عودة الغائب .. رسالة من بريد الجمعة سنة 1993

 عودة الغائب .. رسالة من بريد الجمعة سمة 1993

عودة الغائب .. رسالة من بريد الجمعة سمة 1993

أكاد أشك أحياناّ أنه ليس بين الكائنات الحية جميعها من يصنع بحياته في بعض الأحيان ما يفعله الإنسان بها من دمار وخراب ومعاناة ما كان أسهل عليه أن يتجنبها ويجنب الآخرين مقاساتها معه، فهو في حدود علمي الكائن الوحيد الذي يمضي أحياناّ في طريق ليس راغباّ في أعماقه في المضي فيه للنهاية، ومع ذلك فهو يسير فيه بإرادته وليس مدفوعاّ بقوة لا حيلة له فيها، كما أنه بالتأكيد الكائن الوحيد بين كل الكائنات الذي قد يهب قلبه لأنثى ثم يختار في نفس الوقت أنثى أخرى ليسكن إليها ويقيم معها عشه، وهو ما لا تفعله للعجب الطيور بأنواعها ولا الحيوانات الكاسرة أو الأليفة ولا حتى الأسماك مع أن الله قد ميزه عن كل هذه الكائنات بالعقل .. والقدرة على استرجاع دروس التاريخ .. وبالإرادة الحرة التي غرسها في روحه وأمره بأن يختار بها لنفسه ما فيه خيره وخير الآخرين.

عبد الوهاب مطاوع


قرأت في بريد الجمعة رسالة لأم تعجلت هدم حياتها الزوجية ولم تصبر صبراّ كافياّ على متاعب حياتها مع زوجها، فأصبحت ابنتها بعد أن كبرت تحاسبها حسابا عسيرا على أنها لم تحتمل من اجلها, لتوفر لها حياة الأسرة الطبيعية وتحفظ كرامتها أمام صديقاتها والمجتمع.

وقرأت ردك المؤثر على هذه الأم وكلماتك الناقدة لأي أم تتعجل الانفصال عند أول محنة بعد أن أنجبت من زوجها.. وعن محكمة الأبناء القاسية وحيثياتها التي تختلف كثيرا عن منطقنا نحن وحيثياتنا, فأردت أن أروي لك قصتي لتشير عليّ بالرأي الصائب فيها.


     أنا سيدة أبلغ من العمر 26 عاما .. تزوجت منذ 5 سنوات وخطبت لزوجي قبل الزواج بأربع سنوات .. وكان عمري وقتها 17 عامل فقط .. وكان هو في الثلاثين من عمره, وقد توحي لك فترة الخطبة الطويلة أنني كنت على تفاهم معه, لكن هذا لم يتحقق للأسف لأني لم أكن أراه طوالها إلا لفترات قصيرة جداّ, هي فترات عودته في الإجازة من عمله بالخارج, وحتى خلال هذه الفترات لم تكن خلافاتنا معا تتوقف في الغالب, كما كنت أحس دائماّ بأن هناك شيئا ما يقيم حاجزاّ بيننا, ويكمن وراء هذه الخلافات لكني لا أعرف كنهه.

وقد تسألني ولماذا إذن واصلت الطريق معه رغم بوادر عدم الاتفاق الواضحة بينكما فلا أجد تفسيراّ لذلك الآن سوى فيما أتصوره من صغر سني وقتها, وفارق العمر بيني وبينه الذي كان يتيح له إقناعي بسهولة بمبررات أي تصرف.. فأتقبل الأمر وأنسي ما غضبت له.

     ثم تزوجنا وأنا في السنة النهائية من دراستي الجامعية, وبعد زواجي بثلاثة عشر يوماّ فقط عرفت حقيقة هذا الشئ الغامض الذي يقف بيننا.

 فلقد صحوت قبل الفجر ذات ليلة فلم أجد زوجي إلى جواري, وغادرت غرفة النوم لأذهب إلى الحمام فإذا بي أراه جالساّ في ركن من الشقة يتحدث في التليفون بصوت هامس, ويبث إنسانة مجهولة بكلمات الحب والهيام التي يبخل بها عليّ وأحسست بجرح غائر في قلبي, لكني تحاملت على نفسي وتظاهرت بأني لم أسمع شيئاّ وعدت إلى فراشي وتظاهرت بالنوم حتى الصباح.

