آثار الحب .. رسالة من بريد الجمعة سنة 1995

 آثار الحب .. رسالة من بريد الجمعة عام 1995

آثار الحب .. رسالة من بريد الجمعة عام 1995

من طبيعة النفس البشرية أن تميل أحيانا "إلا من عصم ربي" إلى الاجتراء على الآخرين إذا أمنت سوء العاقبة من جانبهم، وإذا لم يكن الأمر كذلك فليفسر لي أحد لماذا نلتمس دائما أعذار العصبية والانفعالية لأنفسنا في تهورنا على الأعزاء الذين نأمن ردود أفعالهم تجاهنا، ونعتصم في نفس الوقت بضبط النفس مع الآخرين الذين لا نأمن ردود أفعالهم ضدنا إذا تهورنا عليهم بالإيذاء البدني، مع أننا قد نلقي منهم استفزازات أشد عشرات المرات مما قد نلقاه من الأعزاء الضعفاء، ومع أن الشخصية في كلا الحالتين واحدة, ولم تفقد بعض سمات عصبيتها ولا انفعاليتها في التصرف؟

عبد الوهاب مطاوع



منذ فترة طويلة وأنا أفكر في الكتابة إليك لأروي لك قصتي وأختتمها بنداء للآخرين للاستفادة من تجربتي, فأنا سيدة في السادسة والثلاثين من عمري نشأت بمدينة ساحلية في أسرة مكونة من أب موظف كبير وأم ربة بيت وشقيق وشقيقة, وحين بلغت مرحلة الصبا لفت جمالي الأنظار فبدأ الخطاب يطرقون باب أبي فخطبت لمهندس من أبناء المدينة عن طريق الصالون, وفرحت بالدبلة الذهبية والهدايا ومجاملات خطيبي الذي بدا مبهورا بجمالي, وفى هذه الفترة أعير أبي للعمل بالخارج وتوفيت والدتي عقب زواج شقيقتي الكبرى فعشت مع شقيقي وحدنا في مسكن الأسرة ترعانا سيدة عجوز ويرجع إلينا أبي في الأجازات الصيفية .

وحصلت على الثانوية العامة بمجموع ضعيف فالتحقت بمعهد فوق المتوسط لمدة سنتين, فما أن بدأت الدراسة حتى تغير خط حياتي فجأة.. فلقد تعرفت في المعهد بزميل لي اقترب مني على الفور وأحسست تجاهه بضعف عجيب, ولم يلبث أن صارحني بحبه ورغبته في الارتباط بي ففقدت كل مقاومة وغرقت في حبه وتركزت كل آمالي في الحياة فى الارتباط به, وصممت على فسخ خطبتي للمهندس الذي فوجئ بجفائي له وبذل المستحيل ليعرف سر تحولي المفاجئ عنه حتى يئس مني ففسخ الخطبة وانصرف عني حزيناّ ورجع أبي في الأجازة الصيفية فتقدم له فارس أحلامي فلم يصمد لأي اختبار أمامه, فالفتي صغير السن يكبرني بعامين فقط, ولا يملك مالا يتزوج به.. ولا وظيفة له انتظارا لأداء الخدمة العسكرية فرفضه أبي بإصرار ومنعني من الخروج والاتصال به وحان موعد رجوعه لعمله فخشي لو تركني في بيت الأسرة ألا أنقطع عن رؤيته, فأبعدني إلى بيت شقيقتي المتزوجة وشدد عليها أن تراقبني وتمنعني من كل اتصال بفتاي, وسافر مطمئنا إلى ما فعل فلم يمض على سفره أسابيع حتى كنت أنا وفتاي قد حزمنا أمرنا على الزواج بغير علم أبي لنضعه أمام الأمر الواقع.

 

 وفى اليوم المحدد تسللت من بيت شقيقتي إلى بيت شقيق فتاي الأكبر حيث تم عقد القران, ثم ركبنا القطار إلى القاهرة وأقمنا في شقة مفروشة حقيرة حتى انتهت إجازته ورجع للوحدة العسكرية وخرجت أنا للعمل لأواجه الحياة فزوجي لا يعمل.. وما بقى معنا من نقود لا يصمد لأيام فبدأت العمل في محل تجاري ثم تنقلت بين عدد كبير من الأعمال حتى أنهى زوجي تجنيده وعين عن طريق القوى العاملة بوظيفة حكومية صغيرة, وأنجبت طفلي الأول ونحن نتشارب كؤوس الحب والعطف والحنان, وأنا في قمة السعادة رغم أنني قد أصبحت مقطوعة من شجرة بعد أن قاطعني أبي بمجرد علمه بزواجي وانقطع عني شقيقي وشقيقتي وكل أهلي, ورغم الضيق المادي الشديد الذى كنا نعيش فيه واضطراري أحيانا للعمل في عملين صباحا ومساء كل يوم لكي أوفر مطالب الحياة ونسعى إلى الحصول على مسكن بالإيجار.

