الطيور الشادرة .. رسالة من بريد الجمعة عام 1994

الطيور الشادرة .. رسالة من بريد الجمعة عام 1994

 الطيور الشادرة .. رسالة من بريد الجمعة عام 1994

ماذا ينتظر من يقسو على طيوره الوليدة سوى أن تشرد بعيدا عن سمائه ملتمسة الأمان والدفء، في عش آخر؟

عبد الوهاب مطاوع

بريد الجمعة

 

أنا سيدة متزوجة منذ أعوام، ولي ولدان، وزوجي إنسان فاضل وطيب القلب، وأدعو الله أن يستمر هكذا إلى النهاية، وقد تفتحت عيناي في أسرتي منذ صغري على نار الغضب، التي تتملك أبي باستمرار على أمي المسكينة الطيبة، فأنا الابنة الوسطى بين شقيقين تقاسما معي هذه الذكريات الأليمة، وكانت أمي سيدة رحيمة القلب ، من عائلة ميسورة أما والدي، وهو موظف كبير، من عائلة متوسطة أحب أفرادها أمي حبا جما وتعاطفوا معها.

وبرغم زواجی واستقرار حیاتي الآن مع زوجي، فماتزال الذكريات الأليمة تطاردني، ومن بين كل ما شهدته في طفولتي حفرت الأيام في ذاكرتی مشهدا مؤلما ظل يتكرر طوال طفولتنا وصبانا، وهو منظر «الصرة» أو ملاءة السرير التي ينهض أبي بعصبية وغضب ، ويجمع فيها ملابس أمي وملابسنا نحن الأطفال، ثم يحزمها ويلقى بها من النافذة فتسقط على أرض الشارع بصوت مدو ، يعلن للجميع أن أبي قد طرد أمي مرة أخرى من بيته، ومن حياته مع إصراره على أن يتم ذلك كل مرة بهذا الشكل العلني الفاضح والمزری، بالرغم من كثرة عدد الحقائب التي تملأ البيت، ومن أن أمي تستطيع أن تحمل أشياءها في صمت وتمضى، لكن هكذا كان الغضب يفعل به ، فتخرج أمي ونحن وراءها باکین کسیری الخاطر إلى بيت أبيها، وتبقى فيه ونحن معها فترات طويلة ثم تعود استجابة لإلحاح جدنا لأبي، الذي يتعاطف مع أمي ، ويشفق عليها من حدة طباع ابنه، ويعدها بألا يتكرر المشهد الفاضح مرة أخرى، وترجع إلى بيتنا فلا تمضي فترة طويلة حتى يتكرر مرة أخرى بكل تفاصيله، ولم يكن هذا المشهد هو کل صور معاناتنا مع أبينا، فالحديث يطول عن باقي ألوان العذاب التي تجرعناها منه مرغمين وصابرین، ابتداء من الحرمان من الطعام إلى الربط بالحبال والضرب بالحزام لأتفه خطأ، كأن يتحدث أحدنا بصوت عال وهو نائم أو یکسر طبقا من الأطباق، وغير ذلك مما لا يحاسب عليه الأهل أطفالا صغارا مثلنا، أما أخطاء أمي التي كانت تعرضها للشجار ونار الغضب فكثيرة مثل أن يتجرأ أحد أقاربها ويزورها مرة أو تتأخر دقائق في إعداد مائدة الطعام له. إلخ.

 