 وتكرر همس زوجي في الفجر في التليفون خلال أيام شهر العسل, وأنا أحاول تجاهل الأمر حفاظاّ على كرامتي .. أو ضناّ عليه بأن أشعره أنني أعاني من جحيم الغيرة عليه.. وخدعت نفسي بمحاولة تكذيب ظنوني إلى أن عجزت ذات يوم عن كبح جماح غيرتي .. فرحت أبحث بين أوراقه وأشيائه الخاصة عن شئ يقودني إلى معرفة هذه الغريمة المجهولة التي لم تشأ أن تعفيني من عذاب الشك حتى في شهر العسل, فعثرت على رسالة منها مليئة بعبارات الحب وذكريات الأيام الجميلة, وأحسست بحنق شديد عليها وعليه وصممت على أن أسحقها وأهزمها.. وبدأت أتقصى شخصيتها ولم يطل بحثي طويلاّ, فقد لاحظت منذ الوهلة الأولى أن خط الرسالة ليس غريباّ عني .. وتوصلت إلى معرفتها بقليل من الاسترجاع ومحاولة الربط بين الأحداث.. وعرفت أنها إحدى قريباتي التي نبهتني أم زوجي نفسها منذ فترة إلى ملاحظتها لاهتمام ابنها بها خلال فترات إجازته في مصر بأكثر من اهتمامه بي, وتذكرت تحذير والدته لي منها ومطالبتها لي بأن أدافع عن زوجي وأحميه من نفسه ومن نزوات الآخرين, وقررت الدفاع عن حياتي واختياري الذي استهلك 4 سنوات من صباي وشبابي قبل الزواج, وحاولت جاهدة أن أستعيده بحبي وارتباطي به.. لكنه كان مصمما على الشرود, وتأكدت من ذلك حين طلب مني عدم الإنجاب في بداية حياتنا الزوجية, ورغم شكوكي في أسبابه.. فلقد وافقته على ذلك.. ووافقته على كل ما كان يطلبه مني .. ولم أدعه يسمع مني في بداية حياتنا سوى كلمة حاضر وتعجبت من أن هذه الكلمة التي تريح الجميع.. كانت تستثيره في بعض الأحيان فيثور علي ثورة هائلة ويتهمني بالسلبية .. ومع ذلك فقد احتملت وأصبحت أيام الإجازة التي يقضيها معي عذاباّ من عذاب الجحيم, وكنت أصبر عليها إلى أن تنتهي ويرجع عائداّ إلى مقر عمله.. وأغادر بيت الزوجية لأعيش مع أسرتي وأبي الذي يخفف عني الكثير.

 

     ومضت حياتي معه على هذا النحو.. فترات انتظار طويلة.. ثم إجازة قصيرة يعود فيها وأرجع إلى بيت الزوجية, فلا تمضي أيام منها حتى تبدأ المعاناة وسوء المعاملة.. إلى أن ضقت بصبري بعد فترة.. فقررت أن أتخلص من سلبيتي وأصبح إيجابية معه.. ففكرت طويلاّ ثم طلبت منه الطلاق خلال وجوده في إحدى إجازاته.. وفوجئت به يهتز أمام طلبي الذي لم يتوقعه.. ثم يصفعني بعصبية كأنني شئ من "ممتلكاته" الخاصة لا يحق له أن يعترض على تصرفاته.

     وصممت على طلبي .. خاصة بعد أن تأكدت أن علاقته بالأخرى مازالت قائمة رغم محاولاتي العديدة, ولم أطق كتمان معاناتي أكثر من ذلك فرويت كل شئ لأبي ووافقني على الطلاق, وانتهت إجازة زوجي وسافر إلى عمله واعداّ بأن يتم الانفصال بمجرد عودته من الإجازة التالية, وبعد شهور رجع مبديا الندم على ما جري بيننا وراغباّ في استئناف حياتنا معاّ على أساس جديد من الحب والتفاهم.. وكان برهانه على صدقه وعلى أنه انهي علاقته بالأخرى, هو إعلانه لي عن رغبته في الإنجاب مني في أسرع وقت, ووافقت على العودة إليه , بل وأقنعت أبي بجهد كبير حتى قبل عودتي إليه رغم معارضته.

