في المنفى .. رسالة من بريد الجمعة عام 1985

 
في المنفى .. رسالة من بريد الجمعة عام 1985

في المنفى .. رسالة من بريد الجمعة عام 1985

إن الضرب لم يكن فى يوم من الأيام هو الوسيلة المثلى للتربية ولا الوسيلة الناجحة للتقويم والإصلاح .. فضلاً عن آثاره السلبية على نفسية الأبناء التي تخلق فى النهاية أبناً جباناً .. كذوباً .. غير أهل للثقة ولا للاعتبار فإنه يولد فى نفس الابن إحساساً داخلياً بالتحدي يدفعه غالباً للإصرار على الخطأ مع مداراته كنوع من الانتقام النفسي ممن آذاه نفسياً وبدنياً .. وهو أيضاً يغير من معايير الخطأ والصواب لديه فيصبح الخطأ في تقديره أن "يعرف" الآخرون ما يفعل لا أن يرتكبه .. ويصبح الصواب هو ألا يعرف أحد بما يفعل لا أن يتوقف عنه, وفى هذا اختلال خطير للقيم.

عبد الوهاب مطاوع

تحيرني رسائل معينة أتلقاها من شباب في عمر الزهور تتردد فيها دائما کلمات غريبة من نوع : "يكرهني إخوتي بلا سبب" "لا أحد يحبني في أسرتي حتى أبي وأمي" "لا أحد يشعر بی في أسرتي فكل منا مشغول بنفسه عن الآخرين" "أريد أن أسافر بعيدا لكي لا أرى أحدا من أفراد أسرتی" .. إلى آخر هذه العبارات المؤلمة.. وأتوقف أمام هذه الظاهرة متفكرا ومنزعجا في الوقت نفسه !

 

 صحيح أن صغر السن يطبع أحيانا أحكام الإنسان بطابع انفعالي لا يخلو من قدر كبير من المبالغة والتوهم، وإن مثل هذه المشاعر ترتبط غالبا بسن المراهقة وهي سن الأوهام والوساوس والشعور الزائد بالذات، إلى حد يسمح بكثير من التصورات غير الصحيحة، لكن رغم ذلك لا أستطيع أن أتجاهل ارتفاع نسبة هذا النوع من الرسائل في بریدی كمؤشر لظاهرة لا أستطيع الحكم عليها بسهولة.. لكن أبسط ما يقال عنها أنها تعكس إلى حد كبير جفاف العلاقات الأسرية وخلوها من الدفء الإنساني في حالات عديدة .. ولربما يستطيع الخبراء أن يفسروا لنا هذه الظاهرة.. وأسبابها.. وإلى أي حد ترتبط بطبيعة العصر الذي نعيشه والذي ينكفيء فيه كل إنسان على ذاته غالبا، أو بتسلل وانتشار قيم الفردية والذاتية.. وعلاقات الغابة إلى حياتنا، فمن المؤلم أن يحمل

بعض الشباب هذا الإحساس المدمر لأقرب الناس إليهم.. وأن يعيشوا أجمل سنوات عمرهم وهم يعانون الإحساس "بالنفي" داخل مجتمعاتهم الصغيرة.. كالزائدة الدودية بالنسبة لجسم الإنسان.. كما أنه من المحزن أيضا أن يشعر أحد بأنه "عبء".. على أسرته وليس "عضوا" فيها له ماله من حقوق وعليه ما عليها من واجبات، فهذا الإحساس الخطير هو سبب العديد من الكوارث التي يرتكبها بعض "المنفيين" داخل أسرهم من هؤلاء الشباب.

 

 ولقد كنت أتردد طويلا في نشر أمثال هذه الرسائل حرصا على العلاقات الأسرية.. لكني قررت أن أنشر هذه الرسالة لأنها تلقى ضوءا على خطأ خطير من أخطاء التربية يفتح الباب بغير شك لمثل هذه المشاعر المدمرة.

تقول كلمات الرسالة التي تلقيتها من طالبة جامعية:

 

 قد تبدو مشكلتي هذه مؤلمة للبعض، وقد تبدو تافهة في نظر البعض الآخر، لكنها على أي حال مشكلة حياتي التي تؤرقني.. والمشكلة یا سیدی ببساطة شديدة أنني طالبة بالسنة النهائية بكلية التربية وعمري الآن ۲۱ سنة، أي أنني بلغت سن الرشد منذ شهور.. ومع ذلك فإنني مازالت إلى الآن أُضرب "بضم الألف" .. ضربا مبرحا من أمي عادة ومن أبي في بعض الأحيان .. طبعا تتعجب لهذه المشكلة.. لكنها حقيقية فمنذ وعيت وأنا أُضرب ضربا مبرحا وبكل الوسائل.. والتي تضربنی هي أمي غالبا.. وعندما كنت في الصف الأول الابتدائي وفي الصف

الثاني الابتدائي کنت أضرب بخبط رأسي في الحائط بعنف، وفتحت رأسي مرتين، وكانت أمي حين تطلب مني عمل شيء فأرفض لطفولتي أو أنسی کانت تضربني بخرطوم مياه، بعد تكتيفي في أرجل المائدة ولا ترحمني وهكذا استمرت حياتي.. وقد اعتقدت إنه عندما أتقدم في دراستي فإنها سوف تبعد عنى ولكن للأسف لم يحدث ذلك فحصلت على الابتدائية بمجموع 95٪ واستمرت أمي في ضربی! ولم أستطع أن أشكو لأحد لأنني كنت أخجل من أن تعرف صديقاتي أنني أضرب بالخرطوم وبرجل الكرسي أحيانا.. وجاءت مرحلة الدراسة الثانوية وثقلت همومها لأنها صاحبت بداية مرحلة المراهقة ولم تقف أمي بجواری لکي أعبر هذه المرحلة الحرجة بسلام، وعندما شاهدتني أرد تحية أحد جيراني في العمارة خلال مروره بي في الشارع .. أخبرت أبي الذي ضربني ضربا رهيبا، وصبرت إلى أن

ظهرت نتيجة الثانوية العامة وكنت أتمنى أن أحصل على مجموع كبير لألتحق بجامعة خارج مدينتي وأبعد عن أسرتي.



