صورة الزفاف .. رسالة من بريد الجمعة عام 1984
هذه الرسالة تلقيتها وقرأتها فتصورت نفسي اقرأ قصة رومانسية يغالب فيها البطل أقدارا أقوى منه ويبحث عن النجاة فيها في العثور على أب غائب يتنقل بين أنحاء العالم ناسيا وراءه في ركن من الدنيا ابنا لا يعرفه .
هل اخطأ من قال يوما أن الزمن هو أعظم المؤلفين ؟ لا أظنه اخطأ في ذلك فما تنسجه الدنيا أحيانا من قصص درامية يفوق كثيرا في غرابته ما ينسجه بعض المؤلفين .
عبد الوهاب مطاوع
وجدت نفسي طفلا وحيدا لا
أخ له ولا أخت .. يلعب في بيت واسع مزدحم بالأقارب .. لي أم ككل الأطفال .. ولي أب
طيب يعطف علي . لهوت كما يلهو الأطفال .. وتعلمت في المدرسة كما يتعلمون ولم
يستوقفني كثيرا في طفولتی أن أبي يبدو بالنسبة لي اكبر مما ينبغي لطفل في السابعة أو
الثامنة .. أو أنه ليس شابا کآباء أصدقائي في الشارع أو المدرسة . وذات يوم كنت ألعب
في غرفة نوم أمي فعثرت بين أوراقها على صورة قديمة لها بفستان أبيض إلى جوارها رجل
غريب .. تفرجت عليها بإمعان ثم حلت الصورة الغريبة إلى إحدى خالاتي وسألتها ببراءة
: من هذا الرجل ؟ فأجابت بعفوية أنه أبوك . وكأنها أحست بأنها أخطأت فصمتت ورفضت الإجابة
على أسئلتي الكثيرة .. أبي ؟ من يكون إذن هذا الرجل الذي أقول له "يا بابا"
منذ ولدت ؟
وبعد إلحاح مني وبعد فترة
طويلة عرفت أنه جدي لأمي وعرفت أن أبي الحقيقي منفصل عن أمي من قبل ولادتي وعرفت أنني
ثمرة زواج لم يستمر أكثر من عدة شهور تحطمت سفينته بعدها على صخرة الانفصال .. وأن
كلا من الزوجين قد شق طريقه بعيدا عن الآخر.
ولن تصدقني إذا قلت لك أنني
لم أتوقف طويلا عند هذه المفاجأة القاسية .. فلم أبك أو أنهار وإنما واصلت حياتي
العادية .. لكني بين حين وآخر بدأت افتقد هذا الأب الغائب وأتذكر ملامحه التي
رأيتها للحظات في صورته فقد اخفيت الصورة بعد ذلك ولم أرها مرة أخرى قبل سنوات
طويلة .
وفي سن السابعة عشرة بدأت
أحس بحنين غريب إلى هذا الأب شبه المجهول بالنسبة إلي وضاعف من احتياجي إليه أنه
في هذه السن كان جدي الطيب قد رحل من عالمنا و كانت خالاتي وأخوالي قد تزوجوا
وتركوا بيت الأسرة ولم يعد فيه سواي وسوى أمي .
وبالرغم من ذلك فقد اجتزت هذه المرحلة الحرجة من العمر بآلام
كثيرة وخسائر قليلة.
وأكملت دراستي وتعرفت على زوجتي خلال الدراسة وأحببتها
ثم تقدمت لأسرتها لكي أخطبها واكتشفت في هذه الفترة مرة أخرى أهمية أن يكون للإنسان
أب .. فهو الذي يدبر لك أمورك في هذه المناسبة الهامة في حياتك وهو الذي يشير عليك
بما تفعل ربما تقول وهو الذي يصحبك في لقاء التعارف الأول مع أسرة الخطيبة فتقدمه
لصهرك بفخر قائلا أبي الأستاذ فلان .. ثم تنسحب أنت إلى الظل ويتكلم الكبار فيما
بينهم عن المهر والشبكة والشقة وموعد الزواج ، ولن تعرف يا صديقي هذه المرارة إلا إذا
جربتها بنفسك .. مرارة أن تجد نفسك وحيدا في هذه المناسبة كأنك مقطوع من شجرة ..
لكن هذا حديث آخر .
المهم أني تزوجت وأنجبت من زوجتي وعشت حياة هادئة سعيدة
والحمد لله لكني بدأت ألاحظ على نفسي منذ ذلك الحين اهتمامي الشديد الذي لا استطيع
أن أقاومه بتسقط أخبار أبي والبحث عنه .. بدأت استجوب أقاربي عنه وارتب المعلومات
الضئيلة عنه .. واضع خططا للبحث عنه كما يفعل المخبرون الخصوصيون في الحلقات
البوليسية الأجنبية.
