مجلس العائلة .. رسالة من بريد الجمعة عام 1985
أنشر هذه الرسالة ليرى فيها المتبرمون بلا سبب وهواة الشكوى والأنين ، والمعذبون بتطلعاتهم إلى ما في أيدي غيرهم وهم يملكون الكثير .. صورة واقعية لحياة لا يسمح لهم أنينهم المستمر بالاطلاع عليها ، وليرضى المنعمون بما نعموا .. ففي تجارب الآخرين نبع لا ينضب من العبرة لكل ذي قلب حكيم.
عبد الوهاب مطاوع
أشعر بشيء من الخجل وأنا أكتب لك هذه الرسالة ..
لأنني سأحكي لك عن مشكلة قد يراها كثيرون مشكلة تافهة لا تستحق الكتابة لكنها
بالنسبة لنا ولأمثالنا مشكلة تزيد من مرارة الدنيا .. فأنا يا سيدي سيدة توفي عني زوجی رحمه الله منذ 3
سنوات وكان موظفا طيبا صغيرا ، وقد رحل تاركا وراءه أربعة أبناء وتاركا لنا معاشا
قدره خمسة وأربعون جنيها هي كل موردنا والحمد لله ، فرتبت حياتنا على العيش بهذا
المبلغ ، وتعاون معي أبنائي فتخلوا عن كثير من مطالبهم التي اعتادوها في حياة الأب
.. ورضوا بكل شيء ورضيت أنا بما قدر الله لنا وشكرته على هذه النعمة وأكبرها في
نظری نعمة صلاح الأولاد وطيبتهم وهم جميعا بالمدارس وبعد وفاة الأب بدأت أشاركهم
معي في كل أمور حياتنا فإذا عرضت لنا مشكلة دعوت الأولاد وتشاورت معهم .. وأحاول
دائما أن أجعلهم يقترحون الحل .. فإذا وافقنا عليه ، فإن تنفيذه يصبح مسئولية
مشتركة بيننا ، ولاحظت أنهم يتحملون مسئوليتهم بأمانة ورجولة رغم أنهم جميعا
تلاميذ بالمدارس الابتدائية والإعدادية , وأصل بعد ذلك إلى المشكلة التي قد يراها
البعض مشكلة تافهة ، فقد كان من بين ما تركه لنا زوجي جهاز تليفزيون أبيض وأسود
أصبح بعد رحيله هو وسيلة الترفيه الوحيدة في حياتنا ، ورغم متاعب الحياة فقد كنا
ننعم كل ليلة بجلسة هادئة أمام التليفزيون بعد أن يذاكر الأولاد دروسهم ثم نذهب
لنومنا راضين .
لكنه حدث أن تعطل هذا الجهاز ثالث أيام عيد
الفطر الماضي أعاده الله على الجميع بكل خير. فسدت نافذتنا الوحيدة على الدنيا
وتوقفت متعتنا الوحيدة .
وكالعادة عقدت مجلس العائلة لحل المشكلة .. وتكلمنا وخرجنا بقرار بتوفير مبلغ جنيه واحد كل شهر لإصلاح التليفزيون مهما كانت الصعوبات لأن التليفزيون هو وسيلة الترويح الوحيدة في حياتنا . وكان الأولاد والحمد الله متعاونين معي ، فنجحنا في توفير ۱۲ جنيها على مدى سنة كاملة .. وبعد أن تجمع لدينا هذا المبلغ الكبير حثني الأولاد على إصلاح التليفزيون قبل شهر رمضان لكي نتفرج على برامجه في ليالي رمضان وأثناء الصيام فخرجت للذهاب إلى مراكز إصلاح التليفزيون القريبة من مسکني ، فكنت أقابل في البداية بالترحيب الشديد ثم عندما يعرفون أن التليفزيون أبيض وأسود يتحول الترحيب إلى سخرية لماذا ؟ قالوا لي إن التليفزيون الأبيض والأسود لم يعد أحد يستعمله .. ولم يعد هناك أحد يصلحه . لماذا ؟ قالوا لي إنه لم يعد له قطع غيار .. ولم يعد هناك أحد مستعد ليضيع وقته في إصلاح جهاز رخيص وثمن إصلاحه رخيص فالجميع يعملون في إصلاح التليفزيون الملون .. لأن قطع غياره متوافرة وأجر إصلاحه كبير .
ولكاتبة هذه الرسالة أقول :
يا سيدتي ضعف الطالب والمطلوب . لقد حلت مشكلتك بأمر الله قبل أن
أنتهي من قراءة رسالتك ، فقد كنت مشغولا بقراءة الرسالة حين جاء لي زائر كريم يطلب
مني أسماء وعناوين بعض من يستحقون معاونته ، فمددت يدي إليه برسالتك ولم أزد . فحلت
المشكلة بإذن ربك في لحظة ولو لم يسارع هذا الزائر الكريم بحلها لتولى بريد الأهرام
الأمر لكنه شاء أن "يستأثر" كما قال لي بإسعاد هذه الأسرة المكافحة :
فلا تقلقي فسوف ترین برامج رمضان "ملونة" بإذن الله ، لكن هذا ليس المهم
.. وإنما المهم هو أنت وأسرتك الرائعة هذه . .