 

     ورجعت إلى حياتي معه.. لكني وأعترف لك بذلك عدت إليه وأنا خائفة منه , مم كنت أخاف.. وماذا كان يتملكني من وساوس؟ لا أعرف, لكني رغم ذلك كنت أنام إلى جواره في الفراش, وأنا أحس بأنه من المحتمل جداّ أن يقتلني ليتخلص مني!

     وبسبب مخاوفي هذه.. ولرغبة مكتومة في أعماقي في الانتقام منه أردت أن ألقنه درساّ لأوهمه بأن الله سبحانه وتعالى يعاقبه على ما فعل بي بحرمانه من الإنجاب, فرحت أتناول أقراص منع الحمل دون علمه.. ومضت الشهور بغير أن أحمل بالطبع .. فبدأ القلق يساوره وأنا أراقب قلقه بسرور خفي .. ثم بدأ يشك في قدرتي على الإنجاب ويطالبني بعرض نفسي على الطبيب.. فاستجبت لطلبه بترحيب, وجاءت النتائج مؤكدة قدرتي الكاملة على الإنجاب, وازداد قلقه وحزنه!

     وسعدت أيضاّ بذلك سعادة خفية, ومضت شهور أحسست خلالها أن زوجي قد تغيرت معاملته لي إلى حد كبير, فأصبح أكثر رقة وحباّ وحناناّ بي. وبعد أن كان يعارض في عملي وجدته يسمح لي به, فراجعت نفسي ووجدت من الحكمة أن تستمر الحياة معه.. فقررت الإنجاب منه وتوقفت عن تناول أقراص منع الحمل, وأقبلت على حياتي معه بحب وحنان.

 لكن الشهور مضت ولم يتحقق الحمل أيضاّ.. وانتقل القلق الذي أردت أن أصدره له في السابق إليّ أنا هذه المرة.. وذات يوم كنت أرتب له بعض أوراقه فوجدت بينها تحاليل طبية خاصة به لا أعرف لماذا شعرت بأن بها شيئا يجب أن أعرفه.. فأخذت هذه التحاليل وأرسلتها إلى الطبيب ليراجعها, فأكد لي أن زوجي ضعيف الإنجاب.. وأنه يستطيع أن ينجب ولكن بعد فترة علاج ضرورية.

واهتز كياني حين عرفت ذلك.. وندمت على الشهور التي تناولت فيها أقراص منع الحمل دون ضرورة.. وتذكرت قوله سبحانه وتعالى " ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين" وأحسست أن الله قد رد مكري إلى صدري وانتظرت بقلق بشائر الحمل شهراّ بعد شهر.. فلم تظهر, واستبد بي القلق عاماّ أو أكثر إلى أن أحسست ذات يوم بتعب مفاجئ وبشرني الطبيب بأنها بوادر الحمل, وسعدت به وانتظرت عودة زوجي في الإجازة بلهفة لأزف إليه الخبر, وعاد وخيل إلي أنه قد سعد به كثيراّ, لكنه لم تمض أيام من الإجازة حتى عاد لسابق عهده معي في سوء المعاملة, وتطورت الأمور بيننا ذات مرة فضربني وأنا حامل, وطالبني بالتوقف عن العمل والبقاء في البيت لانتظار القادم الجديد, ثم رجع لمقر عمله.. وجاءت لحظة الولادة وهو غائب عني .. ولم يحضر ولادتي معي سوى شخص آخر هو أبي وليس زوجي.

 

      وجاء ابني ففرحت وشغلت به.. وأصبح رفيقي في وحدتي الطويلة في انتظار زوجي, وبلغ ابني من العمر الآن عامين مضيا بكثير من العناء وقليل من السعادة, ثم صدمت بوفاة أبي منذ شهور فحزنت عليه حزناّ عميقاّ, وتوقفت لأراجع حياتي مع زوجي, فاكتشفت أنني أعيش وحيدة وليس إلى جواري زوج يشاركني شئون الحياة حلوها ومرها.. فزوجي لا يشاركني في أي أمر مهم من أمور الحياة.. فلقد أنجبت ابني وهو غائب.. ومات أعز الناس لدي "أبي" وهو غائب, ولم يكن بجواري ليخفف عني افتقاد الرجل الوحيد الذي كنت أعتمد عليه في حياتي, والذي كان يفهمني جيداّ ويقوم بكل شئوني ولا ينسى أبداّ عيد ميلادي, ويتحفني بنوع الطعام الذي أحبه من حين لآخر, ويقدم لي حلوى المولد النبوي الشريف.. وكعك العيد.. وتورتة عيد الميلاد, قد تكون أشياء صغيرة يتهمني البعض من أجلها بالتفاهة, ولكن.. ما الحياة في مجموعها إلا هذه الاهتمامات الصغيرة والمجاملات الرقيقة التي تعكس اهتمام الإنسان بمن يحبه.. وزوجي في كل ذلك كان غائبا دائما ولا يهتم إلا بعمله في الخارج.

