ليالي الجفاف .. رسالة من بريد الجمعة عام 1995
سأبدأ بالرسالة الأصلية يليها تعقيب كاتبها بتاريخ 28 يونيو 2021
أدمن / نيفين علي
أكتب إليك يا سيدي عن مشكلة لا تخصني وحدي, وإنما
تخص أسرة بأكملها أملاً في أن توجهنا للصواب فيها.
فأنا طالب
في السنة النهائية بإحدى الكليات النظرية, وقد جئت إلى الحياة فوجدت نفسي عضواً في
أسرة من خمسة أفراد هم : أنا وشقيق وشقيقة وأب وأم, ونحن نقيم في شقة لا تزيد
مساحتها على41 متراً مربعاً ومكونة من حجرتين وصالة صغيرة وحمام مشترك مع الشقة
المجاورة لنا, ومطبخ به شباك صغير يعد المنفذ الوحيد للشمس والهواء في هذه الشقة
الضيقة كالجُحر .
ومع أن الشقة مكونة من حجرتين, فإذا أبي "وهو
غريب الطباع" يستقل بحجرة منهما وحده منفرداً بنفسه , وعندما يريد معاشرة أمي
فإنه يسمح لها بالنوم عنده تلك الليلة فقط, أما باقي الأيام فنتكدس جميعاً في
الغرفة الأخرى, فأنام أنا وشقيقي على فراش ضيق لا يسمح لأحدنا بأن يتقلب, وتنام
أختي على كنبة نسميها فراشاً, وتفرش أمي في الأرض فراشاً تنام عليه بين الكنبة
والسرير, وما أكثر الليالي التي تنتاب أمي فيها نوبات اكتئاب وبكاء متصل لا تدري خلاله
بما تقول, فتسب أبي وتتحسر على زواجها وتحكي لنا كيف طلقت منه مرة في بداية زواجها
منه بسبب مصروف البيت, وكيف باتت ليالي عديدة تلعن اليوم الذي تقدم فيه لخطبتها
وتشكو لنا من بخله, وكيف أنها إذا اشترت أي شئ من احتياجات البيت فلا بد أن تقدم
له فاتورة حساب بقيمة ما اشترته, وإذا تبقي معها عشرة قروش من ثمنه استردها منها
بلا حرج, فنلتف نحن حول أمي نهدئها ونطالبها بمزيد من الصبر إلى أن تمر نوبة
الاكتئاب بسلام .. فلا تمضي أيام حتى تعاودها مرة أخرى، ويخيم الهم والضيق علينا
من جديد.
والحق أننا كنا على استعداد لأن نصبر على ظروفنا
ونعتبر أبي بطلا يعلمنا رغم سوء الظروف , لولا شئ واحد سوف تدهش له, وهو أنه ليس
فقيرا ولا معدماً كما قد تتصور مما ذكرته لك, وإنما هو مدير لفرع إحدى شركات
التأمين الكبرى بإحدى مدن الأقاليم, وله أملاك ورثها عن جدي رحمه الله .. ولديه
حساب بالبنك به رصيد كان يمكن أن نعيش به في مستوى كريم من العيش كباقي أفراد
أسرتنا الذين يرثون لنا مع أننا أفضل منهم ماديا .. فأبي يا سيدي بخيل للغاية ,
ويعز عليّ أن أقول لك إنني وإخوتي نتمنى له الموت ونحلم بما سنرثه عنه من المال
الذي حرمنا منه رغم شدة حاجتنا إليه !
فبماذا تنصحني أن أفعل؟.. إنني أستحلفك بالله ألا تكتب
لي وحدي وإنما لكل أسرتي, وأن توجه لأبي كلمة تنصحنا فيها جميعاً بالصواب, والحمد
لله فإننا نشتري الأهرام يوم الجمعة فقط حسب أوامر أبي ونظامه لكي نقرأ بابك ونقرأ
العدد الأسبوعي ..فأرجو ألا تتأخر في الرد علي رسالتي..وشكرا لك.
ولـكاتب هــــذه الرســالة أقــول:
والله يا صديقي أنه لو كان الحجر على أبيكم يجوز
شرعاً وقانوناً لما ترددت في نصحكم بالحجر عليه وكف يده عن ماله الحبيس لتأخذوا
منه ما يكفل لكم العيش الكريم, رغم ما تعرفه من نفوري الشديد من أن ينازع ابن أباه
أمام المحاكم مهما كانت الأسباب.
لكن المشكلة هنا ليست في قبولي للفكرة أو رفضها ,
وإنما في أن أحكام الحجر لا تنطبق على حالة أبيكم هذا للأسف, فالحجر هو منع
الإنسان من التصرف في ماله لصغر في السن أو جنون أو سفه أو مرض مُهلك أو إفلاس ,
وحكمته في حالة الصغير الذي لم يبلغ سن الحلم أنه غير قادر على حسن التصرف في
ماله, وبالتالي فإن تصرفاته المالية غير جائزة إلا برضا والديه أو الوصي عليه
"إذا كان يتيماً" حتى يبلغ سن الرشد.