ولكاتبة هذه الرسالة أقول:

انتهت كلمات الرسالة.. فإذا أستطيع أن أقول لصاحبتها ! إن الكلام غير مجد في رأيي مع مثل هذه الأم حجرية المشاعر، ولا مع مثل هذا الأب، لكن مع ذلك أقول لها إن الضرب لم يكن في يوم من الأيام هو الوسيلة المثلى للتربية ولا الوسيلة الناجحة للتقويم والإصلاح.. فضلا عن آثاره السلبية على نفسية الأبناء التي تخلق في النهاية أبنا جبانا .. كذوبا.. غير أهل للثقة ولا للاعتبار فإنه يولد في نفس الابن إحساسا داخليا بالتحدي يدفعه غالبا للإصرار على الخطأ مع مداراته كنوع من الانتقام النفسي ممن آذاه نفسيا وبدنيا .. وهو أيضا يغير من معايير الخطأ والصواب لديه فيصبح الخطأ في تقديره هو أن يعرف الآخرون ما يفعل لا أن يرتكبه.. ويصبح الصواب هو ألا يعرف أحد بما يفعل لا أن يتوقف عنه، وفي هذا اختلال خطير للقيم فضلا عن أن اعتماد أسلوب الضرب في التربية عموما يبلد المشاعر ويميت الإحساس.. بدليل أنك تضربين في الداخل وتضحكين في الخارج بسعادة مرضية والشاعر يقول: "ما لجرح بميت إيلام" وقد ماتت مشاعرك تحت وطأة رجل الكرسي ومع كثرة خبط الرأس في الحائط ولا حول ولا قوة إلا بالله.

 

ولا ذنب لك في ذلك.. فالمسئولية مسئولية أمك سامحها الله. والحق أن التربية قضية لا عذر فيها لأب أو أم.. فإذا كان مستوى البعض لا يسمح له بالاطلاع على أحدث نظريات التربية فلدينا نظرية لا تحتاج إلى دراسة ولا إلى بعثات دراسية.. ومع ذلك فهي أكثرها حكمة ورشادا وهي النظرية البسيطة التي أرسى قواعدها الرسول الكريم وتتلخص في هذه الخطوات الحكيمة:

لاعب ابنك سبعا.. وأدبه سبعا.. وصاحبه سبعا.. تم أترك حبله على غاربه.. أي دعه لشأنه ولكن لا تحرمه من رعايتك ونصحك عند الضرورة.

تری کم منا "اكتشفوا" هذه النظرية الصالحة على مر الأجيال في التربية! وكم منا يعمل بهديها وكم تنبه إليها وسط زحام النظريات والمناهج؟

على أي حال قولي لأمك يا صديقتي إنه قد آن الأوان لأن تتوقف عن تطبيقاتها العجيبة "لنظرياتها" الخاصة في التربية وساعديها على ذلك بالالتزام الدقيق بالسلوكيات السليمة فإن لم تستجب.. ففي مجتمعات أخرى تعاني من كل أمراض العصر.. تعتبر الدولة الطفل

مواطنا تلتزم بحمايته حتى من أسرته إذا أساءت التصرف معه.. وفي هذه المجتمعات يساءل الأب .. وتساءل الأم أمام قاض مختص عن أسباب قسوتها التعليمية على أبنائها.. فإذا ثبت له عدم صلاحيتها الرعاية أطفالها فإنه ينزع الأطفال منها ويودعهم دور التربية التابعة للدولة والتي تتوافر فيها كل سبل الرعاية والإشراف العلمي والاجتماعي على الأطفال.. ويشقى الآباء والأمهات بعد ذلك لإثبات "صلاحيتهم" لرعاية أبنائهم لكي تسمح لهم السلطات مرة أخرى باستعادة أبنائهم، فما بالنا نحن بالقسوة الوحشية التي تسمح بضرب فتاة رشيد على عمودها الفقري كل حين!

 

على أية حال لابد من طريقة لإيقاف هذا الأذى ولو كنا في مجتمعات أخرى لقلت لك إن مثل هذه المشكلة هي من صميم اهتمامات أساتذتك في الكلية.. واهتمام الأخصائيين الاجتماعيين فيها.. ولكني أعرف أننا هنا لا يعرف الأساتذة الطلبة.. ولا يعرف الطلبة الأساتذة لكي يبثوا لهم مشاكلهم الخاصة.. فاستعيني بالأهل لإقناع أمك وأبيك بخطأ هذا الأسلوب.. وواصلي الصبر والاحتمال إلى أن تتخرجی وسوف تتغير معاملة أسرتك لك عقب التخرج والعمل غالبا لأن بعض أسرنا بكل أسف تحدد مستوى تعاملها مع أفرادها بمدى استقلالها الاقتصادي عنها! وأسرتك فيما أتصور مازالت تعاملك كعبء عليها.. وسيزول هذا العبء بعد العمل .. فاصبري قليلا ورکزي جهدك في الدراسة إلى أن تزول هذه الغمة.. وقلبي معك!

·       نشرت في جريدة الأهرام "باب بريد الجمعة" عام 1985

راجعها وأعدها للنشر / نيفين علي

Neveen Ali
Neveen Ali
كل ما تقدمه يعود إليك فاملأ كأسك اليوم بما تريد أن تشربه غداً
تعليقات