أتعرفين يا سيدتي إنك ربة أسرة متحضرة متنورة تعد
نموذجا يحتذيه الآخرون ؟ أتعرفين أنك تطبقين في إدارتك لهذه الأسرة المكافحة
الشريفة أحدث نظريات التربية وأرقاها ؟ ربما تكونين لم تقرئي كتابا في علم التربية
، لكنك رغم ذلك وبحس حضاري فطري مستمد غالبا من قيمك الدينية الراسخة ومن تنورك وحرصك
على القراءة رغم نقص الإمكانيات ، تقومين بتربية أبنائك تربية سليمة صحيحة ، سوف
تثمر رجالا نافعين وأشخاصا أسوياء على خلق کریم بإذن الله فأنت بحرصك على تشجيع
أبنائك على إبداء
الرأي رغم صغر سنهم في شئون الأسرة .. واقتراح
الحلول وإشراكهم في القراءة تغرسين فيهم القدرة على التفكير والميل للمشاركة ..
والرغبة في تحمل المسئولية .. لذلك يصارعون جميعا إلى تنفيذ ما اتفقت عليه حتى ولو
جاء على حساب مطالبهم الضرورية ، وهذا هو جوهر الشورى والمشاركة والمسئولية .
أتعرفين أيضا إنك بتشجيعك لأبنائك على القراءة رغم
صعوبات الحياة تغرسين فيهم بذور حب المعرفة والاطلاع .. وفهم الواقع والحياة .. أو
ليس هذا هو مقياس الرقي في أي مجتمع ؟.
إنك يا سيدتي تمارسين سلوکا متحضرا في حياتك
وإدارة أسرتك ولابد أن تثمر مثل هذه التربية السليمة أسرة يحب أفرادها بعضهم بعضا
ويتعاونون على تحمل مسئوليتهم في الحياة برجولة وشرف وسلوكك هذا لا يرق إليه بكل
أسف كثيرون ممن يملكون المال ويقتنون منتجات الحضارة الحديثة .. لكنهم بسوقيتهم
وجهلهم وظلام عقولهم أجلاف متأخرون ويؤخرون الحياة من حولهم .. ويزيدون من صعوبتها
على غيرهم بسلوكياتهم المؤسفة .
تسأليني بعد ذلك ولماذا أنشر رسالتك إذا كانت
مشكلتك قد حلت قبل النشر ، فأقول لك أنشرها لأن أسرتك يا سيدتي نموذج رائع لكفاح
أسرة مصرية متحضرة ومثقفة يظللها الحب والتعاطف والصفاء رغم التقشف والإملاق .
وأنشرها
ليعرف من تقولين أنهم لا يعرفون عن حياتنا شيئا .. كيف "تجاهد" أسرة مصرية
لإصلاح تليفزيون قديم .. حتى لتعقد "مجلس العائلة" ثم تطرح المشكلة على
بساط البحث ثم تتخذ قرارا بادخار جنيه واحد فقط لا غير كل شهر . وتنفذ قرارها
بشجاعة وتحمل المسئولية على حساب الضروريات من مطالب الحياة ، فتنجح بعد كفاح مجيد
لمدة سنة طلعت فيها الشمس وغابت 365 مرة
في توفير ۱۲ جنيها مصريا ، وبعد أن يتجمع لديها هذا
المبلغ الكبير تخرج الأم إلى مراكز إصلاح التليفزيون فتكتشف أن جهازها لم يعد
قابلا للإصلاح ، وأن العصر قد تخطاه منذ زمن بعيد ؟ أليست هذه قصة دارمية مكتملة
العناصر ؟.
إني أؤكد لك
إنه لو قدم مؤلف درامي قصتك هذه في تمثيلية تليفزيونية لاتهمناه بالمبالغة
والميلودرامية والرغبة في استدرار الدموع .. لكنها الحياة يا سيدتي أعظم المؤلفين وأكثرهم
ميلودرامية ولكنه أيضا واقعنا الأليم الذي نشفي بالحلم ، في تغييره ذات يوم .
ثم أخيرا أنشرها ليرى فيها المتبرمون بلا سبب وهواة الشكوى والأنين ، والمعذبون بتطلعاتهم إلى ما في أيدي غيرهم وهم يملكون الكثير .. صورة واقعية لحياة لا يسمح لهم أنينهم المستمر بالاطلاع عليها ، وليرضى المنعمون بما نعموا .. ففي تجارب الآخرين نبع لا ينضب من العبرة لكل ذي قلب حكيم.
![]() |
24 مايو 1985 |
راجعها وأعدها للنشر / نيفين علي
برجاء عدم النسخ احتراما لمجهود فريق العمل في المدونة وكل من ينسخ يعرض صفحته للحذف بموجب حقوق النشر