الكلمة الأخيرة .. رسالة من بريد الجمعة عام 1998

 الكلمة الأخيرة .. رسالة من بريد الجمعة عام 1998

الكلمة الأخيرة .. رسالة من بريد الجمعة عام 1998

كلمتك الأخيرة في بعض الأمور ..  ينبغي أن تكون ككلمتك الأولى فيها‏ ..‏ وهي الرفض والاعتذار.
عبد الوهاب مطاوع


أكتب إليك لأروي لك قصتي الغريبة مع الحياة وأستشيرك فيها‏..‏ فأنا سيدة شابة في العشرينيات من عمري‏,‏ ومع ذلك فقد شهدت حياتي من الأحداث ما قد لا تشهده حياة سيدة بلغت الستين من عمرها‏,‏ فقد كنت قبل سبع سنوات فقط فتاة جميلة سعيدة بحياتها ونفسها‏,‏ ويشهد لي الجميع بالأخلاق والسمعة الطيبة‏,‏ وقد تقدم لخطبتي شبان كثيرون وأنا طالبة بالجامعة‏,‏ وكان لابد لي من أن أقبل بأحدهم فاخترت شابا من جيراننا لمست فيه الأخلاق والإيمان والحنان وتمت خطبتنا وبعد فترة قصيرة من ارتباطنا وجدتني أحبه بجنون‏,‏ أما هو فلم أشعر بحبه لي وإنما أحسست بأنه قد ارتبط بي لحسن سمعتي وأخلاقي وجمالي فقط‏,‏ فحاولت أن أقربه إلي وبذلت في ذلك مجهودا كبيرا‏,‏ وصبرت على حدة طباعه وتغاضيت عن رأيه في الحب وكيف انه لا يؤمن به ولا يؤمن سوى بالزواج والمودة بين الزوجين .. الخ.

 

‏ ومضت فترة الخطبة بحلوها ومرها‏,‏ وفي أحد الأيام أحسست بأنه يريد أن يصارحني بشيء مهم ويتردد في إبلاغي به‏,‏ فشجعته على أن يحدثني بكل ما في صدره‏,‏ وأكدت له أن مشاعري تجاهه لن تتغير مهما يكن الأمر‏,‏ فاعترف لي بأنه غير قادر على الإنجاب وأنه قد تأكد من ذلك بسبب تناوله لبعض العقاقير التي أثرت بالسلب على خصوبته‏,‏ فأكدت له أن حبي له أكبر حتى من رغبتي في الأمومة وأنني متمسكة به للنهاية‏,‏ فصمت لبعض الوقت ثم قال لي أنه يشك أيضا في قدرته على القيام بواجباته الزوجية بعد الزواج‏,‏ فكان ردي عليه هو أن  ارتباطي به مسألة غير قابلة للمراجعة أو النقاش مهما تكن ظروفه الصحية وأن كل أمنيتي في الحياة هي أن أعيش إلى جواره في بيت واحد‏,‏ وحددنا موعدا للزواج ورتبنا أن يتم عقد القران ظهر يوم الزفاف‏,‏ ويقام الحفل في المساء‏,‏ وبدأنا في الإعداد للزواج‏,‏ واقترب الموعد المرتقب فذهبت مع أسرتي للقيام بتنظيف مسكن الزوجية استعدادا لفرشه واندمجت في أعمال التنظيف وغسيل النوافذ وأنا في قمة السعادة‏,‏ فإذا بي وأنا أقوم بتركيب حبال الغسيل في الشرفة أفقد توازني فجأة وأسقط منها فلا أشعر بنفسي إلا وأنا ممددة على الأرض وأعاني من آلام رهيبة في عظامي وجسمي كله‏..‏ وانقلبت الفرحة إلى تعاسة وحزن‏,‏ ونقلت إلى المستشفى وأنا في أسوأ حال‏,‏ وبدأت رحلة الآلام والعذاب‏,‏ ولم تكشف الاشعات عن كسور خطيرة تحتاج إلى جراحات‏,‏ وقرر الأطباء تجبيس ساقي وأن ألتزم بالراحة التامة لعدة شهور‏,‏ ثم يبدأ بعدها العلاج الطبيعي والتزمت بما قرره الأطباء وكان خطيبي خلال ذلك يقف إلى جواري ويشد من أزري فساعدني ذلك على تحمل الألم‏,‏ وبدأت مرحلة العلاج الطبيعي فإذا بي أشعر بعد فترة بألم شديد في ساقي‏,‏ واستشرت الطبيب فأكد لي ضرورة إجراء أكثر من عملية جراحية فيها وامتثلت لأقداري‏,‏ وأجريت لي أولى الجراحات‏,‏ وبعد بضعة شهور أجريت لي الجراحة الثانية‏..‏ ثم الثالثة‏,‏ واستغرق ذلك عاما وشهرين وتركت الجراحات الثلاث أثرا خفيفا في مشيتي‏,‏ ولم يكن ذلك هو الذي آلمني وإنما كان موقف خطيبي مني خلال هذه المحنة‏,‏ فلقد مل الانتظار والعمليات والإقامة الطويلة في المستشفى,‏ فتخلى عني وفسخ الخطبة‏,‏ وتركني ذليلة الفراش في المستشفى بعد الجراحة الثالثة‏.‏