وفي هذا الجو الكئيب عشنا طفولتنا وصبانا، كأننا ننفذ حكما صادرا ضدنا بالمعاناة لسبب لا نعرفه، ووصل شقيقي الأكبر إلى الثانوية العامة فرفض أبي - الذي أصبح في ذلك الوقت مديرا عاما - أن يسمح له بتلقي أي دروس خاصة برغم حاجته إليها، فامتثل لقراره مرغما واعتمد على المجاميع المدرسية، وعلى نقل أوراق الدروس الخصوصية من زملائه، الذين يتمتعون بعطف آبائهم، وكان ينقلها بيده، لأننا لا نعرف تصوير الأوراق ونفقاته، ثم تأخر ذات يوم في نقل هذه الدروس عند أحد زملائه، ورجع للبيت بعد موعده الطبيعي، فرفض أبي أن يفتح له باب المسكن، وظل شقیقي واقفا أمامه ساعتين يدق الباب بخوف وصبر، وأمي في الداخل تتوسل لأبي بدموعها الغزيرة أن يصفح عنه، ويسمح له بالدخول لأن امتحاناته بعد أيام ، ونحن نبكي في صمت ورعب حزنا على أخينا، وخوفا من أبينا، حتى وافق أبي أخيرا على السماح له بدخول البيت، وتكررت مشکلات أبي مع شقيقي، الذي يستعد لامتحان الثانوية العامة طوال فترة مذاكرته، واستمرت حتى صباح يوم الامتحان نفسه، فلم تحتمل أمي التي صمدت لكل الأهوال الماضية أكثر من ذلك، وسقطت مريضة بالذبحة الصدرية صباح يوم الامتحان، وخرج أخي إلى الامتحان مضطربا ونقلت أمي إلى المستشفى ومكثت به شهرا كاملا. ونتيجة لكل هذه المعاناة خرج شقيقي الأكبر من بيتنا مستجيرا بجدي لأبي، وأقام عنده ورفض العودة إلى بيت أبي،  ورحب به جدي فما أن فعل ذلك حتى غضب منه أبي غضبا هائلا، وقاطعه وحرم علي وعلى شقيقي الأصغر الاتصال به، وهو الرجل الوحيد الذي يحمل لنا في قلبه بعض الحنان .

 

وتوفيت أمي إلى رحمة الله بعد ذلك بشهور، وجاء شقيقي الأكبر في هذا اليوم الحزين من بيت جدی باكيا، ويريد أن يرانا ويشاركنا مصيبتنا، فإذا بأبی پرفض أيضا "وبإصرار غریب"  دخوله البيت حتى في هذا اليوم العصيب، فاصطحبه أحد الأقارب برفق إلى الشارع مواسيا له،  ووقف شقيقي في الطريق أمام بيتنا يبكي أمه التي رحلت، وأخوته الذين حرم من رؤيتهم، ورفض أن يتحرك من مكانه وانخرط في بكاء طويل، فلم يطق أخي الأصغر صبرا وتجرأ وخرج إليه في الشارع، فتعانقا وانخرطا معا في بكاء مرير حتى بکی کل من رآهما من الأهل والجيران .

ومضت حياتنا برغم كل ذلك، والتحق شقيقي الأكبر بالجيش واستطاع استكمال تعليمه، وهو يؤدی خدمته العسكرية، وتخرج في کلیته، وعمل بإحدى الشركات لفترة، ثم سافر إلى دولة عربية منذ سنوات، ولا نعرف الآن من أخباره سوى القليل، إذ لا يزال يخشی الاتصال بنا حتى لا يتسبب في أية مشكلات جديدة مع أبينا، الذي فرض علينا مقاطعته، أما شقيقي الأصغر، فلقد تغيرت شخصيته كثيرا منذ وفاة أمنا، كأنما صقلته المحنة والحزن، وأصبح أكثر صلابة في مواجهة أبي، وأصبح متفوقا في دراسته وشجعني بتفوقه على استكمال دراستی الجامعية، وعقب حصوله على الثانوية العامة، التحق بالكلية التي أرادها هو وليس بالكلية التي يرغبها أبوه، في حين رضخت أنا لرغبته، والتحقت بالكلية التي اختارها لي، وبعد تخرجه عمل شقيقي في إحدى الشركات بعيدا عن مدينتنا، أو قل بعيدا عن أبي.

 

أما أنا فقد تحملت مسئولية البيت، وأنا أدرس بالجامعة وتخرجت وعملت وتقدم لي أكثر من شاب مناسب ، فما إن يبدي رغبة في الزواج منى، ويبدأ في عمل التحريات الضرورية عن أسرتی، حتى يسمع الكثير والكثير عن طباع أبي الحادة، فيفر هاربا إلى أن تقدم لي زوجي وهو من أبناء إحدى محافظات الجنوب، ولم يهتم بأن يسأل عن أبی کما فعل غيره ونصح الأهل أبي أن يوافق عليه بلا تردد، حتى لا يفوتنی قطار الزواج، فوافق بشرط أن أقيم معه في المنزل نفسه، بالرغم من أن زوجي لديه شقة مجهزة للزواج، ووافق زوجي على ذلك وحالت مشاغل زوجي في عمله دون الالتقاء بينه وبين أبي كثيرا أو وقوع الصدام معه، وأنجبت منه طفلين لقيا من أبي المعاملة نفسها التي لقيها من قبل شقیقاي في طفولتهما.