 

ومضت السنوات بحلوها ومرها, وأنجبت ولدا وبنتا, وفقد زوجي وظيفته الحكومية لعدم انتظامه فيها فواجهنا المستقبل بلا معاش ولا تأمينات ثم بدأ زوجي يعمل بالفنادق, لكنى لم أتوقف عن العمل لكي نستطيع الحصول على مسكن خاص بنا, فعملت فى صيدلية وفى مكتب مأذون, بل وعملت أحيانا كتاجرة شنطة أشتري البضائع من بورسعيد وأبيعها للسيدات في القاهرة حتى أستطعنا بجهد مرير أن نحصل على سكن مستقر, وتصورت أنني قد بلغت أخيرا شاطئ الأمان.. فإذا بفارس أحلامي الذي بعت أبي وأسرتي من أجله يتكشف لي عن شخص آخر تماما, لا صلة له بالشاب الحنون الرقيق العاطفي الذي عرفته في المعهد.

 

فلقد بدأ زوجى يسهر حتى الصباح ويتركني وحيدة مع الطفلين.. ويبيت خارج البيت بالأيام.. ويشرب.. ويكذب.. ويعاملني بعصبية شديدة عند العتاب, ولا يطيق أن أعاتبه في شئ.. أو أذكره بتضحياتي من أجله أو بأنني لم يعد لى أهل سواه وأبي مازال على مقاطعته لى منذ سنوات ثم أصبح لا يتورع عن إيذائي بالضرب المبرح عند كل شجار بيننا, حتى امتلأ جسمي بالكدمات والدوائر السوداء والزرقاء, وحتى ضربني ذات مرة في رأسي فأصبني بفقدان مؤقت للذاكرة عانيت بسببه من النسيان والتوهان فترة طويلة, وإلى الحد الذى أصبحت فيه مشكلتي عند الخروج للعمل هى كيف أخفي آثار الضرب الوحشي عن عيون الناس فأرتدي النظارة السوداء من أكبر مقاس, وألف الإيشارب حول عنقي, وأضع الكريم والبودرة فوق البقع الزرقاء في يدي ووجهي.. وتسألني ولماذا تحملت كل ذلك.. وأجيبك ولمن ألجأ إذا لم أتحمله وأبي يقاطعني, وشقيقي وشقيقتي المتزوجان لا يدريان عني شيئا ولا أريد اطلاعهما على شئ من أمري حتى لا أسمع الرد الوحيد المتوقع وهو أليس هذا من بعتنا من أجله؟!

 

فكانت النتيجة أنني واصلت التحمل إلى النهاية.. وإن كنت قد فقدت صبري مرة أو مرتين حين أشتد إيذاؤه لي فشكوته للشرطة, وقام الضابط بتسوية الأمر وديا وهدده بالإيذاء لو عاد لضربي.. وواصلت الحياة معه.. وتحملت كل شئ ماعدا خيانته لي وعبثه مع فتيات أخريات, إذ كلما لمست شيئا من ذلك أصابني الجنون أن يعرف أحد غيري "وأنا من بعت أهلي وعشيرتي كلهم من أجله"  فيتجدد النزاع بيننا ويعود لاستعمال العنف الشديد معي..

ومنذ أسابيع تشاجرنا معا لنفس السبب فضربني بقسوة حتى عجزت عن النوم على ظهري من الآلام المبرحة, واعتزلته واكتفيت برعاية أطفالي وإعداد الطعام وشئون البيت, فإذا به يرجع للتحرش بي بعد ثلاثة أيام ويهم بالاعتداء علي فصحت فيه بلهجة مريرة أرجوه "من فضله وكرمه" ألا يضربني قبل أن يشفي جسمي من آثار الضرب السابق!! فخجل من نفسه وتراجع.. بل وحاول الاعتذار لي لكني لم أعد أقبل منه اعتذارا.

 

 لقد كرهت حياتي وكرهت كل شئ بل أنني أشعر أحيانا بأنني أكره أولادي أنفسهم لأنهم السبب في احتمالي لكل ما احتملت حتى الآن, كما أنني أفكر كثيرا في طلب الطلاق وأعلم جيدا انه لن يمنحه لي إلا عن طريق المحكمة وأخشى مصيري ومصير أولادي لأنه في النهاية يتكفل بنفقات الأسرة والأولاد.. ولا يبخل عليهم.

