لقاء الغرباء .. رسالة من بريد الجمعة سنة 2000
في التراث الشعبي العربي كلمة تقول: لا تقع في حب
الغرباء فإنهم دوما علي رحيل. وتحذر هذه الحكمة من استسهال الارتباط العاطفي ومن
ثم الزواج من الغرباء الذين لا تضرب جذورهم في الأرض التي نقف عليها.. وقد لا تستقر
سفنهم في موانينا طويلا حتى لا نفاجأ ذات يوم بهم وقد استجابوا لنداء الرحيل..
ورفعوا مراسيهم من الماء وأبحروا بسفنهم بعيدا عنا مخلفين وراءهم اللوعة..
والندم والتبعات الجسام.
عبد الوهاب مطاوع
أنا سيدة نشأت
في أسرة بسيطة مكونة من 7 أفراد .. وكان أبي رحمة الله عليه رجلا فاضلا فأنشأني
على الاستقامة والتدين وألحقني في طفولتي بمدرسة دينية أنهيت سنواتها والتحقت
بعدها بمعهد أزهري.
وكنا
نقيم بمنزل يقوم صاحبه بتأجير إحدى شققه للعزاب من العرب والمصريين .. فكان أبي
على خلاف دائم مع صاحب البيت بسبب تأجير هذه الشقة للعزاب, وما ينتج عن ذلك من
بعض التصرفات غير الأخلاقية .. ولولا الظروف المادية وتعذر الحصول على مسكن بديل
بتكلفة محتملة لانتقل أبي بأسرته من هذا البيت إلى مكان آخر.
وذات
يوم خلت تلك الشقة من سكانها.. وشهدنا شابا
أفريقيا يقيم بها فازدادت مخاوف أبي من المشاكل المتوقعة بسبب هذا
الشاب الأجنبي, غير أن الأيام مضت بغير أن يلحظ أبي عليه أي تصرف مخجل كتصرفات
سابقيه في السكن بهذه الشقة, وعلى العكس من ذلك فلقد رآه حريصا على أداء الفروض
في أوقاتها بالمسجد وحريصا أيضا على صلاة الفجر, كما أنه يغض بصره خلال سيره في
الطريق فلا يتطلع إلى البنات والنساء ولا يقتحمهن بنظرات فاجرة كما كان يفعل
غيره, وشيئا فشيئا بدأ أبي يطمئن إلى أخلاقيات هذا الشاب الأسمر.. وراح يشيد
به وبالتزامه الديني والخلقي إلى أن كان عائدا ذات يوم إلى البيت فوجد هذا الشاب
واقفا أمام السلم وهو في حالة سيئة ولا يقوى على الصعود إلى شقته.. فأعانه أبي
على صعود السلم وأدخله شقته وطمأنه إلى أنه سوف يستدعي له طبيبا لعلاجه.. وتركه
في مسكنه ورجع بعد قليل مع أحد الأطباء الذي قام بإسعافه وكتب له العلاج ..
ورعاه أبي خلال فترة مرضه وأصبح صديقا له, وعرف عنه أنه يدرس بإحدى كليات الأزهر
وجاء من بلده الأفريقي ليتفقه في الدين ويصبح عالما فيه كأبيه الشيخ الكبير,
وراح أبي يتحدث عن أدب هذا الشاب وتدينه وكرم أخلاقه فلفت نظري إليه كفتاة وبدأت
أنشغل بالتفكير فيه, وحاولت بالفعل جذب انتباهه إلي, ولكن دون جدوى, فقد كان
الفتى متحفظا ولا يكاد يرفع عينيه في وجهي إذا التقيت به, وبعد فترة ليست قصيرة
فوجئت بأبي يبلغني بأن هذا الشاب يريد أن يرتبط بي .. ولم تسعني الفرحة حين عرفت
ذلك من أبي.. ولم أحاول إخفاء سعادتي بالخبر.. وشجعني على ذلك أنني وجدت أبي كذلك سعيدا
بهذه الرغبة ومتحمسا للاستجابة لها, وعرض أبي الأمر على الأسرة فاعترض عمي بحجة
أنه أجنبي, وسوف يعرضني زواجي منه إلى مشاكل عديدة في المستقبل, غير أن أبي
طمأنه إلى حسن أخلاق هذا الشاب وصدقه وتدينه.. وإلى أنه ينوي الاستقرار في مصر
نهائيا ومواصلة دراساته العليا ليصبح عالما من علماء الأزهر.