 

      إنني وحدي دائماّ يا سيدي في كل المناسبات السعيدة.. والحزينة على السواء.. وأحضر وحدي المناسبات الاجتماعية, وفي إحداها تعرضت لموقف آثار شجني وجدد تأملاتي .. فلقد كنت أحضر فرحاّ عائلياّ, فرآني أحد المدعوين وأبدى رغبته في أن يتقدم لخطبتي, وهو لا يتصور أنني متزوجة ! ولا ذنب له في ذلك لأن زوجي كالشبح الذي لا يراه أو يتذكر أحد أنه رآه في مجتمعنا العائلي.

     لقد جددت وفاة أبي مخاوفي وهواجسي .. وافتقدت برحيله السند الوحيد لي في الحياة, وتفككت أسرتي بعد رحيله وظهر منها أسوأ ما كان فيها, وما كان وجود أبي يحجبه ويمنعه من الظهور, ولولا وجود أبي إلى جواري طوال السنوات الماضية لما واصلت الحياة مع زوجي, ثم رحل عن الحياة, فظهرت الحقيقة صريحة أمام عيني وهي أنني لم أعد أحتمل الحياة مع زوج غائب على الدوام ولا أحتمل سوء طباعه معي .. ولا أحتمل رفضه السماح لي بالعودة للعمل مع أني أقيم مع أسرتي في بيت واحد وسأترك طفلي معها خلال عملي, وأنا في حيرة من أمري هل أواصل الاحتمال .. أو أتوقف وأطلب الانفصال وأصر عليه.. وهل إذا فعلت ذلك سوف يتفهم حين يكبر دوافعي للانفصال عن أبيه, ويلتمس لي العذر أم أنه كما قلت في ردك للأم كاتبة الرسالة السابقة, سوف يحاكمني على أني قد حرمته من الحياة الطبيعية بين أبوين لأسباب تخصني وحدي, وسيكون منطقه في لومه لي وحيثيات حكمه عليّ مختلفين تماماّ عن منطقي وأسبابي.. ولا أمل في أن يفهم الأبناء الأسباب المتعلقة بالمشاعر والعواطف.

 

     إن زوجي يحب ابنه حبا شديدا.. ومن حقه عليّ أن أعترف له بذلك, لكنه لا يهتم بي .. ولا يشاركني في شئ ولا يعنيه من الحياة أكثر من عمله في الخارج وجمع النقود, فهل توافقني في رغبتي في الانفصال عنه؟


ولكاتبة هذه الرسالة أقول:

 

     أنت يا سيدتي في حالة ضعف نفسي شديد الآن بسبب حزنك على أبيك وافتقادك لكل ما كان يمثله في حياتك من أمن وأمان وعطاء مخلص لك بلا حدود.

     والإنسان في حالة الحزن الشديد أو الأزمات النفسية الطارئة لا يكون قادراّ على التفكير العقلاني الهادئ, الذي يتيح له اتخاذ القرارات الصائبة بشأن الأمور المصيرية في حياته, لهذا قيل بحق إن الحزن والغضب من أعداء التفكير السليم, الأول لأنه يهون علي الإنسان بعض ما يتهيبه أو يخشي تأثيره علي حياته بدعوي أن أي شئ آخر في الحياة مهما كان مراّ لن يضارع في قسوته ما فقده الإنسان وحزن عليه, وهي حالة وجدانية مؤقتة لا تدوم, وحين تنتهي كما ينتهي كل شئ في الحياة في وقته المعلوم يكتشف الإنسان أنه قد فرط متأثراّ بحزنه فيما قد لا يفرط فيه بسهولة بعد هدوء الأحزان. والغضب أيضاّ من أكبر أعداء التفكير السليم, لأنه يشل العقل ويرخي قبضته علي الانفعالات العنيفة ويعمي البصيرة فيدفع الإنسان لاتخاذ ما يندم عليه من قرارات انفعالية حين يسترد صفاء تفكيره وهدوء نفسه فيما بعد, لأن الغضب كما قال الأديب الايرلندي العظيم برنارد شو "ريح هوجاء تطفئ شمعة العقل".