أما أنا فقد حللت للأسف محل أمي في الشجار الدائم معي على أتفه الأسباب، وبعد فترة من عمل شقيقي الأصغر، في مدينته قرر أن يرتبط بشقيقة أحد زملائه، وعاد إلينا ليخبرنا بالنبأ السعيد، ففوجئ باعتراض أبي على المشروع من أساسه، لأنه لم يستشر فيه قبل خطوة البداية ، ولم تكن له فيه الكلمة النهائية، فلم يتوقف شقيقي كثيرا عند اعتراضه، ومضى في مشروع الزواج بلا تردد، فكان «العقاب» المنتظر هو امتناع أبي عن الذهاب لأهل الفتاة لخطبتها، ثم عن حضور الزفاف أيضا، مع منعی من مشاركة أخي الأصغر فرحته في ليلة زفافه!

 



 

ولكاتبة هذه الرسالة أقول :

يبدو أنه صحيح إلى حد كبير ما جاء على لسان إحدى شخصيات الكاتب المسرحي الأمریکي آرثر ميللر ، من «أن هناك أشخاصا يفضلون أن يشنق الجميع على أن يوجه إليهم أي لوم أو يعترفوا بأي خطأ أو يرجعوا عنه»، ووالدك فيما يبدو من هذا النمط الغريب من الشخصيات، التي لا تعترف بخطأ ولا ترجع عنه أبدا، وإن انهالت فوق رؤوسها المطارق ! ومشكلة أصحاب مثل هذه النزعة القطعية التزمتية في التفكير، أنه قد تتزلزل الجبال ولا يتزحزحون  قيد أنملة عن مواقفهم الصارمة، بسبب بسيط هو أنهم يؤمنون بأنهم وحدهم الذين يتربعون على عرش الحكمة والتصرف الصحيح، وكل من يخرج على إرادتهم موصوم بالخطيئة إلى يوم الدين، ولابد من طرده و مقاطعته إلى النهاية .

 

وأمثال هؤلاء لا يتعلمون من تجاربهم مع الأسف، ولا يتوقفون أبدا لمواجهة حياتهم، ومحاولة تبين أسباب انصراف الآخرين وابتعادهم عنهم، وحتى إذا فعلوا ذلك فستكون نتيجة المراجعة النهائية دائما، أن أسباب ابتعاد الآخرين هو جحودهم، وعقوقهم وأي سبب آخر لا يتعلق بهم. لهذا أقول لك إنه لا أمل مع الأسف في أن يتغير أبوك، أو يخفف من غلوائه معك ، أو مع ابنيه الشاردین بعيدا عنه .

فمن لم يرق قلبه لابنه المطرود من رحمته، حين يجئ حزينا باكيا ليشارك أخويه أحزانهما في وفاة أمه ، ولا يهتز لخروج الآخر من جنته ، فيستمر في مقاطعة هذا وذاك، ويطالب ابنته وزوجها بمقاطعتهما معا، من كان هذا شأنه يا سيدتي لا أمل في أن يرق قلبه لشيء، أو يرجع عن خطأ، ولا مفر من التعامل معه بحذر لتجنب الصدام معه أو مخالفته مع محاولة مجاراته فيما لا معصية فيه للخالق، حفاظا على الخيط الرفيع الذي يربطه بك، لكن هذا لا يعني من جانب آخر أن تعرضي حياتك الزوجية وطفليك للخطر، لمجرد إرضائه والرضوخ لإرادته ضد إرادة زوجك ، فمن حق زوجك شرعا وقانونا أن يستقل بأسرته وزوجته، في مسکن خاص به، وليس من حق أبيك الذي لم يتعلم أبدا من تجاربه ، أن يضع علاقته بك في إحدى کفتى الميزان، واستجابتك لرغبة زوجك في الكفة الأخرى، كأنما يدفعك بذلك دفعا للخروج على طاعته، والعاقل يعرف مقدما أنه لا نتيجة لفرض هذا الخيار عليك، إلا أن تطیعی زوجك إيثارا للمصلحة الأكبر، وهي مصلحة الأسرة والأطفال والزوج، بل ومصلحتك أنت أيضا في الحقيقة على المصلحة الأصغر، وهي إرضاؤه والحرص عليه، فطاعة الزوجة لزوجها مقدمة على طاعتها لأبيها، كما جاء بوضوح وبفهم راق لحقائق الحياة في الحديث الشريف، أم أنه لم يسمع بذلك من قبل، كما لم "يسمع" أيضا بأنه «لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق»، حين أمرك بمقاطعة أخويك وهما رحمك وشريكا معاناتك المريرة السابقة؟.. والرسول الكريم يقول لنا: إن الرحم " معلقة بالعرش تقول من وصلني وصله الله ومن قطعني قطعه"، ومن أي مصدر يستمد ثقافته الدينية، وحكمته التي حارت في فهمها الأفهام، وهو الذي يرى نفسه دائما محتكرا للحق وحده؟ وكيف لم يعرف أنه ليس للأب أن يفرض على أبنائه الراشدين إرادته، أو يلزمهم بما لا يريدون لأنفسهم ، لأنه لا يملكهم بالقهر والتسلط والإرغام، وقد صاروا كبارا و مسئولين عن حياتهم، وإنما بالحب والعطف والإيثار ورعاية حدود الله و أوامره معهم؟