وحكمته في حالة السفيه الذي يسئ التصرف في ماله
ويبدده شذرا في شهواته أو بسوء تصرفه هي أن يمنع من التصرف في ماله بهبة أو بيع أو
شراء حتى يرشُد, لأنه مستخلف في مال الله لديه وينبغي عليه أن يحسن التصرف فيه بما
لا يضر ورثته, ولا يسئ إلى الحياة في مجتمعه أو يزيد من صعوبتها على المحرومين,
مصدقا لقوله تعالى : "آمنوا بالله ورسوله وأنفقوا مما جعلكم مستخلفين
فيه" سورة الحديد الآية 7.
ونفس القاعدة تنطبق على المجنون الذي ضعف إدراكه.
أما في حالة الإفلاس فحكمته هي كف يد المدين "الذي
إستغرقت ديونه للآخرين جميع أملاكه" عن التصرف بالبيع فيما يملك حتى يقضي
القاضي ببيعها وتوزيع حصيلة البيع على الغرماء, أي أصحاب الديون.
وماذا يعني المال بالنسبة إليه وهو مجمد في رصيد
ميت لا يتحرك في البنك, وفي أملاك لا يستمتع صاحبها ولا أسرته بعائدها؟!
إن الآباء ليسوا مسئولين فقط عن توفير إمكانيات
الحياة الكريمة لأبنائهم, بل وعن توفير هذه الإمكانيات لهم أيضاً بما يتناسب مع
مكانتهم الاجتماعية والعائلية وأوضاعهم المادية, وبما لا يشعرهم بالحرمان ولا
الدونية تجاه نظراتهم وأندادهم في الحياة, بل إن هذه المسئولية لتمتد أيضاً إلى
إعانتهم على الزواج إذا بلغوا سنه وكان الآباء قادرين على ذلك, وإلا وقع عليهم
"أي علي الآباء" وزر كل إثم يصيبه هؤلاء الأبناء الذين لم يعنهم آباؤهم
القادرون بمالهم على الزواج و إعفاف أنفسهم, كما علمنا ذلك المربي الأعظم, صلوات
الله وسلامه عليه, فماذا تريدني أن أقول لأبيك أكثر من ذلك؟
وماذا يجدي الحديث مع أب لا يأنف من أن يدعو زوجته
إلى فراشه حين يروق له ذلك .. غير مبال بمشاعر أبنائه في سن الشباب, ثم يعيدها
إليهم في اليوم التالي لتفترش الأرض إلى ما لا نهاية, وينفرد هو بأنانيته العجيبة
بنصف "الجُحر" الذي رضى لنفسه ولأبنائه بالحياة فيه؟َ!
إن البخل آفة لعينة لا شفاء منها ولا أمل فيمن
تمكنت منه, ولا جدوى لأي حديث معه, ومع ذلك "ولكراهيتي الشديدة لأن يتنازع
ابن أباه أمام القضاء" فلن أنصحكم بإقامة دعوى نفقة عليه وهو التصرف القانوني
المناسب لحالتكم, وإنما سأنصحكم فقط "وحفاظاً على ما تبقى من مشاعر إنسانية
تربطكم به" بألا تكفوا عن الضغط عليه
والاستعانة بالأهل .. بل وبالغرباء أيضاً, وحبذا لو كانوا من رؤسائه, لتوريطه في
دفع خلو شقة أوسع قليلا .. ولا أقول في شرائها, وربما يجدي الضغط عليه في هذا
الشأن عن طريق تخييره بين أن يتفضل بإخلاء غرفته لوالدتك وشقيقتك على أن ينضم هو
إلي غرفة الذكور ويقاسمهم حياتهم في الغرفة الضيقة , مع فرض هذا العزل عليه إلى ما
لا نهاية.. وبين أن يتفضل أيضاً باستئجار شقة من ثلاث غرف يكون لك ولشقيقك فيها
غرفة مستقلة، ولامك وشقيقتك غرفة ثانية ، ولأبيكم غرفة منفردة كما يشاء ويهوى .. ولا
بأس في هذه الحالة من أن يستضيف فيها زوجته من حين لآخر.. وإن كان الرشد والعقل
والدين يطالبونه بأن يقاسم زوجته غرفته بشكل دائم مراعاة لاعتبارات عديدة أتعجب
كيف غابت عنه في غمار انشغاله عن كل شئ بعبادة رب لا ينفع ولا يضر ..هو المال!
كما أتعجب أيضا لأب يقدر على أن يجعل حياة أبنائه أيسر وأكثر رخاء, فتصفو له نفوسهم ويدعون له بطول العمر, فلا يختار إلا أن يجعل من طول عمره نقمه على أبنائه, فيدعون ربهم أن يكشفها عنهم .. في غمضة عين! .. ولله في خلقة شئون وأعاجيب!
تعقيب كاتب الرسالة بتاريخ 28 يونيو 2021
شارك في
إعداد النص / بسنت محمود
راجعها وأعدها للنشر / نيفين علي
برجاء عدم النسخ احتراما لمجهود فريق العمل في المدونة وكل من ينسخ يعرض صفحته للحذف بموجب حقوق النشر