 

 والحزن الشديد كذلك في تقديري. وفي الريح الهوجاء لا يجوز لعاقل أن يفكر في أمور حياته المصيرية ويتخذ بشأنها قرارات حاسمة متعجلة وإنما تطالبه الحكمة بأن يحتمي من الريح الهوجاء بأي ملجأ.. ثم ينتظر هدوء العاصفة.. ليفكر في شأنه بإتزان.. وهذا ما أنصحك به في البداية.. وهو أن تؤجلي اتخاذ أي قرار يمس حياتك ومستقبل طفلك الوحيد إلي أن تتخلصي من آثار محنتك النفسية الحالية وتستردي سلامك واطمئنانك بعد حين..

     وحين تفعلين ذلك فقد يكون من المفيد أن أضع أمامك بعض النقاط التي تساعدك علي التوصل إلي قرار صائب بشأن حياتك القادمة بإذن الله. فأما عن الزوج الغائب عن زوجته باستمرار في كل شئون الحياة, فهذا الوضع وإن كان خاطئاّ إلا أنه لن يستمر إلي ما لا نهاية لأن العمل في الخارج رحلة قصيرة مهما طالت, ولابد أن يعود إليك زوجك ذات يوم قريب ويجتمع شملكما معا, وتفرض عليه الحياة وخبرة السنين مشاركتك في كل أمور الحياة أو معظمها. وإذا كنت أفضل دائماّ أن يجتمع شمل الأسرة في الحل والترحال ما لم تقف دون ذلك موانع أقوي من إرادة رب الأسرة, فإن غياب زوجك عنك هو في النهاية وضع مؤقت, ولا يجوز اتخاذ قرار مصيري يمس حياة طفلك استناداّ إلي وضع لن يدوم ومن الميسور تغييره, إما باللحاق به في مقر عمله أو بالصبر عليه إلي أن تنتهي رحلة الغربة في يوم ليس ببعيد.

 

     وأما عن ابنك الذي تتخوفين من "محاكمته" لك في المستقبل عن مسئوليتك عن حرمانه من الحياة المستقرة بين أبويه بسبب اعتبارات خاصة بك, فإن هذا التخوف نفسه أكبر دليل على أنك من أصحاب الضمائر الحية الذين لا يبيحون لأنفسهم أن يطلبوا سعادتهم الشخصية علي حساب تعاسة أعزائهم. والضمير هو حارس الفضيلة دائماّ وكابح الرغبات والنزعات الفردية التي تتجاهل اعتبارات الآخرين ومصلحتهم. ومادام صوته حياّ داخلك فلا خوف علي ابنك من التضحية بسعادته واستقراره لحساب اعتباراتك الخاصة ولا خوف عليك من محاكمته لك في المستقبل بإذن الله, خاصة إنك تعرفين جيداّ أنك قد تحملت في بداية حياتك الزوجية وقبل أن تنجبي طفلك ما كان يعطيك الحق في طلب الانفصال عن زوجك بغير أن يلومك أحد وبغير أن يكون لانفصالك عنه ضحية صغيرة, لكنك لم تفعلي وتجاوزت ما واجهك من مشاكل وأنجبت طفلاّ بريئاّ ليس من العدل أن يتحمل تبعات عودتك لزوجك حتى علي غير إرادة أبيك وتبعات التوقف لمراجعة النفس وإعلان العجز عن مواصلة الاستمرار بعد المجئ به إلى الحياة.

 

وإذا صح تقديري فإنك لن تقدري على التمسك بالانفصال عن زوجك إلى النهاية, لكنك فيما أتصور بالإضافة إلى ظروفك النفسية بعد رحيل أبيك, راغبة في العودة للعمل وغاضبة لرفض زوجك السماح لك به. مع أن هذا الرفض نفسه قد يكشف عن جانب طيب في شخصيته علي عكس ما تتصورين ورغم إدانتي واعتراضي الشديد علي كثير من تصرفاته معك خاصة في بداية الزواج, ذلك أنه لا يطلب منك الامتناع عن العمل مؤقتاّ لتتفرغي لرعايته هو.. لأنه غير مقيم معك, وإنما لكي تتفرغي لرعاية طفلك الذي يحتاج إليك بكل تأكيد في بواكير عمره, ومن السهل أن تصبري عن رغبتك في العمل إلي أن يشتد ساعده ثم تخرجين للعمل إذا رغبت بغير اعتراض من زوجك.

