اللغز .. رسالة من بريد الجمعة عام 1986
من أحد أسباب تأخرنا ..أننا نربط دائما بين (الترقي) في العمل والحياة ..
وبين الامتناع عن ممارسة أي عمل مثمر ومفيد سوى (الأمر والنهى) كأننا قادة عظام
من قواد التاريخ ، وكلما ترقى إنسان في عمله أو في حياته كان مظهر رقيه هو
الامتناع عن ممارسة العمل بيديه أو استعمال غيره ليقوم به.
عبد الوهاب مطاوع
أنا فتاة عمري 22 سنة .. طالبة بالسنة النهائية بإحدى الكليات وعلى قدر من الجمال
، ومن أسرة متوسطة وأوصف بالرزانة والهدوء وبحسن الخلق .
ومنذ
عامين تعرفت إلى شاب يكبرني بعامين ، يعمل في الحي الذي نعيش فيه ، اقتنعت بشخصيته
الممتازة وبأخلاقه الكريمة وطموحه وطيبته فضلا عن ذوقه ولطفه ، ومنذ ذلك الحين
أصبحت أنا محور حياته الذي يدور حوله .. يريد أن يحقق أحلامه ليرتبط بى ويوفر لي
كل ما أريد .. يريد أن يكمل دراسته لكي لا يسبب لي إحراجا مع أسرتي أو مع صديقاتي
أو زميلاتي ، يريد أن يحظى باحترام الجميع لكي أصبح فخورة به والحق أنى قد أصبحت
فخورة به وارتباطي به.
وكان طبيعيا أن نفكر في أن نحول هذا الارتباط
الخاص إلى ارتباط علني فتقدم لخطبتي ، فوقعت الكارثة التي قلبت حياتي حتى الآن ،
فلقد قوبل طلبه بالرفض التام من جميع أفراد الأسرة ، وفى نفس مقابلة التعارف وطلب
الخطوبة ، وليس هذا فقط بل قوبل الطلب بالإهانة أيضاً وبالكلمات الجارحة لخطيبي
وكأنه يطلب منه شيئاً مهينا وليس زواجا على سنة الله ورسوله .
وانصرف
خطيبي يتعثر في خجله وفى خطواته ، وبالرغم من ذلك فلم ينبس بكلمة واحدة يرد بها عن
نفسه هذه الإهانات بل تضرج وجهه خجلاً.
وتصبب العرق منه وهو يتصنع الابتسامة بصعوبة شديدة
، ويشكرهم على ( نصائحهم ) له ويطلب منهم فقط ألا ( يظلمونه) وألا يحكموا عليه
بالأحكام الجائرة ، وأن يعطوا أنفسهم فرصة للتفكير ، ورغم كل هذا الأدب .. فلم
يتفضل عليه أحد بكلمة واحدة تحفظ عليه ماء وجهه ، كأن يعده بالتفكير في الأمر حتى
ولو مجرد المحافظة على الشكل إلى أن يخرج من البيت .
هل تعلم لماذا حدث كل ذلك يا سيدي ؟
لأن خطيبى هذا ميكانيكي سيارات يمتلك عن أبيه ورشة
كبيرة لإصلاح السيارات في الحي الذي نقيم فيه ، ولانشغاله بالعمل فلم يواصل
الدراسة ولم تكن لديه النية لمواصلتها حتى عرفني وأحبني وأراد أن يتزوجني ، فواصل
الدراسة المنزلية التي كان قد أنقطع عنها وحصل على الإعدادية في العام الماضي فكيف
إذن يتجرأ على خطبتي وأنا الطالبة الجامعية .
ولا أخفى عليك يا سيدي أنني أستطيع أن أجبرهم على
الموافقة على الزواج ليس بعمل أي تصرف طائش – لا سمح الله – وإنما فقط بإصراري على
الزواج من هذا الشاب مهما كانت النتيجة ، لكني لا أتمنى ذلك ولا أريده لأني مرتبطة
جداً بأسرتي وأحب كل أفرادها وأحترمهم ، ولا أريد أن أخسر أسرتي بزواجي .. لكنى في
الوقت نفسه لا أريد أيضا أن أخسر سعادتي ومبادئي وأفكاري ، ولا أريد أن أخسر
إنسانا أنا واثقة تماماً أنى سأعيش معه حياة سعيدة كريمة .
إنهم لم يجدوا في خطيبي هذا أي عيب سوى أنه
ميكانيكي وأني جامعية ، ويرون أن هذا الفارق سيؤدى بزواجنا إلى الفشل لا محالة ..
فهل هذا صحيح؟ وهل الدرجة العلمية أو التقارب العلمي أهم في الزواج من التفاهم
والأخلاق الطيبة والحب والرضا والإقناع والاحترام المتبادل بين الزوجين ؟
إني أرجوك أن تساعدني فى حل هذا ( اللغز ) .. فأنا
لا أريد أن أخسر أسرتي .. ولا أريد أن أفقد خطيبي .. وأرجوك ألا تنصحني بأن ألجأ
لأحد الأقارب ليقنع أسرتي فنحن أسرة مستقلة لا يتدخل في أمورنا عم أو خال ، كما
أرجوك أيضاً ألا تقول لي أن خطيبي لو نفذ شروطهم سوف يتم الزواج .. لأنه لو نجح في
تنفيذها .. فسيخلقون له غيرها .. لأنهم ببساطة غير راضيين عن هذا الزواج ..
