الجوهرة الغالية .. رسالة من بريد الجمعة سنة 2001
إن من يرى نفسه جوهرة غالية لن يرضى لها بأقل من شهب السماء .. في حين قد يقبل من لا تغيب عنه حقائق الأمور بما هو ملائم له ولو لم يكن مبهرا في أعين الآخرين بالإضافة إلى أن التحسب الشديد للفشل قد يعجز الإنسان عن محاولة النجاح والخوف الزائد من التعاسة قد يحرم المرء من المخاطرة بطلب السعادة وبعض الحكماء يقولون أن الشيطان قد يغري الإنسان لكي يحرمه من فرص السعادة، بألا يقبل لنفسه ما دون الحد الأقصى من الأشياء.. فتكون النتيجة أن يعجز عن الحصول عليه.. ويحرم نفسه في ذات الوقت من نيل المتاح له في حينه.
عبد الوهاب مطاوع
أنا فتاة في التاسعة والعشرين
من عمري, جميلة
ومثقفة وانحدر من أسرة عريقة
وأنا وحيدة أبي وأمي, ويعتبر أبي هو كبير عائلته وبيته هو البيت
الكبير بالنسبة لبقية الأهل, ولأنني وحيدة فلقد نشأت مدللة بعض الشيء, وإن لم يكن ذلك التدليل الذي يفسد الطبع والخلق..
وإنما نشأت فقط وأنا
أشعر بأنني جوهرة أبي وأمي بل
وبقية العائلة.. ولقد لاحظت منذ طفولتي أن إحدى قريباتي
الحميمات قد رزقت بزوج صعب المعاشرة ويسيء معاملتها.. وعلاقتها به متوترة معظم الأوقات, ففي كل فترة تقع مشاجرة حادة
بينهما تهجره بعدها لفترة
ويتدخل أبي وأمي لدى زوجها
وتعود إليه من أجل الأبناء.
ولقد رويت لك عن
هذه القريبة لأن لقصتها مع زوجها أثرا فيما سوف أرويه لك بعد ذلك عن نفسي, ذلك أنني منذ أن بلغت
التاسعة عشرة من عمري بدأ جمالي يلفت الأنظار إلي وبدأ الخطاب يطرقون بابي.. وكنت أرفض فكرة الارتباط بحجة
الدراسة ويؤيدني أبي في ذلك.
وبعد تخرجي بعام التقيت بشقيق إحدى صديقاتي وأعجبتني شخصيته وتقدم لخطبتي ورحبت به, لكن أبي وأمي وأفراد أسرتي ثاروا ضدي واتهموني بسوء الاختيار وأكدوا لي أنه طامع في ليس أكثر, فسلمت لهم أمري ورفضت خطبته.
وبعد فترة أخرى تقدم لي قريب رحب به أهلي وتمت خطبتي له.. ومضت حوالي سنة على الخطبة فوجدت نفسي لم أشعر تجاهه بالحب فأصررت على فسخ الخطبة بالرغم من حزن أهلي لذلك.. وتكرر ذلك بنفس التفاصيل تقريبا من سن 22 عاما إلى سن 28 عاما, ففي كل عام خطبة سعيدة وخطيب جديد أرحب به في البداية, وأتخيل أنه الاختيار الأمثل, ثم قبل موعد الزفاف المتفق عليه بشهور أو أسابيع أتراجع عن إتمام الزواج وأفسخ الخطبة, وأصر على ذلك مهما تكن الأحوال حتى بلغ عدد المرات التي خطبت فيها وتم فسخ الخطبة وإعادة الدبلة 6 مرات.
وقد تسألني عن أسباب ذلك فأقول لك إن اقترابي من مشاكل قريبتنا مع زوجها منذ كنت طفلة صغيرة قد غرس في قلبي الخوف من سوء الاختيار والاعتقاد بأن الزواج يكون قبر المرأة إذا لم تحسن اختيار زوجها.. لهذا فأنا أتردد في الحسم والاختيار وأتساءل: هل هذا الإنسان هو الاختيار السليم لي أم لا.. كما أنني لم أتعود منذ الصغر على اتخاذ القرارات, حيث كان أبي وأمي يتخذان القرارات لي ابتداء من نوع الدراسة إلى موعد الأكل إلي نوعية الملابس.. إلى اختيار الصديقات حتى أصبحت لا أستطيع أن أحدد ماذا أريد ولا ما هو المناسب لي.. وهكذا بلغ عدد خطباتي المفسوخة ستا, ثم حدث أن ذهبت مع صديقة لي إلى محل للمجوهرات لشراء هدية في عيد الأم, فالتقت صديقتي مصادفة بشخص عرفتني به وقالت لي إنه صديق شقيقها, وانصرف كل منا إلى حال سبيله. وفي اليوم التالي أبلغتني صديقتي أن هذا الشخص معجب بي ويريد أن يتقدم لخطبتي.. ولأنني كنت قد أعجبت به أنا أيضا فقد رحبت بذلك, وجاء لزيارتنا وحكي عن نفسه أنه مطلق وله طفل صغير يقيم مع والدته وأنه رجل عصامي بدأ حياته العملية من الصغر إلى أن أصبح رجل أعمال ناجحا .. إلخ.