     أما ما رويته لي عن خلافاتك مع خطيبك طوال سنوات الخطبة الأربع.. واستكمالك لمشروع الزواج معه رغم ذلك وعن ارتباط زوجك بك وهو مشغول القلب بأخرى, وخيانته لك بعد أيام قليلة من شهر العسل, فليس لي من تعليق عليه سوي أنه أكاد أشك أحياناّ أنه ليس بين الكائنات الحية جميعها من يصنع بحياته في بعض الأحيان ما يفعله الإنسان بها من دمار وخراب.. ومعاناة ما كان أسهل عليه أن يتجنبها ويجنب الآخرين مقاساتها معه, فهو في حدود علمي الكائن الوحيد الذي يمضي أحياناّ في طريق ليس راغباّ في أعماقه في المضي فيه للنهاية, ومع ذلك فهو يسير فيه بإرادته وليس مدفوعاّ بقوة لا حيلة له فيها, كما أنه بالتأكيد الكائن الوحيد بين كل الكائنات الذي قد يهب قلبه لأنثى ثم يختار في نفس الوقت أنثي أخري ليسكن إليها ويقيم معها عشه, وهو ما لا تفعله للعجب الطيور بأنواعها ولا الحيوانات الكاسرة أو الأليفة ولا حتى الأسماك مع أن الله قد ميزه عن كل هذه الكائنات بالعقل.. والقدرة علي استرجاع دروس التاريخ.. وبالإرادة الحرة التي غرسها في روحه وأمره بأن يختار بها لنفسه ما فيه خيره وخير الآخرين, أما ما حدثتني عنه من انتقامك الخفي من زوجك بالامتناع عن الحمل منه, رغم تلهفك في البداية عليه, ثم قلقك وخوفك من تأخره بعد أن رغبت فيه, فلقد ذكرني بعبارة موحية جاءت في رواية "سيلاس مارنر" للروائية الإنجليزية جورج إليوت علي لسان أب أنكر طفلته الصغيرة في البداية وتجاهلها وتركها تنشأ في رعاية رجل غريب حتي لا يؤثر ذلك علي وضعه الإجتماعي. ثم تزوج من زوجة لائقة به اجتماعياّ فحرمه ربه من الإنجاب منها وضاق بعد أن تقدم به العمر قليلاّ بوحدته فأراد أن يسترد ابنته بعد أن أصبحت غادة يافعة, فإذا بها هي من تنكره هذه المرة وترفض العودة إليه فقال متعجباّ ومتأسياّ:

     أردت أن أتظاهر بأني لم أنجب أطفالاّ قبل زواجي حرصاّ على وضعي العائلي, فعاقبني ربي بالحرمان من الإنجاب حين تزوجت من الزوجة الراقية.. وبالحرمان حتى من ابنتي حين أردت استردادها!

 

     فاشكري ربك يا سيدتي إن كانت تذكرته لك بأنه جل شأنه "خير الماكرين".. هينة وبسيطة ولم تتجاوز شوكة صغيرة وخزتك بالقلق والخوف عاماّ وبعض عام فقط.. ثم منّ عليك بطفلك الجميل وهدايا السماء غالية ثمينة دائماّ يا سيدتي, وهي تستحق منا ألا نفكر في حياتنا بمعزل عن التفكير الصائب والعادل في حياتهم ومستقبلهم, ومن يعرف ذلك ويقدره حق قدره يرشده ربه دائماّ إلي ما فيه خيره وصلاح أمره وخير أعزائه –هدية السماء له- وصلاح أمرهم في الحاضر والمستقبل بإذن الله. 

 ·       نشرت في جريدة الأهرام "باب بريد الجمعة" في يوليو عام 1993

راجعها وأعدها للنشر / نيفين علي

 


Neveen Ali
Neveen Ali
كل ما تقدمه يعود إليك فاملأ كأسك اليوم بما تريد أن تشربه غداً
تعليقات