 

ومهما أقل فلن أستطيع أن أصف لك ما شعرت به من ألم وتعاسة خلال هذه الفترة الكئيبة من حياتي‏,‏ لكني على أية حال جاهدت بقوة إيماني بالله علي استعادة توازني وغادرت المستشفى إلى بيتي ‏..‏ وراودني الأمل المعذب في أن يراجع خطيبي نفسه ويرجع عن موقفه الغادر مني‏,‏ فصدمت بأنه قد خطب فتاة أخرى وحدد موعدا للزواج منها‏,‏ وانهار الأمل الأخير في حياتي وانطويت على آلامي وأحزاني وكرهت الحياة والغدر وقلة الوفاء في الناس‏.‏

 وتزوج خطيبي السابق من فتاته‏,‏ وبعد بضعة شهور تقدم لي جار لنا يعرفني جيدا ويعرف خطيبي السابق وقصتي معه‏,‏ وطلب الارتباط بي وصارحني بأنه يحبني منذ زمن طويل وكان يعتزم التقدم لخطبتي لولا أن سبقه إلي ذلك خطيبي السابق‏,‏ وأسعدني أن أسمع ذلك منه ووجدت فيه بعض التعويض عما حدث لي‏ ..‏ واعتزمت أن أهبه كل إخلاصي وعطائي‏,‏ ووجدت فيه إنسانا طيب القلب وحنونا‏,‏ فرحبت بالزواج منه‏,‏ وسعدت أسرتي بذلك وشجعتني على سرعة إتمام الزواج‏,‏ وكان عريسي جاهزا بالشقة وإمكانات الزواج‏,‏ وكنت أنا جاهزة من قبل باستعدادات الزواج الذي لم يتم فحددنا موعدا قريبا للزفاف وتم الزواج ووجدت في شريكي الزوج والأخ والحبيب ولم تمض شهور حتى كنت قد حملت‏,‏ وعشت متاعب الحمل اللذيذة‏,‏ وسعدت بحب زوجي وحنانه وعطفه‏,‏ وجاء موعد الوضع‏,‏ فدخلت المستشفى ومعي بعض أفراد أسرتي نظرا لغياب زوجي في سفر قصير سيرجع منه بعد يومين وتمت الولادة بسلام وأنجبت طفلتي الجميلة الحبيبة‏,‏ وسعدت بها سعادة طاغية وترقبت موعد وصول زوجي بنفاد صبر وتخيلت اللحظة التي سيدخل علي فيها الغرفة‏,‏ ويرى فيها طفلته لأول مرة‏,‏ لكن اليوم الأول بعد الولادة مضى ولم يأت زوجي‏,‏ ومضى اليوم الثاني كذلك ولم يظهر له أثر بالرغم من تأكيد أسرتي أنها قد أبلغته بالولادة وأنه قادم في الطريق وبغير أن أطيل ترقبك للأحداث فاني أقول لك وباختصار يا سيدي أن زوجي الشاب الطيب العطوف لم يأت أبدا ولم ير طفلته الوليدة قط لأنه قد أصيب في حادث تصادم مؤلم وهو في طريق العودة‏,‏ ولقي وجه ربه بعد ساعات من وقوع الحادث وانقلب الفرح في حياتي مرة أخرى إلى حزن وتعاسة وعذاب‏.

 

ولا تسلني لماذا حدث ما حدث‏,‏ أو لماذا تختصك الأقدار وحدك بهذه الأحداث الفاجعة‏,‏ وأنت مازلت شابة صغيرة‏,‏ لأنني قد سألت نفسي ذلك آلاف المرات وأنا أتجرع كأس المرارة والألم وأرى طفلتي الوليدة التي لم تر أباها ولم يرها بين ذراعي‏.