وتزوجت
هذا الشاب الأفريقي وعشت معه أسعد أيام عمري, ورزقت منه بولدين وعاملني زوجي
بلطف شديد واحترام كبير, واشترى شقة تمليك كتبها باسمي .. وعشنا حياة كريمة
بما كان يرسله له أبوه الشيخ الكبير من بلده, لينفق على حياته بمصر, لكن
السعادة لم تظل كثيرا للأسف فلقد مرض زوجي الحبيب بمرض خطير بعد عدة سنوات وانفق
الكثير على علاجه ولم تتحسن حالته للأسف, وإنما ازدادت تدهورا.. وأبلغني ذات
يوم انه قرر السفر إلى بلده لكي يأتي بمبلغ كبير من المال من أبيه ليواصل
علاجه.. وجاء موعد السفر, فاحتضن ولديه وانخرط في بكاء مرير وراح يوصيني بهما
بشدة فانخرطت أنا أيضا في البكاء واحتضنته وطمأنته على نفسه وولديه ودعوت له
بالعودة سالما من بلده لكي يربي ولديه.. وينشأ في رعايته, وسافر مودعا مني
بأحر الدعاء والأمنيات الطيبة.. فلم يمض على سفره سوى أيام وتلقيت من أبيه
اتصالا يبلغني فيه وفاة زوجي, ويعزيني فيه ويعرض علي الحضور إلى بلده مع أولادي
للعيش فيه في كفالته ورعايته.. وصدمت صدمة هائلة .. وبكيت حتى جفت دموعي.. وعرفت أن زوجي لم يسافر
في الحقيقة لكي يحضر مالا من أبيه للعلاج وإنما لكي يراه ويرى أمه قبل الرحيل وبعد
أن حدثه الأطباء عن خطورة حالته, ومن بين دموعي اعتذرت لوالد زوجي عن عدم
استطاعتي العيش خارج بلدي وتقبل الشيخ الطيب الموقف.. وتعهد بأن يرسل نفقات
الأبناء كل شهر.. ووفى بوعده وكان كريما معنا إلى أن توفاه الله بعد ابنه بعدة
سنوات, فانقطع موردي.. وتولى أبي الإنفاق على أسرتي الصغيرة إلى أن حانت ساعة
رحيله هو الآخر عن الدنيا, وشعرت بحزن الدنيا كلها عليه وقد كان سندي الوحيد في
الحياة بعد الله سبحانه وتعالى .. ولم أجد من بعده من يساعدني في تربية أبنائي
فاضطررت للخروج للعمل
لأول مرة في حياتي.
وسؤالي
لك الآن يا سيدي هو ماذا يفيد هذا القانون في أن يحصل أبناء الأم المصرية على
جنسيتها خاصة بعد وفاة أبيهم الأجنبي لكي تتيسر لهم سبل العمل والحياة في بلدهم
الذي لم يعرفوا غيره؟ أليس ذلك من حق هذه الأم.. ومن حق أبنائها.. أم ترى أنه
سيظل محكوما على من هن في نفس ظروفي أن يعانين هذه المعاناة المرة بسبب زواجهن ذات
يوم بعيد من غير أبناء بلدهن.
ولكاتبة هذه الرسالة أقول:
في
التراث الشعبي العربي كلمة تقول: لا تقع في حب الغرباء فإنهم دوما على رحيل ..
وتحذر هذه الحكمة من استسهال الارتباط العاطفي ومن ثم الزواج من الغرباء الذين لا
تضرب جذورهم في الأرض التي نقف عليها.. وقد لا تستقر سفنهم في موانينا طويلا حتى
لا نفاجأ ذات يوم بهم وقد استجابوا لنداء الرحيل.. ورفعوا مراسيهم من الماء
وأبحروا بسفنهم بعيدا عنا مخلفين وراءهم اللوعة.. والندم والتبعات الجسام.