وبسبب عدم إحساسي بالأمان معه رجعت للعمل مرة أخرى, وأصبح كل همي هو أن أدخر أجري منه وأشتري به مصوغات ذهبية لأجد ما أواجه به المستقبل المجهول, أما أبي فقد صفح عني منذ أسابيع فقط وبعد 16 عاما من القطيعة وبدأ يحاول أن يعوضني عما عانيته من حرمان, وصارحني بأنه قد حفظ لي حقي في ماله كأخوتي لكنه لن يسلمه لي أبدا وهو على قيد الحياة حتى لا يستولى عليه زوجي أو يبدده.

وهو لا يعلم على أية حال شيئا عما أعانيه مع فارس أحلامي القديم من ضرب وهوان وخيانة.. واستهتار بمستقبل الأولاد فزوجي لا يدخر لأولاده شيئا ويريد أن يشتري سيارة ليتفسح بها مع العابثات ويريد أن يركب تليفونا فوريا ببضعة آلاف من الجنيهات لكي يحرقن دمي كل يوم بالإتصال به وقد منعته بما استطعت من قوة من شراء السيارة وتركيب التليفون وهددته بالانتحار لو فعل فرضخ مؤقتا لإرادتي لكنه لم ييأس بعد.

 

وتسألني إذن لماذا أكتب إليك الآن.. فأقول لك لأن جاراتي يستدعينني كل حين لأحكي لبناتهن قصتي مع فارس الأحلام الحنون وخروجي على طاعة أهلي لكي أتزوجه وكؤوس المر التي تجرعتها معه طوال السنوات الماضية, حتى لا يصدقن الشباب المخادع.. ولا يخرجن على طاعة أهلهن, وقد أعدت رواية قصتي للمرة الألف منذ أيام في بيت إحدى جاراتي فخطرت لى فكرة أن أكتب إليك لكي تنشر رسالتي وتقرأها كل الفتيات وأقول لهن فيها: 



 

ولكاتبة هذه الرسالة أقول:

ما بجسمك يا سيدتي ليس من آثار الحب, وإنما من آثار الحمق والطيش والجنون. بل أني لا أتردد في أن أقول لك أيضا أنه من آثار طبيعة النفس البشرية التي قد تميل أحيانا "إلا من عصم ربي" إلى الاجتراء علي الآخرين إذا أمنت سوء العاقبة من جانبهم, وإذا لم يكن الأمر كذلك في مثل حالتك, وفى الأحوال المشابهة فليفسر لي أحد لماذا نلتمس دائما أعذار العصبية والانفعالية لأنفسنا في تهورنا على الأعزاء الذين نأمن ردود أفعالهم تجاهنا, ونعتصم في نفس الوقت بضبط النفس مع الآخرين الذين لا نأمن ردود أفعالهم ضدنا, إذا تهورنا عليهم بالإيذاء البدني, مع أننا قد نلقي منهم استفزازات أشد عشرات المرات مما قد نلقاه من الأعزاء الضعفاء, ومع أن الشخصية في كلا الحالتين واحدة, ولم تفقد بعض سمات عصبيتها ولا انفعاليتها فى التصرف؟

هل هناك تفسير آخر سوى أننا نعلم جيدا أننا لو استجبنا للطبيعة العدوانية الكامنة في داخلنا تجاه الآخرين, فسوف يردون لنا الصاع صاعين بنفس الطريقة.. ونعلم جيدا أيضا أن أعزائنا الذين نطلق عنان وحشيتنا العدوانية تجاههم لن يستطيعوا أن يردوا على الإيذاء البدني بإيذاء مثله.؟

لا تفسير سوى ذلك مهما أجهد أهل الانفعالية والعدوانية مع الزوجات والأبناء أنفسهم في البحث عن أي تفسير آخر؟

 

وظروفك يا سيدتي كانت ومازالت ظروفا مثالية للضعف والاستضعاف, فلقد قطعت كل جسورك بأبيك وأخوتك وأهلك جميعا, والتصقت بفتاك فارس الأحلام القديمة وبدلا من أن يكون ظهيرك في الحياة بعد أن فقدت كل نصير أدمن الاجتراء عليك بالإيذاء الوحشي عند كل خلاف وهو آمن تماما من كل رد فعل عكسي, فلا أنت قادرة على أن تردي عليه العنف بالعنف ولا أنت قادرة على الاحتماء بأهلك وعشيرتك واستنصارهم عليه ولا أنت قادرة على هجره وحرمانه من استقرار حياته وحياة أطفاله فيتحفظ بعض الشئ في عنفه معك.