وعرفت أنه كان مهندسا وأنه عقب انفصاله عن أمي غادر مصر
وعمل في أوروبا لعدة سنوات ، وأنه تزوج من ألمانية وأنجب منها ثلاثة أبناء ، وعلمت
انه عمل عدة سنوات في السودان وعدة سنوات في ليبيا .. ثم علمت أنه استقر بصورة
نهائية منذ سنوات في استراليا .
وطرقت أبواب أقاربه المحدودين في مصر سائلا عنه فرفضوا
مساعدتي بأية معلومات عنه وكان موقفهم مني عدائيا بالرغم من إني لا أريد منه شيئا
.
وذات يوم سمعت أنه
في مصر حاليا ضمن فوج سیاحی قادم من الخارج هو وزوجته وأبناؤه الثلاثة "إخوتي"
الذين لا اعرفهم ولا يعرفونني .. وعرفت أن الفرج يقيم في فندق "کوزمو بوليتان"
بالقاهرة كان الخبر قد وصلني قرب منتصف الليل .. فلم انم الليل بطوله وفي السادسة
صباحا ارتديت افخر ثياب .. وجمعت من الصالون كل التحف الصغيرة الموجودة به وافخر
زجاجة كولونيا لدي ولففتها جميعا في ورقة هدية زاهية اللون وكتبت عليها إهداء مناسبا
، ثم حملت الهدية وأسرعت إلى الفندق .. تقدمت إلى موظف الاستقبال وسألته عن الفوج
فقال لي في هدوء لقد غادر الفوج الفندق في الثالثة صباحا ليلحق بطائرته التي تتحرك
في السادسة والنصف .. نظرت إلى ساعتي فوجدتها تقترب من السابعة .. وفوجئت بدمعة
تسقط فوق زجاج الساعة .. لا اعرف كيف أفلتت من عيني .. فحملت هديتي وانصرفت متعثرا
خجلا من موظف الفندق .
تسألني يا
صديقي هل أخطأت ببحثك عن أبيك بعد كل هذه السنوات فأجيبك على الفور : لا لم تخطيء
فهذا حقك المشروع في أن تحاول الالتقاء بأبيك والتعرف عليه ، وإبلاغه ، أن له ابنا
مكتمل الرجولة وسيما ناجحا عطوفا يحمل مشاعر البنوة لأب لم يعرفه .. بل أن رغبتك
في التواصل مع أبيك هي رغبة نبيلة في حد ذاتها من ابن تجاه أب لم يتلق منه شيئا من
الرعاية والحنان أو المسئولية المادية .. وأكثر نبلا منها هو انك لا تريد منه شيئا
سوى أن تعطيه كتفك ليتوكأ عليi في شيخوخته وذراعك ليستند إليه .. ولعلك تثير
أشجان الكثيرين برسالتك هذه ممن أعطوا كل شيء لأبنائهم ثم بحثوا عنهم في شيخوختهم
ليتوکأوا عليهم فلم يجدوهم .. أو وجدوهم لاهين منصرفين عنهم إلى حياتهم
ومشغولياتهم . وهذه مفارقة أخرى من مفارقات الدنيا الغريبة .
فأنت تبحث عن أب لا تعرف له عنوانا .. وأبناء كثيرون لا يبحثون عن آباء وأمهات يعرفون جيدا عناوينهم وأرقام تليفوناتهم .. المهم أني مع تقديري لمشاعرك لا أريد أن تكرس حياتك لهذا الهدف وحده .. فلقد أرضيت ضميرك وأديت واجبك تجاه أبيك فان نجحت في الاتصال به فهو شيء جميل وإن فشلت الجهود فعش کما عشت من قبل وكما يعيش الكثيرون ممن حرموا من آبائهم وأمهاتهم وقدم لأبنائك ما حرمت منه أنت واحرص على حياتك لكي لا تعرضهم لما تعرضت له أنت وهذا هو درس التجربة المفيد، أما مساعدتي لك فالحق أنى لست كبير الأمل في إمكان مساعدتك لكن هناك أملا واهيا هو أن يقرأ قصتك هذه أحد قراء الأهرام المقيمين في استراليا فيكتب إلي طالبا اسم أبيك .. فإذا حدث ذلك فإن الأمل يصبح كبيرا لان المصريين في استراليا منظمون في جمعيات ولهم أماکن تجمعات معروفة يسهل الاهتداء إليهم عن طريقها فعسى أن يتحقق هذا الأمل الواهي .. ويجمع الشمل مع تمنياتي لك بالسعادة في كلتا الحالتين .
راجعها وأعدها للنشر / نيفين علي
برجاء عدم النسخ احتراما لمجهود فريق العمل في المدونة وكل من ينسخ يعرض صفحته للحذف بموجب حقوق النشر