لقد عق أبوك ابنیه، ولم يعقاه كما يتصور، وحرم نفسه منهما ومن حنانهما وبرهما به بقسوته وتسلطه، والآن قد جاء دورك فيما يبدو ، لأن يضعك أمام الخيار الذي لا مفر معه من أن تخرجي أنت أيضا على إرادته ، فأية حكمة وأي رشاد هذا؟ وماذا ينتظر من يقسو على طيوره الوليدة سوى أن تشرد بعيدا عن سمائه ملتمسة الأمان والدفء في عش آخر؟

يا سيدتي أطیعی أباك فيما لا يهدد سعادتك و أسرتك بالخطر ، وترفقي به حتى ولو قسا عليك طلبا لجوائز السماء، ولكن إلزمي زوجك في النهاية، سواء أقام أم هجر بيت أبيك، وحاولي إفهام أبيك بلطف أنك لست طرقا في حرب الإرادات المتعارضة بينه وبين زوجك، وإنما تقبلين بما يتوصلان إليه من نتائج مهما كانت، وليتفضل هو بإقناع زوجك بالاستمرار في الإقامة معه، إذا أراد ولسوف ترحبين بذلك إذا قبل زوجك به، أما إذا لم يرض - وهو غالبا ما سيحدث - فإنك مطالبة بطاعة زوجك ومصاحبته إلى حيث يقيم التزاما بأمر ربك، ورعاية لحق طفليك وزوجك عليك .

وسوف يعفيك هذا «المنهج» - ولو ظاهريا على الأقل - من الوقوف صراحة ضد إرادة أبيك، أما إذا أصر أبوك على تهديده لك بالمقاطعة، فلا تيأسي من محاولة استرضائه ، وتخفيف غضبه ولا تتوقفي عن زيارته والاهتمام بشئون بيته، بعد انتقالك إلى بيت زوجك، وظني أنه لن يصمد طويلا هذه المرة لمقاطعتك، ليس لأن مشاعره وأفكاره قد تغيرت، وإنما لحاجته الإنسانية إليك لرعايته في وحدته ، والاهتمام بشئون بيته، فإذا خالف بعد ذلك كل ما نعرفه عن الطبيعة البشرية ، وقاطعك بالفعل، وسد أبوابه في وجهك نهائيا ورفض حتى مساعدتك له واهتمامك بأمره، فماذا تملكين له؟ بل وماذا يملك أي إنسان لشخص قد قطع أذنيه بیدیه واحدة بعد أخرى؟ ثم تحدانا بعد ذلك أن يفقأ أيضا إحدى عينيه بإصبعه، وأقدم على ذلك وسط ذهولنا ووقف أمامنا ينزف مزهوا، بأنه قد هزمنا ونجح في التحدي ! 

 ·       نشرت في جريدة الأهرام "باب بريد الجمعة" عام 1994

شارك في إعداد النص / محمد عايدين

راجعها وأعدها للنشر / نيفين علي

 


Neveen Ali
Neveen Ali
كل ما تقدمه يعود إليك فاملأ كأسك اليوم بما تريد أن تشربه غداً
تعليقات