك عن عمل ، ولم
أكن في انتظار هذه الإشارة فلقد بحثت بالفعل عن عمل على الفور وتنقلت بين عدة
أعمال وفي هذه الأثناء رآني طبيب يعمل خارج مصر وأعجب بي وتقدم لى عن طريق إحدى
الصديقات ، ورحبت به كأمل لي في أن تكون لي حياة مستقرة وتحرى الطبيب الشاب عن
ظروفي ثم رفض الارتباط بي لأني کما قال من أسرة مفككة بالرغم من أني متدينة وعلى
خلق .. وهو يريد أسرة مستقرة وحسبا ونسبا ... لكن ما ذنبي في ظروفي وأنا لم أردها
لنفسي ولم أصنعها .. لقد كان أهون علي لو قتلني مما لو أجاب بهذه الإجابة مفسرا
سبب رفضه الزواج مني رغم اقتناعه بتدینی وخلقی .
ولقد ساءت حالتي النفسية وكرهت الزواج وندمت
على أني فكرت فيه وتجمعت أحزانی القديمة كلها فدعوت الله وأنا في شدة الضيق .. رب
أخرجني من هذا البلد الذي ضاق بي على اتساعه .. فاستجاب الله لدعائي وحصلت على عقد
عمل في دولة عربية، وتركت مصیري ومستقبلي لله يفعل به ما يريد، وسافرت إلى هذا
البلد وعملت في جمعية نسائية أعمل وأقيم فيها وأمضيت عامين أديت خلالها فريضة الحج
واعتمرت عدة مرات وخلال وجودي بهذا البلد توفيت السيدة الطيبة التي رحمتني حين
ضاقت بی رحمة أبي وأمي، وكان بيتها مفتوحا لي في كل وقت ، فأحسست أني قد فقدت سندا
كبيرا لي في الحياة وبكيتها كثيرا وحزنت عليها طويلا ودعوت لها الله أن يؤجرها
أفضل الأجر والجزاء عما قدمت لي .
ولكاتبة هذه الرسالة أقول :
أكاد أصدق
أحيانا أن "جريمة" بعض الأشخاص الوحيدة التي يحاسبون عليها ويدفعون
ثمنها فيما يلاقون من عناء .. هي مجرد أنهم قد جاءوا إلى الحياة ! وكل أبناء الطلاق
المتسرع من هؤلاء الأشخاص الذين يسددون دينا لم يقترضوه ويعاقبون على جريمة لم
يرتكبوها ، ولعل في رسالتك هذه أبلغ الرد على ما أسمعه أحيانا من كل أم أو أب يفكر
في الإقدام على الطلاق بسبب عدم الوفاق الزوجي ، من أن تأثير الخلافات والمشاحنات الزوجية أبلغ
ضررا على نفسية الأطفال وأخلاقياتهم من عواقب الانفصال والطلاق .. وهي حجة فاسدة
علميا وإنسانيا إذ أنه إذا كان الاختيار بين ضررین فلقد ثبت بالدليل ومن تجارب
الحياة المتكررة أن تأثير تمزق الأبناء بين الأبوين بعد الانفصال أبلغ ضررا
بنفسياتهم وشخصياتهم من التأثير السلبي لنشأتهم في ظل حياة زوجية غير مثالية ، بل
إنه لو لم يكن لاستمرار الحياة بين الأبوين مع سلبياتها من عائد سوی نشأة الأبناء
تحت سقف بيت يظلهم ويحميهم من غوائل الحياة التي يتعرضون لها بعد الانفصال لكفى
ذلك مبررا كافيا لتحمل الأبوين عناء حياتها مها بلغت تعاسة كل منهما بالآخر .
صحيح أن البعض
يؤمنون بما قالته إحدى شخصيات رواية "مسافر بلا متاع" للكاتب والمفكر
الفرنسي جان آنوي من أنه لا خير في الأسرة إذا كانت الروابط بين أفرادها فاسدة ..
أو منعدمة !
لكن هذا لا ينطبق في رأي على الأسرة ذات الأطفال الصغار الذين لا ذنب لهم في فساد الروابط أو انعدامها بين الأبوين ويصدق بالضرورة على الأسرة التي لا أبناء لها .. وقد يصدق في بعض الأحيان على الأسرة التي انتهت مسئوليات الأبوين فيها تجاه الأبناء الكبار، لهذا فقد زادتني رسالتك اقتناعا بما أومن به من أنه ما لم تكن هناك أسباب قهرية يستحيل تفاديها فإن من واجب الآباء والأمهات دائما أن يرجحوا سعادة الأبناء الصغار على سعادتهم الشخصية وأن يحتسبوا تعاستهم عند من لا تضيع عنده الأجور . ذلك أنه ليس التشتت وافتقاد إحساس البيت والانتماء إلى الحقائب بدلا من الانتماء إلى الأسر هو فقط ما يدفعه أبناء الطلاق المتسرع من ضريبة وإنما قد يكون هناك أيضا ذلك الثمن المؤجل الذي دفعته أنت حين تخلى الطبيب الشاب عن الارتباط بك ، هي ضريبة أخرى فادحة تدفعها الفتيات للأسف أكثر مما يدفعها الشبان إذ يتخوف البعض من الارتباط بهن بحجة أنهن "إحصائيا" أكثر تعرضا لاحتمالات الفشل في الزواج من الأبناء الذين نشأوا في أسر مستقرة آمنة تقدس الحياة الزوجية وتستبشع فكرة الطلاق مهما كانت المبررات وهي حجة لها تفسيرها لدى علماء الاجتماع لكن لكل قاعدة استثناء دائما .. ولعلي أومن بأن من عانى مرارة التمزق بين أبوين منفصلين قد يكون أكثر إشفاقا على أبنائه وأكثر رغبة في تجنيبهم محنة طفولته التعسة ، وأنت يا آنستي أبلغ مثال لذلك فالزواج بالنسبة لك يعني ما هو أكثر بكثير من الارتباط برفیق حياة لأنه يعني لك الأمان .. والاستقرار في مرفأ تعود إليه سفينتك بعد طول إبحار وسط الأمواج ، لهذا فمثلك قد تحرص على نجاح زواجها واستمراره أكثر من غيرها والزواج في النهاية هو الحل الطبيعي لمشكلتك .. وأرجو أن يتذكر ، أبواك أن من واجبها "وقد فاتهما الكثير" أن ينشطا لخلق فرصة زواج ملائمة لك تجمع بينك وبين من يستحقك ، كما أنه من الأفضل أن تصرفي نظرا عن السفر لأوروبا وأن تبدئي من الآن مشروعا لشراء شقة في مدينتك تدفعين أقساطها على مهل .. فتزيد من مؤهلاتك للاستقرار إلى أن يأذن الله بحل مشكلتك الحل الطبيعي لها قريبا .. إن شاء الله .
نشرت في جريدة الأهرام "باب بريد الجمعة" عام 1992
راجعها وأعدها للنشر / نيفين علي
برجاء عدم النسخ احتراما لمجهود فريق العمل في المدونة وكل من ينسخ يعرض صفحته للحذف بموجب حقوق النشر