وشروطهم هذه لم توضح إلا للتعجيز فماذا تقول ؟
ولكاتبة هذه الرسالة أقول :
إنك يا صديقتي تثيرين سؤالاً صعباً الكلام نظرياً
فيه سهل لكن (التنفيذ) قد يستعصى على الكثيرين ، فنظرياً من السهل أن يلوم أي
إنسان أسرتك لأنها تقف في طريق سعادتك مع من تحبين وترين فيه غدك ومستقبلك .. لكنه
عمليا لابد أن يفكر الإنسان قليلا قبل أن يعطى موافقته بصفة عامة على مثل هذا
الزواج .. ليس لأن (البطل ) فيه (ميكانيكي) شريف يعمل بيديه .. والبطلة جامعية على
وشك التخرج .. وإنما لأن القصة كلها تجرى في مجال سني محدود يسمح بالتسرع والخطأ
وهو سن الثانية والعشرون لك والرابعة والعشرون بالنسبة له .
والأصل فى كل الأعمال أنها شريفة .. وقيمة الإنسان
وشرفه لا يحددهما نوع العمل الذى يمارسه بقدر ما يحددهما إخلاصه لهذا العمل وقيمه
الذى يتبعها فيه .. لذلك فلا اعتراض على خطيبك من هذه الناحية إطلاقا.. بل إنى لأعجب
إلى نظرة أسرتك المتخلفة إلى قيمة العمل فهم لا يقبلون به (عارقا) (عاملا) بيديه
محققا لنفسه وأسرته الحياة الكريمة و( يقبلون ) به ( تمبلا) يجلس على مكتب بلا عمل
ويعيش على عرق الآخرين وتعبهم وعلى استغلال عملائه لأنه سيضيف بالطبع أجر من يحل
محله على حساب المستهلك .
يريدونه (أفنديا) كأن مجتمعنا يشكو نقص الأفندية
أو كأنه يوفر لهم سبل الحياة الكريمة .
يعرفون شرف المظهر .. ولا يعرفون شرف العمل
والجوهر ، وهذا عجيب من أسرة مثقفة كأسرتك وإن لم يكن غريبا على مجتمعنا .. لأنه
بالتحديد أحد أسباب تأخرنا .. فنحن نربط دائما بين (الترقي) فى العمل والحياة ..
وبين الامتناع عن ممارسة أى عمل مثمر ومفيد سوى ( الأمر والنهى) كأننا قادة عظام
من قواد التاريخ ، وكلما ترقى إنسان فى عمله أو فى حياته كان مظهر رقيه هو
الامتناع عن ممارسة العمل بيديه أو استعمال غيره ليقوم به .. وهذا هو ما يترجمه
موقف أسرتك من عمل خطيبك أو أعجب منه هو موقفها من تعليمه .. إنني أؤمن دائماً
بأهمية التكافؤ الاجتماعي والثقافي بين الزوجين .. لكني من ناحية أخرى لا أرى معنى
لتمسك أسرتك بأن يتم خطيبك تعليمه الثانوي العام الذي لا يقدم ولا يؤخر .. ولا
يزيده خبره في مجال عمله .. لمجرد أن يحصل على (لقب) يتناسب مع تعليمك الجامعي ..
فهل نشكو مرة أخرى من نقص الأفندية الذين حشرت المواد الدراسية رءوسهم حشرا لكي
يتمسكوا بزيادة عددهم واحداً جديداً .
ثم لماذا كل هذا العناد .. و( الورشة ) جاهزة
والخطيب ناجح فى عمله وطموح فى توسيعه .
إن التقارب الثقافي بين الزوجين أمر يمكن تحقيقه
من أكثر من مصدر عدا المدرسة الثانوية والجامعة ، كالقراءة والمسرح والتليفزيون
والإذاعة والتذوق الثقافي للأشياء ، أما ما يصعب تعويضه حقاً فهو هذا الاقتناع
المتبادل بكل من الآخر ، وهذا الاحترام المتبادل بينكما وهذا التمسك الشديد من
جانب كل منكما بالآخر.
ولو أنصفت أسرتك لرحمته من (عذاب) استذكار مواد دراسية لن تفيده في حياته العملية كثيراً.. ولمنحته الاحترام والأمان والقبول ، واعترفت به عضواً منتجاً نافعاً من أفرادها وساندت طموحه للتوسع والتفوق فى مجال عمله .. فإنها بذلك تخدم الحياة والمجتمع ، كما تخدمك وترعاك وتساعدك على تحقيق أحلامك ، وإذا كان هناك من نصيحة أقدمها لك .. فهي عليك فقط بالتمهل قليلا في خطوات الزواج لكي تتعمق المشاعر .. وتتأكد حاجة كل منكما للآخر واقتناعه وفخره به .. وأؤيدك تماما فى عدم الزواج على غير رغبة الأهل ، ولست من أنصاره لأن الإنسان لا يحيا وحده فى الصحراء ، وإنما يعيش وسط بشر يتفاعل معهم ويؤثر فيهم ويتأثر بهم .. لذلك فإنى أدعوك إلى مواصلة الكفاح مع أسرتك للحصول على موافقتها الحقيقية .. ومباركة زواجك لكى تكتمل لكما السعادة الحقيقية بإذن الله ، مع تمنياتي لكما.
شارك في
إعداد النص / ياسمين عرابي
راجعها وأعدها للنشر / نيفين علي
برجاء عدم النسخ احتراما لمجهود فريق العمل في المدونة وكل من ينسخ يعرض صفحته للحذف بموجب حقوق النشر