جفاف النبع .. رسالة من بريد الجمعة عام 1999
كل
شيء في الحياة يولد صغيرا ثم يكبر إلا الأحزان فإنها تولد كبيرة ثم تضمحل تدريجيا حتى
تهدأ وتتحول إلى شجن رفيق لا يحول بين صاحبه وبين ابتهاجه بالحياة.. وليس من صحة
النفس والوجدان أن يبتسر الإنسان هذه الدورة الطبيعية أو يتعجل انقضاء مراحلها قبل
الأوان، وإنما عليه أن يرعى حزنه في صمت وصبر حتى يستوفي دورته محتسبا أسباب
أحزانه عند ربه وداعيا إياه أن يخفف عنه ما يضيق به صدره.
عبد الوهاب مطاوع
أنا زوجة وأم
تزوجت منذ ثماني سنوات من رجل طيب وكريم الخلق ويرعى الله في عمله, وعشنا معا
حياة دافئة بالحب والمودة والحنان, بفضل حبي لزوجي وحب زوجي لي, إلى جانب
طبيعته المرحة والودودة, فلقد أسبغ زوجي على حياتنا قدرا كبيرا من البهجة بطيبته
وخفة روحه .. وحبه لي.. وكان دائم الضحك والمرح معي .. ولا يكف عن مغازلتي
كل يوم بكلمات الحب الجميلة كأننا خطيبان في فترة الخطبة الأولى .. بل وكان أيضا
يكتب الشعر في حبي ويقرأه علي لأنه من هواة كتابة الشعر وإلقائه, وبعد إنجابي
لطفلي الثاني وجدت أنني لا استطيع الاستمرار في عملي كموظفة حكومية وحصلت على
أجازة بدون مرتب لكي أرعى الطفلين ثم أنجبت الطفل الثالث فأصبحت مسئوليتي أكبر
ومددت الأجازة لفترة أخرى لكي أقدم لأطفالي ما يحتاجون إليه من رعاية واهتمام
وحنان.
ومضت بي الحياة
حافلة بالمشاغل اللذيذة من رعاية الأطفال.. وتلبية مطالبهم وفض اشتباكاتهم
الصغيرة.. وتنظيم أوقات طعامهم.. ولهوهم.. ونزهاتهم, وزوجي يرجع من عمله
فيتفرغ لمداعبة الأطفال.. ومداعبتي, ويصطحبهم لشراء الحلو والألعاب الصغيرة أو
لشراء متطلبات البيت, ومن حين لآخر يدعونا للخروج كلنا في زيارة عائلية أو إلى
إحدى مدن الملاهي.. أو إلى المشي في الشارع بلا هدف.. ويجد دائما ما يعلق عليه
بظرف وخفة دم فتمضي نزهتنا في مرح حتى نعود.. ومنذ عام واحد رحلت عن الحياة
والدته يرحمها الله فحزن لرحيلها وبكي كثيرا وغابت الضحكة عن وجهه.. وشاركته
حزنه وتعاطفت معه, وبدأ يكثر من السفر إلى بلدته, ليزور أخويه اللذين يكبرانه
واللذين ربياه من بعد أبيه حيث مات والده وهو طفل صغير, ويزور قبر والدته ويرجع
واجما حزينا, فأرقبه في إشفاق وأدعو له الله أن يترفق به.
وانتظرت أن يتخفف
زوجي الحبيب من حزنه مع الأيام وبدأ بالفعل يستعيد بعض حماسه السابق بعد عدة
أسابيع, فإذا به يصدم صدمة أخرى برحيل شقيقه الأكبر عن الحياة.. وازدادت
أحزانه بدلا من أن تهدأ, ورجع للسفر إلى بلدته كل خميس ليرعى شئون أسرة شقيقه
ويزور قبور الراحلين ويرجع من رحلته حزينا مهموما..
واشتد إشفاقي على
زوجي مما يشعر به من وحشة وألم لفراق والدته وشقيقه الذي كان يعتبره أبيه..
وتمنيت أن تسرع الأيام في سيرها لكي تبعد الذكرى وتهدأ الأحزان.. لكن الأيام
جاءت بما لا تشتهي السفن وصدم زوجي صدمته الثالثة بعد بضعة شهور أخرى .. ففجع
برحيل شقيقه الذي يلي أخاه الأكبر في السن بغير سابق إنذار .. فاستقرت الكآبة في
نفسه.. وانشغل بالسفر كل بضعة أيام إلى بلدته ليرعى شئون أسرتي شقيقيه.. وبيت
العائلة ومصالح الأسرة لأن شقيقه الأصغر لا خبرة له بالتعامل مع المصالح الحكومية.
وشجعته على القيام
بواجباته العائلية تجاه أسرته.. وتحملت غيابه وبعده عنا في صبر والتمست له العذر
في انشغاله بشئون عائلته لأنه يمر بظروف قاسية.. ولأن أخويه اللذين رحلا عن
الحياة بعد أمهما في فترة قصيرة كانا إلى جانب أمه كل شيء له في لحياة, لكن
المشكلة اتخذت شكلا آخر أدى إلى تغير صورة الحياة في أسرتنا.. فلقد تغيرت أشياء
كثيرة في شخصية زوجي خلال هذا العام, وبعد أن كان دائم الضحك والمرح والدعابة..
أصبح دائم الحزن والاكتئاب والتجهم, وبعد أن كان هاديء الطبع طويل البال أصبح ضيق
الصدر وشديد العصبية ويثور وينفعل لأتفه الأسباب..
وبعد أن كان
يغازلني كل يوم بأجمل كلمات الحب ويكتب الشعر في حبي أصبح صوته يعلو علي بكلمات
قاسية.. ويسبني بألفاظ بشعة, بل لقد رفع يده علي لأول مرة في حياته خلال
الفترة الأخيرة عدة مرات.