وهذا هو درس تجربتك الحقيقي.. فالحب لا شأن له برضوض جسمك ولا بما تردت إليه أحوالك مع فتي الأحلام القديمة لأن الحب صنو الرحمة والعطف والرفق والحنان, لا صنو العنف والضرب والإيذاء وكسور الظهر وندوب الوجه, أما درس التجربة فهو أن أصل البلاء كله فى اجترائك على الخروج على طاعة أبيك وأنت فتاة دون العشرين من عمرها لتتزوجي فتي لم يبلغ الثانية والعشرين من العمر, ضاربة عرض الحائط بكل شئ وطاعنة قلب أبيك في مقتل بلا رحمة وبغير أن تستنفدي معه كل الوسائل لنيل رضاه وتصبري عليه حتى يعدل عن رأيه ولو صبرت عليه عاما أو عامين أو ثلاثة لنلت بغيتك ولما خسرت رضا أبيك لكنها آفة الطيش والتعجل وفقدان البصيرة, وإذا كان بعض الرجال الذين يتزوجون فتيات القلب بهذه الطريقة المعيبة قد يحفظون لزوجاتهم تضحياتهن الجسيمة من أجلهم ويحيطون بهن طوال العمر بالحب والرعاية.. ويسعون بكل جهد لإعادة روابطهن بأسرهن, فإن الكثرة منهم للأسف قد يجدون فى ظروف زوجاتهم حين يفتر الحب أو ينهزم أمام صعوبات الحياة وتحولات المشاعر, ما يغريهم بألا يتحفظوا معهن في فعل أو تصرف وهم آمنون تماما إلى أن البحر وراءهن ولا سبيل أمامهن سوي الاحتمال والصبر على ما جررن على أنفسهن من وبال.

 

ولا عجب في ذلك فقديما قال الإمام أبو حنيفة النعمان رضي الله عنه: "ستحدث للناس أقضية بقدر ما يحدثون من معاص" وأية معصية أشد من خروجك على طاعة أبيك بهذه الخفة والطيش وأية أقضية أخف وطأة من معصيتك من حالك مع زوجك المحبوب الآن.

أما الشخص الآخر الذي تكشف لك فيه بعد معاشرتك له فليس أمرا خارقا للمألوف, لأن شخصية ابن العشرين أو الحادي والعشرين التي استهوتك وتصورت انك قد عرفت كل قسماتها ليست غالبا هي الشخصية النهائية للإنسان التي ترافقه بقيت العمر, وإنما هي الشخصية الملائمة وقتها لحداثة سنه وقلة تجاربه واختباراته في الحياة وهى دائما قابلة للتحولات بعد اكتساب النضج والخبرة والتفاعل مع خبرات الحياة السلبية أو الإيجابية لهذا فمن مألوف الحياة في دولة كالولايات المتحدة مثلا حيث ينتشر إلى حد كبير زواج المراهقين, أن يتهدم هذا الزواج بعد ثلاث أو أربع سنوات على الأكثر ويعيش المطلقون الصغار رجالا وفتيات بضع سنوات بلا زواج, ثم يتزوجون زواجا ثانيا وهم في أعقاب الثلاثين أو بعدها فيكون هذا الزواج هو الزواج الحقيقي الذي يستمر حتى نهاية الرحلة.

 

 أما الزواج الأول فهو زواج العاطفة الهوجاء التي لا مكان لأحكام العقل فيه, فإذا كان زواجك قد استمر فلأننا والحمد لله لا نجترئ على الانفصال طلبا للسعادة الشخصية وحدها دون النظر إلى مسئوليتنا عن الأطفال الذين جئنا بهم إلى الحياة برغبتنا نحن وليس بإرادتهم, وهذا هو تفسير هذا الإحساس الخطير الذي تشعرين به من حين لآخر تجاه أطفالك إذ تعتبرينهم المبرر الوحيد لاستمرار الزواج وتحمل الإيذاء البدني والمعاناة النفسية وهو إحساس غير ناضج ولا سليم على أية حال لأنك وحدك المسئولة عن اختيارك.

 


 تعقيب كاتبة الرسالة الذي أرسلته لصفحتنا على الفيس بوك بتاريخ 5 مايو 2019 أي بعد 24 سنة من نشر الرسالة

·       نشرت في جريدة الأهرام "باب بريد الجمعة" عام 1995

راجعها وأعدها للنشر / نيفين علي


Neveen Ali
Neveen Ali
كل ما تقدمه يعود إليك فاملأ كأسك اليوم بما تريد أن تشربه غداً
تعليقات