وبعد انصرافه أنفجر طوفان الغضب من جانب أبي وأمي وعمي, وأجمعوا على أنه غير مناسب لي, غير أنني صارحتهم بتمسكي بهذا الرجل بالرغم من ظروفه, لأن كل إنسان قد يصادفه الفشل في حياته الزوجية, وكما أن البداية المتواضعة لا تعيب أحدا وتمسكت بموقفي إلى أن وافق أهلي وتم عقد القران. وبعد عقده بشهر دعانا عمي إلى العشاء عنده وذهبت إليه مع خطيبي, فالتقينا هناك بأحد أقاربي البعيدين ولاحظت أن زوجي قد استاء لرؤيته وبعد انصرافنا طلب مني إلا أزور هذا القريب البعيد لأنه أحد منافسيه في السوق وعلاقته به متوترة, وتطورت المشادة بيننا فإذا به يهددني بالطلاق إن لم أمتثل لإرادته, فشعرت بالإهانة وعدم الأمان والتزمت الصمت حتى رجعت للبيت.
وكتمت هذه الواقعة عن أهلي,
لكيلا يجدون فيها دليلا على صحة تقديرهم خاصة أن له سابقة طلاق من
قبل.
وفي اليوم التالي زار بيتنا فلم
أقابله بحجة المرض واتصل بي تليفونيا ليعتذر ويطلب مني نسيان ما
حدث, لأنه خلاف عابر ولم يكن يقصد ما قاله وأنا لا أدري هل أخطأت الاختيار فأطلب منه أن يسرحني بإحسان وأتراجع عن هذا
الارتباط خاصة أن أهلي إذا
عرفوا بما حدث سيحبذون الانفصال..
أم ترى هل أكمل مشروع الزواج وأتكتم ما حدث عن أهلي خاصة أنني
أحبه, لكني فقط أخشى أن أكون مخطئة في اختياري بسبب هذا الموقف!
ولكاتبة هذه الرسالة أقول:
وما هو الذي حدث
يا آنستي لكي تراجعي اختيارك وتتشككي فيه ؟ لقد قبلت بظروفه العائلية كمطلق وله طفل صغير, وبظروفه الاجتماعية كعصامي
بدأ حياته من الصفر, ولم
تتوقفي أمام ذلك بالرغم من تحفظات الأهل.. فماذا جد إذن لكي تعيدي النظر في الاختيار بعد عقد القران ؟ مجرد
مشادة قصيرة حول أمر عابر اعتذر لك عنها وأكد أنه لم يكن يعني ما قاله لك خلالها ؟
ولماذا تعتبرين
إشارته للطلاق إذا لم تمتثلي لإرادته في هذا الأمر العابر دليلا علي استسهاله للانفصال..
ولا تعتبرين في الوقت نفسه فسخك لست خطبات متتالية, دليلا أنصع على استسهالك الأشد له ؟
لقد أحسنت تحليل بعض أسباب ترددك في الحسم والاختيار في مسألة الزواج بإرجاع ذلك إلى تخوفك القديم من ظهور شبح التعاسة الزوجية الذي اقتربت منه خلال الطفولة في حياتك, وإلى عدم اعتيادك اتخاذ القرارات في حياتك الشخصية اعتمادا في ذلك علي أبويك, وأريد أن أضيف إلى ذلك أن الاعتداد الزائد بالنفس في مثل ظروفك قد يجعل الاختيار صعبا أمام المرء في بعض الأحيان, لأن من يرى نفسه جوهرة غالية لن يرضى لها بأقل من شهب السماء.. في حين قد يقبل من لا تغيب عنه حقائق الأمور بما هو ملائم له ولو لم يكن مبهرا في أعين الآخرين.
بالإضافة إلى أن التحسب الشديد للفشل قد يعجز الإنسان عن محاولة النجاح والخوف الزائد من التعاسة قد يحرم المرء من المخاطرة بطلب السعادة وبعض الحكماء يقولون أن الشيطان قد يغري الإنسان لكي يحرمه من فرص السعادة, بألا يقبل لنفسه ما دون الحد الأقصى من الأشياء.. فتكون النتيجة أن يعجز عن الحصول عليه.. ويحرم نفسه في ذات الوقت من نيل المتاح له في حينه.
وأحسب أن هذا ما قد يؤول إليه حالك إذا استمررت في مسلسل التردد المرضي على طريقة الأمير المعذب هاملت في إتمام ما تبدئينه من مشروعات الارتباط إلى ما لا نهاية, خوفا من الفشل أو طلبا للأفضل! وسواء أكان اختيارك بشريك حياتك هو الاختيار الأمثل لك.. أو لم يكن فإن المؤكد في مثل ظروفك هذه هو أن مجرد الحسم والاختيار والإقدام على التجربة وطلب السعادة والسعي إليها سواء حالفك التوفيق أم تخلى عنك لا قدر الله, هو أفضل في النهاية من ضياع العمر في التردد والخوف من الفشل, فاحسمي أمرك يا آنستي وتجاوزي عن هواجسك ومخاوفك وشدة اعتدادك بنفسك, لكيلا تفسدي علي نفسك فرص السعادة والاستقرار, وثقي بأنك لن تنالي الفوز في النهاية إلا إذا خضت المباراة وكافحت لإحراز النصر..
أما المتفرجون على الحياة فإنهم قد ينجون من الخسارة فعلا, لكنهم لا يحرزون الفوز أبدا!
راجعها وأعدها للنشر / نيفين علي
برجاء عدم النسخ احتراما لمجهود فريق العمل في المدونة وكل من ينسخ يعرض صفحته للحذف بموجب حقوق النشر