:ولكاتبة هذه
الرسالة أقول
نعم سترجع بإذن
الله.. ولكن بعد أن تقوم الأيام بدورها المقدور في مداواة الجراح.. وتهدئة
الأحزان, فكل شيء في الحياة يولد صغيرا ثم يكبر إلا الأحزان فإنها تولد كبيرة ثم
تضمحل تدريجيا حتى تهدأ وتتحول إلى شجن رفيق لا يحول بين صاحبه وبين ابتهاجه
بالحياة.. وليس من صحة النفس والوجدان أن يبتسر الإنسان هذه الدورة الطبيعية أو
يتعجل انقضاء مراحلها قبل الأوان, وإنما عليه أن يرعى حزنه في صمت وصبر حتى
يستوفي دورته محتسبا أسباب أحزانه عند ربه وداعيا إياه أن يخفف عنه ما يضيق به
صدره.
أما نبع الحنان
الذي جف في قلب زوجك.. فإن ماء النبع قد يغيض إذا شحت موارده الطبيعية.. لكنه
قد يفيض كذلك من جديد كسابق عهده أو أغزر إذا تلقى شحنة إضافية من مصادره الجوفية.
ومهمتك الآن يا سيدتي هي أن تعيني ماء هذا النبع على التدفق من جديد بصبرك على
أحزان زوجك وتعاطفك معه.. وتسامحك مع ما طرأ على روحه وشخصيته من تغيرات جوهرية
صنعتها هذه الأحزان المتتالية خلال فترة قصيرة من الزمن. اذ يبدو لي انك قد
تعجلت قبل الأوان عودة زوجك إلى طبيعته المرحة السابقة معك, وتفرغه الكامل
لأسرته وأطفاله.. ومداعباته الماضية وغزله الرقيق لك كل يوم, وأنحيت عليه
باللائمة لانصرافه عنك وعن أسرته إلى الانشغال بشئون عائلته ومسئولياته الأدبية
والمادية الجديدة في وقت مبكر بالنسبة لمثل هذا الحساب والعتاب, ففتح ذلك باب
الجدال والشقاق بينكما وفوجئت أنت بردود فعله الانفعالية والعصبية لمثل هذا اللوم
الذي يبدو له كنوع من عدم التقدير لظروفه الجديدة من جانبك أو كنوع من الأنانية
الشخصية في ظروف تتطلب منك بعض الصبر وبعض التضحية.. وغاب عنك في شدة تلهفك الى
استعادة الأيام السعيدة الخالية مع زوجك وغزله الشعري والنثري لك كل يوم, أن
التعاسة كما يمكن أن تقرب بين الناس حين يتعاطفون مع من يعانيها.. فإنها أيضا
يمكن أن تفرق بينهم إذا استشعر المهمومون قلة صبر المقربين منهم على همومهم, أو
عدم احترامهم لأحزانهم.
والأحزان الكبيرة
تورث صاحبها فتور الروح تجاه ما كانت تبتهج له قبل أن تداهمه عاصفة الهموم,
وتورثه قلة الصبر على الجدال والخلاف والمضايقات, وتكسبه ضيق الصدر والحدة
والانفعالية الشديدة.. ولهذا فإن أفضل ما تتعاملين به مع زوجك الآن هو الصبر على
ما أغور روحه من فتور تجاه الأشياء, والتسامح مع عصبيته وانفعاليته الطارئة التي
لا تعبر عن شخصيته الحقيقية بدليل سجله السابق معك طوال سنوات الزواج, وتجنب
الجدال والشقاق معه, وتأجيل المطالب والمحاسبة واللوم إلى أن تهدأ فورة أحزانه..
ويتقبل واقعه الجديد ويتآلف معه, ومحاولة إشعاره بالتضحية ببعض اعتباراتك الشخصية
مراعاة لأحزانه ومسئولياته وهمه الذي يفعل الكثير بروح الإنسان وليس بجسمه فقط..
حتى قال عنه المتنبي في أشعاره
الهم يخترم الجسم
نحافة ويشيب ناصية الصبي ويهرم
وقال عنه الانجليز
في أمثالهم انه الشيء الوحيد الذي يقتل القطة التي اشتهرت عند العامة بأن لها سبع
أرواح.
ولهذا فإن المحزون
يحتاج إلى التعاطف والتسامح معه والصبر عليه أكثر مما يحتاج إلى كل ذلك خالي البال,
وليس إلى التشاحن معه والشقاق والمحاسبة والعتاب, أما أيام السعادة والمرح
وكلمات الغزل الرقيقة فلسوف تعود مرة أخرى إلى حياتك, وبقدر ما تصبرين على زوجك
حتى يتجاوز هذه الفترة العصيبة من حياته, فالقلب الطروب لا يفقد ابتهاجه بالحياة
إلى غير رجعة إذا اعتصرته بعض آلام الحياة.. وإنما يخلص الحزن لما يستحق منه
الحزن له.. ثم يستعيد عافيته من جديد وإقباله على الحياة بعد فترة ملائمة من
الوقت, ويخلص الابتهاج أيضا بما يدعو إلى البهجة والاحتفاء به من أسباب الحياة.
فاصبري يا سيدتي
وانتظري
فإن قضي اليوم
وما قبله ففي الغد الحي.. صباح الحياة!
كما يقول أبو
القاسم الشابي .. وشكرا
· نشرت في جريدة الأهرام "باب بريد الجمعة" عام 1999
راجعها وأعدها للنشر / نيفين علي
برجاء عدم النسخ احتراما لمجهود فريق العمل في المدونة وكل من ينسخ يعرض صفحته للحذف بموجب حقوق النشر