وفي
المأثور الشعبي في الغرب حكمة شبيهة تقال في الظروف المماثلة هي: متعة الحب
لحظة.. شجن الحب يدوم إلى الأبد, وتهدف هذه الحكمة إلى التذكير بما قد يترتب على متعة الحب
العابرة من نتائج وتبعات لا تزول بعد انقضاء الحب او انطواء صفحته وإنما تدوم إلى
الأبد.. وتصاحبنا في الحياة بقية العمر كالأبناء الحيارى الذين يجيئون إلى
الدنيا ثمرة لزواج بين أبوين مختلفين دارا وتراثا وأعرافا وتقاليد.. وربما أيضا
في العقيدة الدينية فيدفعون ضريبة هذا الاختلاف فيما بعد ويواجهون متاعب جمة في
الحياة دون سند من قوانين بلادهم الأم التي لم يعرفوا غيرها بالرغم مما يحملون من
جنسيات مختلفة.
والخلاصة
هي أن من يتخذون مثل هذا القرار المصيري بالزواج من الغرباء لابد لهم أن يعوا جيدا
تبعات هذا الارتباط وهم يستجيبون لنداء العاطفة ويتخذون قرارهم هذا.
فمن
يدرك عواقب الأمور قبل الإقدام عليها يكون اقدر على مواجهتها حين تظهر في ارض
الواقع.. ممن أعمته العاطفة الهوجاء عن كل شيء فلم يتحسب للنتائج ولم ينشغل بغير
تحقيق رغابته الوقتية.. والمعرفة التامة النافية للجهالة.. على حد التعبير
القانوني الشائع.. تفقد الإنسان حجية الشكوى من ثقل التبعات او الزعم بعدم
إدراكه لها من البداية. وقد تؤدي إلى التأثير على قراره وترجيح الحذر على
التسرع.. والتروي أو النكوص على الاندفاع العاطفي والتهور.
والمشكلة
التي تثيرها رسالتك مشكلة حقيقية وجادة ويعاني منها عدد كبير بالفعل من الأبناء
الحيارى من ثمار هذا
الزواج المختلط ومن واجب الإنصاف أن نقول إنهم لا ذنب لهم في اختيارات آبائهم وأمهاتهم
لشركاء الحياة ولا في اختلاف قوانين الجنسية بين البلاد فيحرمون هم من حق المواطنة
الكاملة في بلادهم التي لم يعرفوا غيرها ويحصل نظراؤهم في معظم دول العالم المتقدم
على حقوق الجنسية تبعا لأمهاتهم ويواجهون الحياة بقدرات وإمكانات أفضل, ولقد أريقت
في هذه المشكلة انهار من أحبار الصحف.. وسمعنا عن قانون تم إعداده لمنح أبناء
الأمهات المصريات جنسية بلادهن لكنه لم يصدر بعد ونأمل في ان يرى النور في الدورة
المقبلة لمجلس الشعب.
أما
زوجك الراحل الذي أحسن عشرتك وعاملك بود واحترام كبيرين فلم تطل للأسف رحلته في
الحياة كثيرا فلقد ذكرني قراره بالعودة إلى بلده ليستقر في أرضه بعيدا عنكم
استعدادا للنهاية الوشيكة, بتقليد من تقاليد بعض قبائل الهنود الحمر حين كان من
يستشعر منهم قرب النهاية ينأي بنفسه عن الأهل والأحباء.. ويصعد إلى قمة جبل بعيد
فيرقد على الأرض ليستقبل النهاية المحتومة مستسلما لأقداره.. وعازفا عن أن يكبد
أعزاءه أحزان الرحيل. فليرحمه الله رحمة واسعة جزاء ما قدم إليك وما التزم به
خلال رحلة حياته القصيرة من قيم ومثاليات, ولنأمل خيرا في صدور القانون
الجديد, لكي يقدم الحل العادل لمشكلة أبنائك وأبناء من هن في مثل ظروفك.
· نشرت في جريدة الأهرام "باب بريد الجمعة" عام 2000
راجعها وأعدها للنشر / نيفين علي
برجاء عدم النسخ احتراما لمجهود فريق العمل في المدونة وكل من ينسخ يعرض صفحته للحذف بموجب حقوق النشر