وإني أصارحك يا سيدي إنني لم أنس بعد تذللي له لكيلا يتركني عقب جراحتي الأخيرة‏,‏ وأسألك هل أستطيع حقا أن أرجع إلى من خان الحب‏,‏ ولم يرحم ضعفي ودموعي وذلي حين كنت في أشد الحاجة إليه؟‏..‏ إنه ينتظر كلمتي الأخيرة في الموضوع‏,‏ ويخيل إلي أنه يشعر بأنني سأضعف معه في النهاية وأقبل به‏,‏ لكني مازلت مترددة وغير راغبة في الارتباط به بعد أن غدر بي‏,‏ فبماذا تنصحني أن أفعل‏..‏ وبماذا تقول لي عن أقداري المحزنة هذه‏,‏ وبماذا تنصحني أن أفعل بحياتي‏..‏ لقد كتبت لك ثلاث مرات من قبل فأرجو ألا تبخل علي بردك هذه المرة لأنني في أشد الحيرة من أمري والسلام عليكم ورحمة الله‏.‏

 

ولكاتبة هذه الرسالة أقول‏:‏

 

كلمتك الأخيرة في هذا الأمر ينبغي أن تكون ككلمتك الأولى فيه‏ ..‏ وهي الرفض والاعتذار عن عدم القبول بهذا الشخص زوجا لك مهما يحاول استدرار عطفك عليه أو إقناعك بغير ذلك‏..‏ أما أسبابي لهذا فهي أن كلمتك الأولى وإن كانت بالفعل تعبيرا انفعاليا عن عمق مراراتك القديمة تجاه هذا الشخص‏,‏ إلا أنها تعكس في تقديري صوت العقل في هذا الخيار المطروح أمامك الآن‏.

‏ وأما ترددك بين الرفض والقبول فهو يعكس مؤثرات العاطفة القديمة لديك تجاه هذا الشخص‏,‏ ومؤثرات إحساسك المؤلم بالانكسار أمام ظروفك المأساوية الحالية‏,‏ والرغبة المحرومة في التعلق بالأمل في الخروج من آثار المحنة التي تعيشينها كما تعكس أيضا الشك في قدرتك علي مواجهة أقدارك بعد ما شهدته حياتك من فواجع وأنت في هذه السن الصغيرة‏,‏ واليأس من حقك المشروع في بدء حياة جديدة مع إنسان لا تعكر صفو مشاعرك تجاهه مثل هذه المرارة المتأصلة‏.‏


ولأن أحكام العقل تتميز دائما بثبات نسبي‏,‏ ولا تتغير عادة إلا لأسباب منطقية مقنعة‏,‏ في حين تخضع مؤثرات العاطفة ومؤثرات الظروف المحزنة المؤقتة التي تعيشينها لقانون التغير‏,‏ فإن الأقرب إلى التصور هو أنك قد تقبلين بعد بعض التردد بهذا الشخص بتأثير نداء العاطفة القديمة ومؤثرات ظروفك المؤلمة الحالية‏,‏ لكنك على الناحية الأخرى سوف تجدين نفسك بعد فترة ليست طويلة من الزمن وقد شحب تأثير العاطفة عليك بتأثير مؤثرات الحياة المشتركة مع شخص حاد الطباع كما تقولين عنه‏,‏ ويرجح اعتباراته الذاتية على كل شيء ولو أدى ذلك إلي إيلام الآخرين وإتعاسهم كما فعل معك في غدره بك وأنت في أشد الحاجة لوقوفه إلي جانبك في محنتك الأولى‏,‏ ويعجز عن العطاء العاطفي لمن تشاركه رحلة الحياة كما صرح هو بنفسه عن عدم إيمانه بالحب‏,‏ فيؤدي كل ذلك ومع ما تنطوين له عليه من مرارة متأصلة لخسته معك وخذلانه لك‏,‏ إلى أن تعتبريه ذات يوم قريب المسئول الأوحد  عن تعاستك السابقة قبل الارتباط به‏,‏ وتعاستك اللاحقة بعد معاشرته‏,‏ بل وإلى اعتباره كذلك المسئول الأكبر عن أقدارك الحزينة وترملك المبكر ويتم طفلتك الوحيدة لأنه لو لم يتخل عنك في محنتك لما ارتبطت أنت بمن شاءت لك الأقدار الارتباط به والإنجاب منه‏,‏ وكل ذلك لا يرشحكما معا لحياة زوجية ناجحة ومستقرة‏,‏ ولا يرشحك أنت للسعادة بها أو الرضا عنها بل لربما ضاعفت تعاستك اللاحقة من مرارتك تجاهه وقضت على البقية الباقية من ضعفك العاطفي القديم معه فتتحول حياتك الجديدة إلى جحيم آخر لا يعوضك عن أحزانك السابقة وإنما يضاعف منها‏.

 

‏ فلماذا ترشحين نفسك لهذا العناء يا سيدتي‏,‏ وقد كفاك ما رشحته لك أقدارك الحزينة قبل ذلك من شقاء وآلام‏..‏ إن المرارة التي تنطوين عليها لهذا الشخص ليست مما يسهل على امرأة أن تتجاوز عنه في علاقتها بشريك حياتها‏.‏ وطباع هذا الشخص وقيمه الأخلاقية وأنانيته‏..‏ وقلة وفائه ونقص شهامته كل ذلك لن يرشحه لإعانتك على نسيان هذه المرارة القديمة أو إذابتها‏..‏ وليس تقدمه إليك طالبا الارتباط بك دليلا صحيحا على أن رؤيته للحياة قد تغيرت تغير إيجابيا أو انه قد تخلي عن بعض أثرته وأنانيته‏,‏ فهو في تقديري لم يصدر في ذلك عن ندم صادق على سابق غدره بك‏,‏ ولا عن أسف حقيقي على الحب الذي لم يعترف به من قبل وتخلي عنه‏,‏ بغير أن يرق لدموعك بين يديه وإنما قد صدر في ذلك عن موقف أناني أيضا لا يختلف كثيرا عن موقفه حين قرر أن ينأي بنفسه عن مشاكلك وجراحاتك وفترات علاجك الطويلة وأنت طريحة الفراش في المستشفي‏..‏ فلقد رجع إلى النبع القديم الذي سبق له أن بصق فيه ليشرب منه من جديد بعد أن جفت المنابع الأخرى من حوله‏,‏ وفشلت تجربته في الزواج بمن فضلها عليك لأنها قد رفضته وآثرت ألا تصبر علي مشكلته في الإنجاب أو مشاكله الأخرى‏,‏ والمثل الروسي يقول لا تبصق في البئر القديمة لعلك تضطر إلي الشرب منها ذات يوم‏.‏ وهو قد فعل عكس ذلك وجاء يخطب ودك الآن‏.

 

‏ فإذا كان قد جاء إليك لأنه كما يزعم لك يحبك ولم يحب أحدا سواك‏,‏ فلأن سواك قد رفضه وخذله وتخلى عنه في محنته كما فعل هو معك من قبل‏..‏ ولأن أقدارك الحزينة قد أغرته بك ومهدت له الطريق لحل مشكلته بالزواج بمن تقبل بظروفه‏,‏ ولا تفرط فيه بسبب الإنجاب بالذات لأنها قد أنجبت بالفعل‏.‏ ولقد كان من الممكن أن يكون ذلك حلا مشروعا لمشكلته لو لم يكن سجله معك مخزيا على هذا النحو‏,‏ فإذا كنت تشعرين ببعض الإشفاق عليه لبكائه بين يديك‏,‏ فلقد بكيت أنت أيضا بين يديه من قبل ولم يرحم ضعفك‏,‏ ومع اختلاف جوهري مهم بين الحالتين هو أنك حين بكيت بين يديه كان هو صانع تعاستك والمسئول الأوحد عنها‏..‏ وحين بكي هو أمامك لم تكوني أنت صانعة مشكلته ولا المسئولة عنها‏..‏ ولهذا فهو المدين لك‏,‏ ولست المدينة له بأي شيء يا سيدتي‏,‏ ومن واجب من يخطيء في حقنا ـ اذا كان إنسانا فاضلاـ أن يعتذر لنا عن خطئه بالكلمة والفعل‏,‏ ومن واجبنا نحن ـ إذا كنا نرجو لأنفسنا أن نكون من أهل الفضل والتسامح أن نقبل بالاعتذار ونصفح عمن أساء إلينا‏,‏ لكن ذلك على الناحية الأخرى لا يرتب للمخطيء السابق أية امتيازات لدينا وليس اعتذاره هذا سوى تصحيح للخطأ وإبراء للذمة منه‏,‏ ولا يحق له أن يطالب لنفسه اعتمادا علي ذلك بأية أفضلية له لدينا‏..‏ ولذلك فاني أقول لك في النهاية ان من الأفضل لكل منكما أن يبدأ حياة جديدة مع طرف آخر لم تشهد علاقته به مثل هذه الأحداث الفاجعة‏,‏ ولا يحمل أحدهما للآخر بعض ما تحملينه لهذا الشخص من مرارة دفينة‏..‏ فلا تهدري سنوات أخرى من العمر الذي شهد كل هذه الأحزان مع من لن ترشحك الحياة معه إلا للمزيد منها وانتظري تعويض السماء لك عن كل ما عانيت منه‏..‏ بعد أن استوفيت نصيبك كاملا من الشقاء والأحزان في هذه السن الصغيرة‏..‏ والسلام‏.‏ 

 

 ·       نشرت في جريدة الأهرام "باب بريد الجمعة" عام 1998

راجعها وأعدها للنشر / نيفين علي


Neveen Ali
Neveen Ali
كل ما تقدمه يعود إليك فاملأ كأسك اليوم بما تريد أن تشربه غداً
تعليقات